إنتهى موسم "المونديال" والحمد لله. ولكننا لأسابيع عشنا تحت الضغط. في التلفزيون كرة وكرات... في "الدش" كرة وكرات... في الصحف كرة وكرات... في المقهى أحاديث السياسة والاسعار والضرائب - وحتى أحاديث اليمن - أخلت الساحة لأحاديث الكرة وكأس العالم، وللاربعين مليار دولار التي قيل انها ستكون حصيلة مباريات كأس العالم... وتخيل معي كم ستكون النفقات؟! نحن في موسم الكرة. وان كنت مثلي من غير هواة الكرة، ومن غير العارفين باسرارالكرة، فستتعلم في موسم الكرة علوماً جديدة ودروساً مفيدة. اول هذه الفوائد الكروية ان ما كنا نلعبه في الثانويات وما كان يلعبه اللاعبون في عهد شبابنا كان مجرد فنون لكرة محلية.. ولكن ما نشاهده اليوم على شاشات التلفزيون هو فنون الكرة العالمية او الكونية او الدولية.. سمِّها ما شئت. في كرتنا المحلية كنا نعرف في باب المهارات ترقيص الخصم، وفتل الخصم، ومحاورته وتنطيق الكرة والزوغان .. وارقى الفنون هو فن "المباصية"، اي تمرير الكرة الى زميل. وفي الكرة الدولية اصبحنا نعرف في باب المهارات الاستراتيجية والتكتيك والخطة، الهجوم الخاطف والهجوم المتدرج، والضغط من الجانبين والرمي البعيد والرمي القصير والهجوم الزائف بقصد معرفة خطة دفاع الخصم. ومن اجل هذا الغرض وتحقيق هذه المهارات لا يكتمل التدريب في الميدان، الا بدراسة مباريات الخصم قبل اللقاء به على التلفزيون، وتجريد الصورة على الكومبيوتر بحيث تقتصر على مجرد نقطة تمثل الكرة وخطوط تجسّد حركة اللاعبين. هكذا يتم فحص سياق المباراة، ودراسة خطط الخصم وأساليبه. وفي الكرة العالمية، عرفنا "الكوتش" أي المدرب الذي يبلغ مرتبه مليون دولار في السنة، وهو ذلك الرجل العجيب الذي يقود الفريق كما في الحرب بعقلية الماريشال، والقادر على ابداع خطط استراتيجية وخطط بديلة من كل "ماتش" مباراة مفاجئاً الخصوم من حيث لا يتوقعون... فرأسه مليء بالخطط وجعبته لا تغنى من الحيل! كذلك عرفنا في الكرة العالمية سوق اللاعبين، وفهمنا بعد جهد ماذا يعني شراء اللاعب بملايين الدولارات أو بيع اللاعب بملايين الدولارات... ففي الدنيا بورصة للاعبي الكرة، وكل لاعب مهم له سعر معروف يرتفع أو ينخفض بعدد الاهداف التي أحرزها أو اخطأها، ولك أن تعجب معي من احاديث الملايين والمليارات... لأننا، ونحن شباب، كنا نلعب كرة القدم في المدرسة او خارج المدرسة، كنا نحبها ونهواها. لا لم نكن هواة، لأن الكرة لم يكن لها محترفون، فكيف نجد من يصفنا ب "الهواة"؟ وكنا نلعب امام عشرات او مئات المشاهدين والمشجعين في النادي الأولمبي أو الاتحاد في الاسكندرية، أو في ملعب الجامعة في محرم بك. وكانت المباريات المهّمة بين الاندية الكبرى تجري في "إستاد" الاسكندرية ويشاهدها في أحسن الظروف بضعة آلاف من المتفرجين. ولم يكن أحد من عشاق الكرة يتوقع أن يرى ذلك ال "إستاد" العملاق الذي شاهدناه في شيكاغو او نيويورك، والذي يتسع لمئة ألف متفرّج أو أكثر... او كان يحلم ان مباراة يمكن ان يشاهدها اثناء اللعب ملياران ونصف مليار من البشر بفضل التكنولوجيا الحديثة، ومحطات القنوات الفضائية. ولأن التكنولوجيا أتاحت للكرة امكانية اجتماع ملايين البشر لمشاهدة المباراة الواحدة، فقد صار من السهل تصوّر المليون دولار مرتباً سنوياً، وملايين الدولارات ثمن اللاعبين. تخلصت الكرة من الهواة ومن الفقر، واصبحت صناعة كبرى تنفق عن سعة، وتدر الارباح الوفيرة. أصبحت نوادي الكرة ايضا في العالم "بيزنس" كبير جداً، يمتلكها فرد او شركة مساهمة مثل الشركات القومية. ثم تخطت هذه النوادي الحدود القومية، ليصبح بعضها شركات متعددة الجنسية. "وما فيش حدّ أحسن من حد"! أصبحت فرق الكرة مثل فرق الموسيقى والباليه والاستعراض، لها عشّاقها من الجمهور ولها شهرة عالمية وأسعارها أغلى من أسعار الفرق المنافسة. كما أصبح لكل فرقة نجوم طبقت شهرتهم الآفاق، ولهم عشاق في كل أنحاء العالم. ثم تجاوزت فرق الكرة نجاح الفرق الفنية، وأصبحت جماهيرها تحصى بملايين البشر. فهل كان احدنا في الصبا يتصوّر هذا المشهد الهائل؟ وحين كنا نسمع من الاهل زجراً اذا طال لعبنا في الشارع، والامتحانات على الابواب... كنا عادة نسمعهم يقولون: "كفى لعباً، ذاكروا دروسكم وانتبهوا الى مستقبلكم ومصلحتكم". وكنا نصدق ونسرع الى البيوت نفتح الكراريس ونذاكر. فما وقع كلمات الزجر على صبية اليوم وتلاميذ اليوم؟ هل يصدقون جميعاً أن مستقبلهم ومصلحتهم مرهونة بالكراريس والمذاكرة، وان لعب الكرة في الشارع او في ملعب المدرسة هو مجرد لهو وشقاوة ومضيعة للوقت؟ أتصور ان اطفال وصبية اليوم يلعبون الكرة وهم ينظرون الى اللعبة من وجهة نظر أخرى. ولما لا؟ فأول مرتّب يتقاضاه الطبيب اليوم، يتراوح بين مئة دولار في بعض البلاد وبضع مئات الدولارات في الغرب. ولكنك تستطيع، اذا اهتممت بلياقتك ومهاراتك "الكروية"، ان تجعل ثمنك يصل، مثل مارادونا قبل أن تودي به نار الفضيحة، الى ثمانية ملايين دولار، وأنت في الثلاثين. فهل تتصور ان مثل هذا الحلم لايراود طلبة المدارس والجامعات، فضلا عن ناقصي التعليم أو كارهيه من الصبية والشباب؟ أصبح لعب كرة القدم أغلى مهنة، كما انه مهنة مريحة وفترة ممارستها قصيرة. حيث ينبغي أن يعتزل اللاعب في ثلاثينات العمر بفقدانه عنفوان الشباب. ولكن ماذا يهم؟... ان التقاعد الطويل في رحاب الثراء بالنسبة الى اللاعب الناجح، هوأيضاً ربما من جوائز هذه المهنة السحرية التي تميزت فجأة في اواخر القرن العشرين، لتصبح مهنة بعض أوفر الناس في الدنيا حظاً. * كاتب مسرحي مصري