بعد أيام ترتفع الستارة في القاهرة عن الدورة السادسة ل "مهرجان المسرح التجريبي" الذي استحال موعداً ينتظره أهل الخشبة العرب، من موسم الى آخر. فهو يفتح أبوابه للاختلاف والابتكار، ويسهم في خلق المناخ الملائم لطرح الاسئلة والقيام باعادات النظر. قصدت "الوسط" الكاتب والاكاديمي فوزي فهمي رئيس المهرجان، للاطلاع على الجديد في سياسته، وللخوض في بعض القضايا التي تطرحها التظاهرة على الساحتين المصرية والعربية. قبل أن يكون رجل المناصب الادارية والمسؤوليات الثقافية والاكاديمية، يحتل الدكتور فوزي فهمي مكانه كناقد ومثقف صاحب حضور في الساحة الثقافية القاهرية، وكمبدع رافق مسيرة المسرح المصري، ولعب دوراً أساسياً في بعض محطاته. فبعد تخرجه عام 1962 من "المعهد العالي للفنون المسرحية"، تطور في سلك التدريس، حتى أصبح فهمي - وهو من طلاب الدكتور محمد مندور، أهدى أستاذه الراحل باكورة مؤلفاته "المفهوم التراجيدي والدراما الحديثة" 1965 - رئيساً لقسم الدراما والنقد، ثم عميداً للمعهد العالي للفنون المسرحية. لكن أستاذ الدراما في "المعهد العالي للفنون المسرحية" ناقد وكاتب مسرحي، برز منذ الستينات بكتاباته النظرية والابداعية، وقدم المسرح القومي مسرحيات عدة من تأليفه، بينها: "عودة الغائب" بطولة محمود يس وعايدة عبد العزيز، "الفارس والاسيرة" بطولة نور الشريف وفردوس عبد الحميد، و"لعبة السلطان" بطولة نور الشريف وعايدة عبد العزيز واخراج نبيل الالفي. والدكتور فوزي فهمي متعدد الاهتمامات علي الصعيدين الفني والثقافي: من عضويته في "المجلس الاعلى للثقافة" الى ترؤسه ل "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي". وبهذه الصفة التقته "الوسط" في القاهرة عشية انطلاق الدورة السادسة لهذه التظاهرة التي تستقطب فرقاً وتجارب بارزة من العالم أجمع، وتلعب دوراً صحياً في شحذ الحركة المسرحية المصرية بالحيوية ووضعها أمام التحدي. وفهمي الذي يرأس منذ 1989 أكاديمية الفنون معقل المعاهد الفنية المتخصصة في مصر، رافق هذه التظاهرة منذ انطلاقها في العقد الماضي. وهو اليوم متمسك أكثر من أي وقت مضى بسياسة تطوير "مهرجان القاهرة التجريبي"، وتأكيد دوره كحافز وأرضية تلاقح حضاري ووسيلة تواصل ابداعي "بين القارات". كما أنه ازداد اصراراً على ضرورة اعطاء الفرصة لكل التجارب على اختلافها "لأننا نؤمن بالتنوع والاختلاف"... فهذا المهرجان المسرحي أصبح في نظر رئيسه حاجة ماسة، تنعكس على النتاج الابداعي المصري. ما هي فلسفته اذاً، نقاط قوته، ومواطن ضعفه؟ هذا ما يحاول أن يجيب عنه هذا الحوار: ما هو جديد الدورة السادسة ل "مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي"؟ - يدور المهرجان، كما تعرف، حول محاور عدة. من العروض التي نحرص على تنوعها، الى فضاء النقاش النظري والبحث في قضايا ومسائل تطال فن المسرح في جوهره، عربياً وعالمياً... ومروراً بالمحطات الموازية، ولعل أبرزها احتفالات التكريم التي تسلط الضوء على رموز مصرية، عربية وعالمية لعبت دوراً أساسياً في تاريخ المسرح المعاصر. بالنسبة الى العروض المشاركة، لن نكشف عنها الا عشية الافتتاح، لأسباب تنظيمية أولاً، ولأن أمر بعض العروض المشاركة لم يحسم بعد. هناك مرحلة الاختيار وترشيح الدول المشاركة لاعمال تمثلها، وهناك مرحلة دراسة الملفات وطلبات المشاركة من قبل اللجنة التنفيذية للمهرجان، وهناك أخيراً صدور البرنامج الرسمي الذي يصدر قرار تشكيله عن وزير الثقافة. ويصدر المهرجان على هامش هذه الدورة 12 كتاباً مترجماً عن تيارات واتجاهات المسرح العالمي المعاصر في مختلف مجالاته: النقد، التأليف، الاخراج والتمثيل. أما على مستوى الضيوف البارزين، فنكرم هذه السنة مجموعة من المسرحيين الذين تركوا بصمة واضحة على تيار التجريب المسرحي، وفي طليعتهم المسرحي والكاتب الاسباني فرناندو أرابال الذي سيحضر الى القاهرة، وينشر المهرجان في المناسبة ثلاث ترجمات لمسرحيات من تأليفه لم يسبق نقلها الى العربية. ويشتمل البرنامج على سلسلة من المحاضرات عن اتجاهات التجريب في المسرح العالمي، اضافة طبعاً الى الندوة الفكرية الرئيسية، وموضوعها "التجريب المسرحي والمأثور الشعبي". مواجهة أعداء التجديد! هناك قضية مثارة حالياً حول المشاركة المصرية في فعاليات المهرجان، ويدور السجال حول مدى استعداد الفرق، وحول بعض المسارح والمؤسسات التي لم تبلغ بموضوع المهرجان... فما رأيك في هذا وردك عليه؟ - نحن لا نضع قيداً على الابداع، وانما نطرح فقط موضوعاً للندوة الرئيسية. وليس هناك اي ارتباط بين موضوع الندوة والعروض، اذ اننا نترك للمبدع حرية اختيار المادة التي يجري عليها التجريب. فالعروض ترتبط بمستوى وموقع الحركة المسرحية في المجتمع، وما وصل اليه هذا الفن من نضج وتساؤلات وقدرة على اثارة الاهتمام وصياغة الواقع المحيط. ويعكس كل عرض انجاز الفرقة ورؤيتها داخل اطار المهرجان. أما الندوة الرئيسية فتتناول قضايا التجريب كل عام من زاوية مختلفة. وتتطرق المناقشات الى قضية نحاول اضاءتها من خلال تجارب واجتهادات مجموعة من النقاد والاختصاصيين والمسرحيين العالميين المشاركين في الندوة. وهكذا فإن المهرجان تعلم من أخطاء الماضي فاستقر ووضحت معالمه. وأؤكد لك أن المشكلة التي أشرت اليها غير مطروحة: فجميع الفرق المصرية ستشارك. كي يتضح السؤال السابق: ما هو المستوى الذي بلغته التجارب المسرحية المصرية حتى الآن؟ كرجل مسرح وصاحب تجربة واسعة في هذا المضمار، ما هو تقويمك للمسألة، من ناحيتي الرؤية والابداع؟ - بكل موضوعية أعتبر أن "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" لعب دوراً حاسماً في اتجاه بلورة تجارب كثيرة وانضاجها. لقد كان احتياجاً فعلياً لتحديث الابداع المصري والعربي، بل وأيضاً كان المدخل الحقيقي لحضور مصر والعرب على الساحة المسرحية المعاصرة، وسط حالة الترهل الابداعية التي نعرف. فمن بوسعه تجاهل الدور الذي لعبته هذه التظاهرة العالمية؟ فتح المهرجان للشباب نافذة نادرة للمشاهدة والتأمل والدراسة، وتوافرت على الخشبات القاهرية عروض مسرحية من كل بلاد العالم على اختلافها وتنوعها. وهناك الندوات التي فتحت آفاقاً نظرية ومعرفية أساسية لدعم عملية الانبعاث والتطور التي نسعى اليها. فالمناقشات والمداخلات تشكل زاداً فكرياً يبقى بعد انتهاء المهرجان، فيستثير الخيال ويحفز الابداع. وكي أجيب عن سؤالك إن مجرد المتابعة البانورامية لإبداعات الشباب تثبت ان هناك طاقات قادرة على فهم وادراك روح العصر تريد أن تطرح رؤاها. وفي تصوري أن الشباب، مسرحيين ومتفرجين، استطاعوا ان يتمردوا على النص الذي لا يبالي بقضاياهم وحريتهم. ان حالة الانفتاح الجديدة التي ساهمنا في خلقها، جعلتهم قادرين على مواجهة أعداء التجديد، ومقارعة وتجاوز هؤلاء الذين لم يستطيعوا تجاوز مفاهيم وقضايا بالية عفى عنها الزمن، ولم تعد قادرة على مواكبة حاجاتنا وزمننا. كيف يمكن تفادي مشاكل الافتتاح والختام؟ وماذا عن المشاكل الاخرى؟ فبعض الدورات شهد اندلاع فضائح، اذ أثارت الكاتبة صافيناز كاظم مرة مسألة الاساءة الى بعض الرموز، وأثار نائب في مجلس الشعب مسألة إباحية عروض المهرجان... هل تعتقد أن هناك تدخلاً كافياً من قبل ادارة المهرجان، وهل تؤيد مثل هذا التدخل؟ - المسألة عندي ليست حف افتتاح وحفلة ختام، فالمهرجان ليس هذه ولا تلك. المهرجان مسافة ابداعية مختلفة ومغايرة على مدى عشرة ايام يسود فيها الخيال، ويحتل الابداع موقع الصدارة... كما تحتضن أرضية اللقاء الحضاري الخصبة عمليات الحوار والتأثير المزدوج الذي يثري ذواتنا بقدرة التغير والاكتساب من دون الاستلاب او الانحلال في الغير. إننا نرحب بكل التجارب لأننا نؤمن بالتنوع والاختلاف، لكننا لا نستنسخها ولا نقلدها! كما أن واقعنا الثقافي يقوم على ثوابت مرتبطة بمنظومة القيم التي نعتنقها عقيدة، وهذه الثوابت هي الحاكم الوجداني والمعيار الاساسي الذي يوجه ابداعاتنا. الاساءة الى التقاليد هل تعمل اللجنة المنظمة للمهرجان على تفادي الاصطدام بالمشاعر العامة، عندما تختار عروض المهرجان التجريبي؟ وكيف تحقق هذه الغاية من دون حصر أفق الابداع وتقييد الحرية والجرأة والابتكار؟ - إن المهرجان تقيمه وزارة الثقافة وهي احدى مؤسسات الدولة التي يخضع نشاطها للقوانين العامة المنظمة للحياة وتضمن المصلحة العامة... إننا نرحب بالجرأة والتجريب، ونشجع الابداع الفني بما ينضح به من نزعة "تحريضية"، لكننا لا نسمح بالاساءة الى مقدساتنا وتقاليدنا. واللجنة المنظمة للمهرجان تشاهد جميع أشرطة الفيديو التي ترسلها الفرق عن عروضها، ولا تسمح بأي اعتداء على مقدسات المجتمع. هل تعتقد ان المهرجان بعد هذه السنوات بحاجة الى اعادة نظر؟ وهل ترى انه لعب دوراً تأسيسياً من شأنه أن ينعكس على المفاهيم والتجارب، ويضخ دماً جديداً في عروق المسرح المصري؟ ما هي مكاسب هذه التظاهرة، وماذا يبقى منها؟ - كل عمل يدخل حيّز التنفيذ العملي يتعرض لتعديلات وتحولات في بنيته وطبيعته. التنظير تمرين مريح جداً، لكن لا بد أن نأخذ في الاعتبار معضلات التطبيق ومشاكله، وضرورة البحث عن الآلية التي تضمن تحقيق الاهداف النبيلة للمهرجان. عند ختام كل دورة نقوم بجردة حساب، ونراجع تجربتنا، ونعدل آلية العمل على ضوء التجربة. نطرح السؤال الصحيح ونبحث عن الاجابة الصحيحة. ولا شك ان المهرجان أسس في المسرح المصري مفهوماً جديداً وفتح آفاقاً للابداع. فهو وسيلة للتعرف الى تجارب العالم المعاصر في المسرح. اما مفهوم التجريب فهو يتنوع بين بلد وآخر... إننا نتأمل هذه المفاهيم المتعددة التي تصورها العروض المسرحية المختلفة والتي ننقلها خارج دولها، اننا نفحصها... نستوضحها... نستنطقها، ونشخصها لنسهم في تغييرها او تحويرها او اقلمتها واضعين في اعتبارنا نسبية الواقع وتعدد معطياته. وهذا ما تسميه أنت ضخّ دماء جديدة في عروق المسرح المصري. إن أبرز المكاسب تتمثل في هذه "الاستثارة" الفنية والخيالية التي تسمح لنا بالتفكير في حاضرنا مقارنة بماضينا، مستهدفين مستقبلنا. هكذا نقوي عزيمتنا ونصادر كل قوى الخداع التي تقلص التجربة الفنية في حدود القواعد، ونقوي الشحنة الانفعالية والاحساس، ونجدد انجازات الامس بالتجريب الذي لا يخضع الى سلطة فنية او نفوذ، باعتباره مغامرة... إن المكسب الاساسي من المهرجان هو، اذا شئنا الايجاز، حرية الفنان! هل يتوجه منظمو المهرجان الى المبدعين العرب لاحتضان تجاربهم المميزة؟ أم يترك خيار العروض المشاركة الى وزارات الثقافة في البلدان المعنية؟ كيف يتم استكمال البرمجة؟ نطرح السؤال في ظل ما أكده مراراً أكثر من مبدع ومثقف محترم من ان ادارات الثقافة في العواصم العربية لا تختار لتمثيلها بالضرورة التجارب الملائمة وتعرقل وصول بعض التجارب المهمة لاسباب ليس لها علاقة بالمسرح. - المهرجان يتلقّى طلبات المشاركة من الدول رسمياً، اذ ترسل الادارة المختصة في كل دولة الفرقة التي تراها معبرة عن مستوى التجريب لديها. لكن المهرجان يوجه في الوقت نفسه دعوات خاصة الى بعض الفرق نظراً للاهمية الاستثنائية التي تكتسيها تجارب هذه الفرق. فتح المهرجان أبوابه لهذا التقليد منذ الدورة الخامسة، ويواصل اعتماده في الدورة الحالية. وقد يكون من حق الفرق التي تمثل دولها رسمياً ان تشارك في المسابقة، لكن الفرق المدعوة تقدم عروضها خارج المسابقة. فالمهم هو تقديم عروض موازية، نرى ضرورة الاحتفاء بها والاطلاع على نشاطها.