عن "منشورات الموجة" في الرباط، صدرت أخيراً رواية عبدالقادر الشاوي "باب تازة"، وهي الثالثة لهذا الكاتب المغربي بعد "كان واخواتها" 1986 و"دليل العنفوان" 1989. هنا قراءة نقدية سريعة لنص مسكون بالخراب والصمت، يعيد طرح سؤال جوهري حول جدوى الكتابة. عالم مسكون بالصمت، مسيّج بالرقابة الذاتية، وخراب يتغلغل في كل شيء... ذلك هو الفضاء الذي ينسج ضمنه عبدالقادر الشاوي رؤيته. لكنه أيضاً عالم تتبلور فيه المخيلة التي تحتمي بالكتابة: إن الخطوط الحمراء لم تُمحَ بعد، لكن التخييل بامكانه أن يجترح عبوره الخاص نحو المعنى. ومع روايته الجديدة "باب تازة" "منشورات الموجة"، الرباط، يمضي الكاتب المغربي في صقل تجربة أدبية مميزة بدأها مع "كان واخواتها" 1986 وتواصلت مع "دليل العنفوان" 1989. فهو هنا يوقّع رواية عن الكتابة، عن مقاومة ليل الذاكرة وتحدي التاريخ الذي يتسارع نحو النسيان. وباب تازة، كما هو معروف، مدينة مغربية تحولت هنا الى مجاز للخراب: مدينة صغيرة تقع في قلب ناحية كتامة التي ازدهرت فيها زراعة الحشيش بعد عملية التهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي التي عرفتها المنطقة منذ سنوات الاستقلال الأولى والى الآن. يلجأ الكاتب في لغة سرده الى ضمير المتكلم، وتتألف روايته من خمسة فصول و"بلوك نوت" ملاحظات وملحق. ومع أن القصة تدور حول التحقيق في أسباب الوفاة "الطبيعية" لمحمد المكوتي، وما أعقبها من خروج ابنه المفضل من السجن بعد اثنتي عشرة سنة من الاعتقال السياسي هل تفيد الاشارة الى أن الكاتب نفسه عرف تجربة الاعتقال؟، إلا أن دلالات الرواية تتجاوز هاتين الحادثتين لتربط عن طريق السرد بين الراوي عبدالله المتوكل، ومشاكله المهنية واحباطاته، وبين مدينة باب تازة وانهيارها الذي لا رجعة فيه. تبدأ الرواية بمواجهة الراوي لمعضلة الكتابة، وللمشاكل السردية التي تعترض تكوّن الرواية خاصة في ما يتصل بالعلاقة بين الكتابة والراهن، وبالمسافة بين الواقع والمتخيل. فعبدالله المتوكل صحافي، اقترح عليه مديره الذهاب الى باب تازة للتحقيق في وفاة محمد المكوتي الذي سبق للصحيفة أن أعلنت نعيه. وما أن باشر الصحافي تحقيقه الميداني في تلك البلدة المغربية ، حتى تسلم اشعاراً من مديره يحثه فيه على الاسراع في التوجه الى مدينة أخرى هي تطوان، حيث اندلعت أحداث شغب وتظاهرات نحن في العام 1984 جذبت اليها الانظار، جاعلة من وفاة المناضل القديم وخروج ابنه من المعتقل مجرد حادثتين عابرتين. غير أن الراوي ينشدّ الى مادة تحقيقه بشكل آسر. أما مجريات الواقع المتسارعة التي يمحو بعضها البعض الآخر تبعاً لترتيبها الزمني، فلا يتابعها كمجرد أحداث صحافية وانما كشبكة من الدلالات العميقة يتداخل فيها المصير الرمزي لمدينة باب تازة من خلال شخصية المكوتي، مع وضع الراوي كصحافي وكاتب في متاهة الراهن الذي فقد بوصلته. وتبلغ أزمة الراوي ذروتها عندما يلاحظ أن تحقيقه، رغم لغته المعتدلة، لم يحظَ بالنشر، الأمر الذي يدفعه الى أزمة كيانية واعادة نظر عميقة. هكذا يطرح على نفسه سؤال كبير يتعلق بمصداقيته، بمعنى مساره وحياته وبجدوى عمله في الصحافة، ما دام لا يتيح له فرصة تلبية أهدافه وتحقيق ذاته، ولا يوفر له امكانية الانسجام مع رؤيته الخاصة للعالم. يتشكل السياق الزمني لرواية "باب تازة" من تقاطع زمنين هما زمن السرد وزمن الحكاية. وهذا التقاطع يتعمق خلاله احساس الراوي بضرورة وضع حد للصمت الذي استمر سبع سنوات، وتحويل معطيات التحقيق الذي لم ينشر الى رواية تستوعبه ضمن مجرياتها. ولا بد من الاشارة هنا الى أن زمن الكتابة يمتد على بضع سنوات، من 1991 الى الأشهر الأخيرة من سنة 1993، فيما ينحصر زمن الحكاية في أشهر قليلة: من مطلع كانون الثاني يناير 1984 الى أواخر أيار مايو من السنة نفسها. ليست رواية "باب تازة"، بمعنى آخر، رواية تسجيلية بحتة يقتصر مشروعها على رصد بعض الأحداث المهمة من الامس القريب، بل أنها أساساً رواية عن فن الرواية، تسائل الكتابة وتستقصي امكاناتها واحتمالاتها، كوسيلة لمقاومة الصمت. في روايته الجديدة، يطرح عبدالقادر الشاوي على نفسه رهاناً أدبياً جريئاً: القيام بمعالجة ضمنية للتاريخ الراهن، انطلاقاً من التعامل مع تقنيات التلميح والمواربة والمحاذاة كقيم بلاغية، تجعل من الظاهر والجلي غباراً غامقاً يثيره عبور عرضي للموت فوق كل شيء. إن تركيب المادة المركزية للرواية يستمد من فسيفساء الغياب نموذجه الشكلي، ويضع "المسكوت عنه" في موقع الصدارة الذي يعطي للكتابة جدارتها وحضورها.