سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" بين الاسئلة المعلقة والرهان الرابح : "هاملت" سويدي ، "ماكبث" مصري ، و "فاوست" بولوني ... في لعبة مرايا بلا ضفاف
مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي انعقد هذا العام في ظروف صعبة، وشهد اقبالاً مكثفاً على عروض وتجارب آتية من العالم أجمع. ولا شك أن هذه التظاهرة التي أختتمت دورتها الخامسة قبل أيام، ربحت رهانها على أكثر من صعيد. فعاماً بعد آخر يرسّخ هذا الموعد تقاليده، ويفتح القاهرة على الاسئلة والمغامرات البداعية، واضعاً أهل المسرح المصري والعربي على المحك. جالت "الوسط" على كواليس المهرجان واحتكت بمناخاته ورواده، لتعود ببعض التساؤلات والملاحظات التي ننشرها في ما يلي، تمهيداً لتناول أبرز الاعمال المقدمة في العدد المقبل. غريب أمر القاهرة، تسحرك بتناقضاتها. والداخل الى أدغال مهرجانها الدولي الاخير للمسرح التجريبي مفقود، أما الخارج منه فمفقود أيضاً. ذلك أنه سيخرج لا مفر مريضاً بأسئلة المدينة، منشغلاً بأزماتها المزمنة وأسئلتها المعلقة، ومسكوناً بدهشة اللقاء وهول الصدمة. هل قلت أزمة؟ عن أي أزمة تتكلم، والدنيا بألف خير! إسأل أي شخص تصادفه هنا، ترَ بعينك أن الاحوال لم تكن يوماً على ما يرام، كما هي الآن... أزمة. ومن قال أن المسرح المصري يعاني من أزمة؟ في الطائرة التي تقلك الى مدينة يوسف بك وهبه ونجيب الريحاني، يعقوب صنوع وتوفيق الحكيم، تفتح الصحيفة فاذا باعلانات العروض تحتل صفحة كاملة أو تكاد، متجاورة كبيوت الاحياء الشعبية المزدحمة، يغلب عليها طابع ال "كيتش" الذي لا يتقنه أحد كما هي الحال هنا. وجوه النجوم، وعبارات دعائية قصيرة، وعناوين كفيلة وحدها باستدراج الجماهير. أول ما يلفتك "حب في التخشيبة" سمير سيف الكوميديا الغنائية الضاحكة. إلا إذا كنت تفضل شريهان وفريد شوقي وشمس البارودي في "شارع محمد علي". لا زلت متردداً؟ ما رأيك إذاً بمسرحية "كنت فين يا علي" التي تحمل توقيع "مخرج جاد" هو عصام السيد؟ أو ب "سوق الحلاوة" من اخراج السيد راضي؟ وهذا الاخير من أركان "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي": قدم في التجريب إذاً، وأخرى في المسرح التجاري. إذا كنت لم تقتنع بعد، فعندي ما يغريك: تعالَ نشاهد "727" من بطولة محمد عبد العزيز وهالة صدقي، ومن اخراج... كرم مطاوع! أما زلت مصرّاً على خطابك المترف الذي يتشدق به المثقفون المغتربون عن الواقع، كلما عنّ لهم أن يتكلموا، ليشبعونا تنظيراً عن "الازمة"؟ إذا لم يبقَ لمهرجان المسرح التجريبي سوى فضل واحد، فهو دون شك أنه يسلط الضوء، دونما حياء أو مهادنة، على هذا الواقع الغارق في الرتابة والعقم. وعلى التناقضات التي تمزق الفن الراقي في مصر وتؤدي الى انحساره، مقوّضة أساسات وجود المسرح نفسها، عن طريق تكييف الجمهور وتشويه الذوق العام لعقود طويلة مقبلة، اذا لم يتم تدارك الخطر والرد عليه بحزم وجذرية: "لقد اختفت من مسارحنا التقاليد التي أرساها جورج أبيض، وخليل مطران، ويوسف وهبي، وتوفيق الحكيم، ونجيب الريحاني، وزكي طليمات، ومعهم عشرات آخرون من كبار المؤلفين والمخرجين والممثلين - يكتب الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في "الاهرام" في مناسبة المهرجان - وأصبحنا منذ سنوات عديدة عاجزين عن تقديم موسم مسرحي يلفت الانظار ...". خطر المسرح التجريبي ليس الذنب طبعاً ذنب المسرح التجاري بالمطلق. فلهذا القطاع ما لغيره من حق في الوجود والازدهار. المشكلة أن المسرح الآخر عاجز عن المواجهة، مجرد من الامكانات، خانه أهله في اللحظة الحاسمة التي تستدعي التجاوز والجرأة على المغامرة. فأغلب رواد ورموز السنوات الذهبية للمسرح المصري، ارتموا في أحضان هذه الدجاجة التي تبيض ذهباً. واذا بهم يضربون عرض الحائط بتاريخهم، مقامرين على تراثهم، وحافرين بأيديهم - من حيث يدرون أو لا يدرون - قبر المسرح العربي، بعد أن عانى ما عاناه للخروج من الهواية الى الاحتراف، ومن مرحلة التأسيس الى زمن الابتكار والتوسع والترسخ في التقاليد الثقافية والاجتماعية. وما يغيظ في الامر، أنهم هنا الآن. يعملون طوال العام على فبركة العروض الاستهلاكية الرخيصة التي لا معيار لها سوى شباك التذاكر، ثم تجدهم متحلقين حول طاولة الندوات في المهرجان. يتحدثون عن التجريب، يتوسعون في بسط نظرياتهم الخطيرة، ويراهنون على المستقبل! وهؤلاء يتمسكون بالمناصب ويحكمون الخناق على المؤسسات، فيوصدون الابواب بوجه الاجيال الجديدة التي بوسعها تقديم الحلول والبدائل. ولا أظن هذا الوضع الشائك يخفى على وزير الثقافة المصري فاروق حسني، ولا على مدير المهرجان فوزي فهمي الذي بسط في خطابه الافتتاحي المشكلة، مذكراً أن فتح القاهرة على التجارب الخصبة الآتية من العالم أجمع هو خير وسيلة لشحن المسرح وأهله وجمهوره في مصر بزخم جديد يساعد، أو يحرض، على تخطي الجدار المسدود. فقد جعل القيمون على "مهرجان المسرح التجريبي" من هذه المناسبة، أرضية مواجهة مفتوحة. بين الثقافة وأهل الظلامية والتخلف في المرتبة الاولى، وبين مسرح الفن والمسرح الرديء من جهة ثانية. وبهذا المعنى، فإن "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" الذي اختتمت دورته الخامسة قبل أيام، هو رهان رابح رغم الملاحظات التي لا بد أن يستدعيها. فقد جمع عشرات العروض الجيدة، أو المقبولة، من المجر واسبانيا وبريطانيا وفنزويلا والارجنتين وبولونيا والمانيا ورومانيا واليونان... سامحاً للجمهور أن يعيد الصلة بالمسرح الجيد القائم على الابداع والخلق، وعلى متعة التواصل عبر ذلك الحقل السحري الذي يفصل الخشبة عن القاعة، ليعيد دمجهما في لعبة مرايا بلا ضفاف. وعلى الصعيد العربي فقد جاء الموعد غنياً بالمفاجآت الممتعة: من سورية مع المخرج العراقي جواد الاسدي "تقاسيم على العنبر". من تونس - طبعاً! - مع فاضل الجعايبي وممثليه الاربعة "فاميليا". ومن مصر أخيراً مع حسن الجريتلي و"مسرح الورشة" "غزير الليل". وسلّط المهرجان الضوء على تجارب أخرى تستحق الاهتمام: مونودراما فلسطينية "الزاروب" تأليف وتمثيل ساميا بكري من عكا، مسرحية لوركا "بيت برناردا ألبا" من المغرب مشروع تخرج لطالبات من "المعهد العالي للفنون المسرحية"، مسرحية "ديك البحر" السعودية تأليف واخراج راشد الشمراني... أما العروض المصرية، فانها جاءت متفاوتة المستوى، وربما كان السبب الاول غياب الامكانات المادية والفنية والصرامة في التوجيه، والوقت الكافي للانتاج. لا بد في هذا السياق من الاشارة الى تجربة "مسرح الهناجر" المميزة، وهي مؤسسة قائمة على التجديد، مفتوحة أمام الطاقات الشابة تديرها امرأة ذات سعة أفق، ومواكبة للمسرح العالمي، هي هدى وصفي. أما ندوات المهرجان. فاستحالت برج بابل، يضم عدداً هائلاً من الباحثين والمبدعين، مما أعاق امكانية الحوار الفعلي. نوقشت فيها مسألة "التجريب على مادة كلاسيكية"، انطلاقاً من محاور القطيعة مع الماضي، استكشاف التراث، تجارب الشكليين، صدمة التلقي الجماهيري، وأزمة المناهج النقدية. كما صدر عن التظاهرة مجموعة من النصوص والمراجع النظرية المترجمة التي تسد نقصاً فادحاً في هذا المجال، وتعيد الى القاهرة بعض دورها كعاصمة للترجمة والنشر في العالم العربي. من هذه الاصدارات نشير الى مسرحية لإدوارد بوند "بنجو"، كتاب لجان تارديو عن "مسرح الغرفة"، مسرحيتين لفاسبندر "إفيجينيا"، "أجاكس"، مسرحيتين لهاينر مولر "هاملت ماشين" و"هرقليس 5"، كتاب عن منهج غروتوفسكي ومسرحه ترجمة سناء عبد الفتاح... وكرّم المهرجان عدداً من المسرحيين الاجانب والعرب، بينهم الفرنسي آرمان غاتي، اللبناني يعقوب الشدراوي، السوري رياض عصمت، التونسي عز الدين قنون، المصري جلال الشرقاوي، والمصري الراحل عبد الله غيث. ولعل الجمهور القاهري وجد في مسرحيات ك "هاملت" السويد، "حلم ليلة صيف" اسبانيا، "الفرس" اليونان، "أنتيغونا" ألمانيا، بير جينت الارجنتين، "فاوست" كالديرون... مادة خصبة للنقاش وللبحث عن تطبيقات ونماذج لمحور "التجريب انطلاقاً من مادة كلاسيكية". الا أن "مهرجان المسرح التجريبي" بات اليوم أحوج ما يكون الى مؤسسة ثابتة، تعمل بنفس طويل على امتداد العام، ترعى انتاج العروض المصرية المغايرة، وتبحث عن النوعية على حساب الكمية. التجريب قبل التأسيس؟ فمعيار اختيار العروض ينبغي أن يقوم على أساس الجودة والابتكار فقط، لا على أساس التبادل الرسمي بين الحكومات والمؤسسات والدول: أيعقل أن تمثل لبنان مسرحية هاوية هي "مريض الوهم" لموليير كما اقتبسها وسطّحها ايلي لحود، وفي بيروت مسرحية تجريبية رائدة لشكيب خوري هي "أرانب وقديسون"؟ كيف تم اختيار عرض هاو ومرتجل آخر هو "ماكبث زيرو" اخراج صالح سعد لتمثيل مصر، بينما كان "مسرح الورشة" فرغ من رحلة بحث واعداد استمرت سنتين لعرضه المميز "غزير الليل"؟ ثم ما حكاية هذه المسابقة التي تتبارى فيها عروض آتية من دول عريقة في فن المسرح، تتوافر لمبدعيها كل الشروط المادية والتقنية والفنية، مع عروض أخرى من أقطار عربية يعود عهدها بالخشبة الى عقود بل والى سنوات أحياناً، ويتم اعدادها في ظروف ابداعية وانتاجية صعبة جداً في أحسن الحالات؟... يبقى أن "مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي" يستمد قيمته من الاشكالية الملازمة لهويته نفسها ولطبيعة ومعنى وجوده. فهل نتحدث عن التجريب قبل التأسيس، وعن الاختبار قبل ايجاد حركة مسرحية متجذرة في تربتها، لها تقاليدها وتاريخها؟ ولمَ لا؟ الطرق الملتوية هي الاقصر أحياناً الى الهدف. شرط أن تكون مدروسة بعناية، قادرة على تحديد الوجهة، وتطويق الصعاب والتحايل عليها. فالتطور لم يعد خطياً، والتجارب الفنية باتت - أياً كان منحاها - خلاصة تاريخ طويل يختزن بين طياته كل التناقضات والمناحي والعصور. وانطلاقاً من هذا المبدأ، بوسعنا أن نبحث عن العلاقة بين مسرحية وليد عوني الراقصة "سقوط إيكاروس"، ومسرحية "فاوست" البولونية ومونودراما "الزاروب" الفلسطينية. أو أن نرسم - في محاولة لتلمس الوضع الراهن للمسرح العربي على ضوء المهرجان - مثلثاً متساوي الاطلاع، يربط بين عروض جواد الاسدي وحسن الجريتلي والفاضل الجعايبي. وكل هذه العروض، لنا عودة نقدية لها في العدد المقبل...