اذا كان العام 1994 علامة بارزة في تاريخ جنوب افريقيا، فانه يكتسب أهمية اضافية بالنسبة الى الجالية الإسلامية في البلاد. فالى جانب فرحتهم بالتخلص من نظام التمييز العنصري الذي دفعوا نسبياً أكثر من غيرهم في ثمن مقاومته والعمل على تحطيمه، فان العام نفسه شهد ذكرى مرور 300 عام على وصول المسلمين الأوائل الى منطقة الكيب رأس الرجاء الصالح. في العام 1694 وصلت السفينة دي فوتبوغ وعلى ظهرها 49 مسلماً كانت السلطات الهولندية قررت اعادة نفيهم الى جنوب افريقيا لأن النفي الأول الى سيلان لم يمنعهم، كما كانت ترغب، من الاتصال بالمقاومة الإسلامية في اندونيسيا بلدهم الأصلي. وأبرز شخصيات الدفعة الأولى هذه كان "أبو الاسلام في جنوب افريقيا" الشيخ يوسف التاج الخلواتي المقاصدي، نسبة الى مقاصد في اندونيسيا حيث ولد ونشأ. وكان الشيخ يوسف، كما يشير اليه المسلمون اليوم، شيخاً للطريقة الخلواتية التي ساهمت تحت قيادته في محاربة المستعمر الهولندي في مملكة بانتام في الجزء الغربي من جزيرة جاوه. وبعد هزيمة المملكة ووقوع الشيخ في الأسر نفاه الهولنديون مع زوجتيه وأولاده اضافة الى أثني عشر اماما الى سيلان ثم الى رأس الرجاء الصالح الذي وقع الاختيار عليه كونه أبعد مستعمراتهم عن مكان مولد الشيخ ومنطقة نفوذه. وبعد ذلك توالت عمليات النفي ونقل العبيد المسلمين من جزر الهندالشرقية الى جنوب افريقيا ليعملوا في مزارع الهولنديين. ومن هؤلاء، اضافة الى من أسلم من السود، استطاع الشيخ ان يؤسس اللبنات الأولى للجالية الإسلامية التي نمت بعد ذلك ليزيد عددها عام 1842 على ثلث سكان المنطقة. أول السجناء السياسيين وصل المسلمون الى جنوب افريقيا سجناء أو عبيداً، وكان زعماؤهم بعد ذلك أول المعتقلين السياسيين الذين أودعوا السجن الشهير في جزيرة روبين التي أصبح الرئيس نيلسون مانديلا اشهر مساجينهميفلبئىء بسبب قيامهم بنشاطات دعوية. وبعد 300 سنة، يقف بعض احفادهم اليوم على قمة الهرم السياسي في البلاد، بل ان أحدهم عبدالله عمر وزير العدل الحالي، أصبح رئيساً للبلاد لمدة أربعة أيام، أثناء وجود الرئيس مانديلا ونائبه الأول خارج البلاد ومرض النائب الثاني في الفترة نفسها. ولولا التغيرات الدرامية والانتخابات التي أوصلت حزب المؤتمر الوطني الافريقي الى سدة الحكم لما تمكن المسلمون من احياء ذكرى وصول اجدادهم في احتفالات استمرت أكثر من أربعة أشهر انتهت في الثاني عشر من آب اغسطس الجاري. وبين مرحلتي الاستعباد والجلوس على كراسي الحكم، مرت الجالية الإسلامية بتطورات كبيرة، خصوصاً في ما يتعلق بحقوقها الدينية. فانشاء السجن في جزيرة روبين، حسب اجماع وجهاء الجالية والكتب التاريخية التي تتحدث عن الجزيرة، جاء أساساً لسجن المسلمين الذين كانوا يصرون على ممارسة شعائرهم الدينية، وهو أمر كانت السلطات الهولندية تمنعه وتعتبره جريمة يعاقب عليها القانون. وشملت الشعائر الممنوعة عملية دفن الموتى. الأمر الذي جعل المسلمين يضطرون إلى "سرقة" جثث موتاهم ليلاً من المقابر المسيحية لاعادة دفنها حسب مقتضيات الشريعة في اعالي الجبال. وزائر منطقة الكيب اليوم يجد في قمم الجبال المحيطة بها أضرحة اقيمت على قبور بعض الصالحين الذين دفنوا بهذه الطريقة، وهي شيدت بعد رفع الحظر عن ممارسة الشعائر الاسلامية. وأشهر هذه الأضرحة ضريح الامام عبدالله قاضي عبدالسلام الشهير بتوان غورو أي السيد الاستاذ الذي توفي عام 1807 عن عمر يناهز الخامسة والتسعين. وهو الذي بنى أول مسجد في جنوب افريقيا في العام 1794. وما زال المسلمون يحتفظون الى اليوم بنسخ من المصحف كتبها من ذاكرته وهرّبها من سجنه في جزيرة روبين ليفيد منها طلاب المدرسة التي أسسها في المسجد قبل سجنه. مسلم في زنزانة مانديلا وشهدت الستينات من هذا القرن استشهاد علم آخر من اعلام الاسلام في جنوب افريقيا هو الامام هارون الذي سجن وعذب أكثر من مرة، ومات أخيراً تحت التعذيب. وكانت التهمة الموجهة اليه هي نشر الاسلام وبث الروح الوطنية في أوساط السود. وما زال حزب مؤتمر عموم افريقيا يحيي ذكرى استشهاده كل عام. ومن المفارقات ان ابنه محمد هارون يدرّس اليوم الثقافة الاسلامية في جامعة غرب الكيب الحكومية. وطوال فترة مكوث نيلسون مانديلا في السجن كان يشاركه الزنزانة مسلم آخر يعتبر من رموز المؤتمر الوطني الافريقي هو احمد قطرادة. وعندما أصبح مانديلا رئيساً كافأه بجعله وزيراً للاصلاح وهي الوزارة المسؤولة عن شؤون السجون وبعد ذلك عينه مستشاراً خاصاً له. ولم يكن قطرادة السجين المسلم الوحيد في سجون التمييز العنصري. فالشيخ اسماعيل وادي عضو المؤتمر الافريقي وأحد نوابه في البرلمان الوطني يقول ان المسلمين كانوا يشكلون في الثمانينات أكثر من عشرة في المئة من السجناء السياسيين المناهضين للتمييز العنصري، في حين ان الجالية الإسلامية لا تشكل أكثر من اثنين في المئة من مجموع السكان. والشيخ اسماعيل مرتاح جداً إلى الوضع الجديد في البلاد ويعتقد بأن الحكومة الحالية "تقدّر دور المسلمين في النضال ضد النظام العنصري". واحد الأدلة التي يستشهد بها على ذلك هو تخصيصها احدى قاعات البرلمان كمصلى للنواب المسلمين الذي يزيد عددهم على 22 من أصل 400 نائب. وفي 14 من الجاري ُنكِّس العلم فوق مقر البرلمان في كيب تاون حداداً على موت النائبة المسلمة فيروزة آدم في حادث سيارة أثناء توجهها الى اجتماع لمسؤولي المؤتمر الافريقي في المدينة. فلاحون ومنفيون وتنقسم الجالية الإسلامية في جنوب افريقيا عموماً الى ثلاث فئات عرقية متمايزة، أكبرها عدداً وأقدمها وجوداً هي الفئة المتحدرة من أصول اندونيسية - ماليزية. وجاء افرادها الى البلاد قهراً، اما كعبيد للعمل في المزارع الهولندية وإما كمنفيين سياسيين، وكان من بين هؤلاء امراء وقادة مرموقون. وتتركز هذه الفئة في منطقة الكيب أساساً، ومعظم افرادها من اتباع المذهب الشافعي وهو المذهب الشائع في بلادها الأصلية. وهي على العموم فئة متوسطة الحال الى فقيرة ولها عاداتها وتقاليدها المتميزة ويغلب عليها الطابع الثوري كونها الأكثر معاناة من التمييز العنصري. ويزيد عددها على 300 ألف نسمة. أما الفئة الثانية فهي المتحدرة من أصول هندية. وهجرتها في الأساس هجرة اقتصادية حيث عمل الانكليز اثناء استعمارهم لأجزاء من جنوب افريقيا على نقل الهنود للعمل معهم في بعض الوظائف الادارية. وهو ما فعلوه في أكثر من مستعمرة افريقية أخرى. وتتركز هذه الجالية أساساً في مقاطعة الناتال، خصوصاً حول عاصمتها مدينة ديوبن حيث يوجد مقر مركز الدعوة الاسلامية الذي يديره الداعية الشيخ أحمد ديدات. ويشكل المسلمون حوالى ربع الجالية الهندية. أما البقية فهم من الهندوس الذين كان أشهرهم المهاتما غاندي مؤسس حزب المؤتمر الهندي في جنوب افريقيا قبل ان يعود الى تأسيسه في الهند نفسها. وبدأت صورة الجالية الهندية المسلمة تتشكل في الثمانينات من القرن الماضي. وعندما تأسس حزب المؤتمر الوطني الافريقي احجم الهنود المسلمون عن المشاركة فيه لأنه كان عليهم ان يشاركوا من خلال المؤتمر الهندي لمقاطعة الناتال. وعلى رغم ان احد الثلاثة الذين أسسوه كان مسلماً، الا انه غلب عليه الطابع الهندوسي وكان ذلك في مرحلة شهدت الهند نفسها مرحلة مخاض ولادة باكستان وما نجم قبل ذلك وبعده من حساسيات بين المسلمين والهندوس انتقلت الى الجالية الهندية في جنوب افريقيا. ولم يعد وجود هذه الفئة مقتصراً على مقاطعة الناتال، بل انتقلت مجموعات منها الى مقاطعة الترانسفال - جوهانسبورغ وبريتوريا وما حولها. ويغلب على أفراد هذه المجموعة اتباع المذهب الحنفي الذي يغلب على مسلمي الهندوباكستان. وما زالت توفد علماءها للدراسة في جامعات هذين البلدين. وهي فئة متوسطة الحال الى غنية، وبعض عائلاتها أثرى ثراءً كبيراً مكنه من احتضان نيلسون مانديلا بعد خروجه من السجن وساهم في تمويل حملته الانتخابية. وقد يصل عددها الى حوالى ربع مليون نسمة. الفئة الثالثة هي الأقل عدداً، وتتألف من السود والملونين، سواء الذين اعتنقوا الاسلام من سكان البلد الأصليين أو المسلمين الذين قدموا من افريقيا الوسطى، وهي عموماً،من الطبقة الفقيرة. بلد كل الأديان على الصعيد السياسي، فان الغالبية العظمى من المسلمين في جنوب افريقيا تعتبر ان حزب المؤتمر الوطني الافريقي هو الأكثر تعبيراً عن آمالها وطموحاتها السياسية. وانعكس هذا على القوائم الانتخابية إذ ان غالبية المسلمين الذين ترشحوا للانتخابات كانوا على قائمة حزب مانديلا. لذلك لم تكن مصادفة تعيين أربعة مسلمين في الحكومة المركزية اضافة الى تعيين مسلمين وزراء في بعض الحكومات المحلية. ويقول الشيخ نظيم رئيس مجلس القضاء الاسلامي في منطقة الكيب الذي يعد من أبرز الشخصيات الاسلامية في جنوب افريقيا: "حكومة المؤتمر الوطني هي حكومتنا. والرئيس الحالي مانديلا صديقي وكنت أزوره في السجن. الرئيس السابق دي كليرك كان يقول ان جنوب افريقيا بلد مسيحي، أما مانديلا فيقول ان هذا بلد كل الأديان ولكل شخص حرية التعبير حسب دينه". أما نائبه رئيس مجلس القضاء، الشيخ عبدالحميد خبير وهو من خريجي جامعة الأزهر، فيقول: "دفعنا الكثير بسبب دعمنا المؤتمر الوطني الافريقي". ويشير أحد اصدقاء الشيخ خبير إلى ان السلطات العنصرية لاحقته بسبب نشاطه الحزبي والوطني، وعلمت بطريقة ما انه موجود في احدى المقابر للصلاة على أحد المتوفين، فحاصرت الشرطة المقبرة للقبض عليه، ما دفع الموجودين الى تهريبه داخل التابوت الذي نقلوا فيه الميت الى المقبرة. وكانت هناك نسبة من المسلمين أيدت حزب مؤتمر عموم افريقيا الذي كان يدعو الى طرد كل البيض تحت شعار "طلقة لكل مستوطن". ومدير العلاقات الخارجية في الحزب مسلم احمد غورا ابراهيم. وقبل أيام أسلم السكرتير العام للحزب. وتردد الحزب كثيراً قبل دخول المفاوضات التي قادت الى الانتخابات النيابية التي شهدت موت نظام التمييز العنصري. الا ان تأييد المسلمين لم يقتصر على "الأحزاب السوداء". فقد كانت هناك نسبة ضئيلة منهم تؤيد الحزب الوطني الأبيض الذي حكم منذ استقلالها وحتى نيسان ابريل 1994. بل ان ثلاثة من النواب المسلمين في البرلمان نجحوا على قائمة الحزب الوطني في الانتخابات الأخيرة. وفي الأشهر الأخيرة من عمر النظام السابق عيّن الرئيس السابق دي كليرك أحد رجال الأعمال المسلمين مستشاراً له للشؤون العربية والاسلامية. لائحة الحقوق وشهدت الأسابيع التي سبقت الانتخابات البرلمانية ولادة حزبين مسلمين خاضا الانتخابات، هما: الحزب الافريقي المسلم برئاسة الدكتور امتياز سليمان، والحزب الاسلامي بقيادة السيد شريف محمد. وفي حين ان الأول خاض الانتخابات البرلمانية، فان الثاني حصر اهتمامه بانتخابات البرلمان المحلي لمقاطعة الكيب الغربي. ولم يتمكن أي من الحزبين من ايصال أي من مرشحيهما الى أي من البرلمانين نظراً الى حداثة وجودهما كحزبين سياسيين وإلى التأييد الكبير الذي يتمتع به حزب المؤتمر الوطني في أوساط المسلمين. وتوحد الحزبان المسلمان أخيراً. ويقول الدكتور امتياز سليمان ان حزبه "لا يسعى إلى إقامة دولة اسلامية في جنوب افريقيا بل الى تقديم القيم الاسلامية كمرجعية خلقية للسياسة. ونحن في الحزب نركز على نشر الاسلام في أوساط السود عن طريق النشاطات الاجتماعية والطبية. كما اننا نحرص على ان لا تفقد الأقلية المسلمة هويتها". وتواجه الجالية المسلمة في جنوب افريقيا اليوم مجموعة قضايا لعل أخطرها وأكثرها أهمية قانون الأحوال الشخصية الاسلامي خصوصاً "لائحة الحقوق" التي تعتبر أعلى مرجعية دستورية في الفترة الانتقالية التي تشهدها البلاد وتتناقض في بعض تفاصيلها مع بعض مقتضيات الشريعة الاسلامية. وتشهد أوساط الجالية هذه الأيام حوارات ونقاشات واسعة حول تقديم قانون الأحوال الشخصية الاسلامي وعرضه على الحكومة والبرلمان. وعلى رغم شدة الاختلاف في الآراء المتداولة الا ان ما يبقى ثابتاً هو ان الجالية التي صمدت 300 سنة في مواجهة أعتى أشكال أنظمة التمييز العنصري وأكثرها استبداداً ستجد مخرجاً يحفظ لها حقوقها وكيانها في ظل الحريات الموجودة في بلدها اليوم.