يبدأ الحديث عن التجريب في الرواية الجزائرية، مع عبدالحميد بن هدوقة في "ريح الجنوب" 1971 و"نهاية الأمس" 1975 و"باب الصبح" 1980، حيث جرب الكاتب استثمار الحوار للتعبير عن المسافة بين الجيل الشاب وجيل الشيوخ من رجال الدين، وكذلك في التعبير عن الطارئ في أمر المرأة. أما خطوة بن هدوقة التالية، فلعلها الأهم، إذ جرب في رواية "الجازية والدرويش" 1983 استثمار الأسطرة والمخيلة الشعبية في بناء يسعى الى مغادرة خطية البناء الروائي التقليدي. هكذا استحضر من التراث السردي الشعبي صدى الجازية في تغريبة بني هلال، وعجن الجازية الروائية من الفتنة نفسها ومن الذكاء والحزم والغموض والزئبقية، وأطلقها في فضاء "قرية السبعة" بين عشاقها، عبر قصتين وزمنين يهندسهما التناوب في ثمانية فصول: أربعة منها للجبايلي السجين الذي قتل الطالب المتطوع، وأربعة للحياة اليومية في "قرية السبعة"، وكل ذلك حول محور الجازية. وتتواتر في الرواية الجزائرية محاولات مماثلة شتى، كما في روايتي محمد العالي عرعار "البحث عن الوجه الآخر" 1981 و"زمن القلب" 1986 حيث جرب استثمار الحلم، مما لوّن اللغة وخلخل المنطق التقليدي الصارم في لحظات محدودة من الروايتين. وقد ساعد على ذلك في الرواية الأولى الوشاح الصوفي بين الراوي - بضمير المتكلم - وصاحبة اليد البيضاء، كما ساعد عليه التخييل في الرواية الثانية. بمثل هذا التواضع في تلوين وتطعيم الإهاب الروائي التقليدي جرب أيضاً عبدالملك مرتاض استثمار ضمير المخاطب في رواية "صوت الكهف" 1986 وجرب مرزاق بقطاش في روايته "عزوز الكابران" 1989 استثمار تقنية التجريد أو اللاتعيين، حيث يبقى المكان والبطل - معلم القرية - بلا اسم ولا تاريخ. على نحو مختلف يضاهي ما بلغه بن هدوقة في "الجازية والدرويش"، تأتي رواية الحبيب السائح "زمن النمرود" 1985، إذ جربت استثمار التذكير والتداعي والحلم، وتطعيم الفصحى بالدارجة، والتناص مع الأغنية والمثل الشعبي، والانتقال بين الفضاءات، مما انزاح بالرواية عن النسب التقليدي الى مدى آخر. فتقطّع السرد وتلاعبت أزمنة الثورة على الاستعمار وما طرأ في سبعينات القرن الماضي بعد الاستقلال، حيث تطلق الرواية نقديتها في العالم الجديد: عالم الحلاليف وبني كليون، في مقابل من خيبهم الاستقلال من ذرية النمرود أو شياطين ابن باديس. في المقابل، ومنذ روايته الأولى "اللاز" 1972 كان الطاهر وطار قد جرب تكسير استقامة الزمن، معتمداً فعل التذكر والاسترجاع. فالرواية تبدأ باسترجاع الشيخ الربيع للماضي، ثم تمضي من نقد تاريخ جبهة التحرير الجزائرية الى المغيّب من هذا التاريخ، فتفسح لكل شخصية فصلاً أو أكثر، كي تروي حدثاً أو جزءاً من حدث، مكملة ما سبقت اليه شخصية أخرى، أو تاركة لشخصية أخرى أن تكمل، مما يعدد زوايا ووجهات النظر. ولئن تلامحت في "اللاز" كما ستتلامح في أغلب روايات الطاهر وطار، صفات تقليدية، فقد بدأ منذ "اللاز" يجرب تقنيات الحداثة الروائية المختلفة. وسيتابع الكاتب ذلك في الجزء الثاني من روايته الأولى "العشق والموت في الزمن الحراشي" 1980 وهو يرسم مآل الثورة بعد الاستقلال. ولقد حضر اللاز في هذا الجزء، وجرّب الكاتب حضوره هو نفسه كشخصية روائية. وكان قد جرب هذه التقنية من قبل، في روايته "عرس بغل" 1978، وحيث جرب أيضاً استثمار التراث السردي عبر شخصية الحاج كيان، واستثمار الفانتازيا الصوفية عبر زيارات الحاج كيان للمقبرة، وملاعبة الضمائر عبر تقلب الحاج كيان، ليس فقط في ماخور العنابية والهزيين والوهرانية وزمردة وحياة النفوس... بل في ماخور الحياة خارج ذلك الماخور. أما رواية وطار الثانية "الزلزال" 1974 فلعلها المجلى الأكبر لتجريبيته. فإذا كنا - من جديد - سنقع على التقليدي في البطل الروائي عبدالحميد بو الأرواح وفي النسق الهرمي، فإن لمعمارية الرواية شأناً آخر، إذ جرب الكاتب بناء الرواية على هيئة المدينة: قسنطينة، فالفضاء يشكل الرواية في سبعة فصول تتعنون بأسماء جسور المدينة السبعة. فضلاً عن الصخرة وعن الوادي الذي يقسم المدينة. وستستأثر عناصر بعينها في روايات الكاتب التالية، وسيتفاوت فعلها. هكذا تجرب رواية "الحوات والقصر" 1980 تجريد الفضاء، ليغدو سلطنة وغابة للوعول ووادياً للأبكار وسبع قرى بمسميات تليق بالغرائبي والعجائبي الذي سيجرب وطار استثماره من بين عناصر التراث السردي الشعبي والأدب الديني الشعبي، فتتوالد الحكايات وتتفجر المخيلة. وفي هذه الرواية يجرب الجانب أيضاً استثمار الخيال العلمي في معمارية قرية الأعداء - مدينة الأباة، وفي انجاز الحاسة السابعة عشرة وفي العقار الذي يخترعه حكيم قرية الحظة، ليصير به الذكر خصياً من دون ألم، ولتشربه الأنثى فتهتاج. مع بحر الدم الجزائري في العقد الماضي، تتراخى تجريبية الطاهر وطار، وتتمحور على العنصر التراثي، وخصوصاً الصوفي. وهنا تبدو رواية "تجربة في العشق" علامة أخيرة سيفتقد بعدها "جنون" الكتابة التي فرضها مجنون الرواية، كما يقول الكاتب في تقديمه لها، وكما سيجسد بناء الرواية في لوحات لا تأبه بنظام. ... ويذهب بعضهم الى أن ذلك التراخي في التجريبية يتأسس في تراخي النقدية الذي وسم روايتي "الشمعة والدهاليز" 1995 و"الولي الطاهر يعود الى مقاومة الزكي" 1999... من جهة أخرى، يبدو التجريب في روايات رشيد بوجدرة وجيلالي خلاص وواسيني الأعرج، قطعاً مع اللحظة التقليدية، ومغامرة من مغامرات اللحظة الحداثية، تتقاطع في بعض مفاصلها مع تجربة الطاهر وطار، وتختلف في بعض آخر. ونبدأ مع رشيد بوجدرة في روايته الأولى بالعربية "التفكك" 1982 والتي تبدأ التجريب بالوثيقة وهي تشتغل على التاريخ - الثورة التي جاءت بالاستقلال. فمن المرجعية التاريخية للطاهر الغمري تطلع الشخصية الروائية محتفظة باسمها، ولكن لتكتب التاريخ المضاد للتاريخ الرسمي، كما رأينا مع الطاهر وطار وكما سنرى مع واسيني الأعرج. فبحسب روايات اولاء - ولا ننس الحبيب السائح ايضاً - فقد تجنى التاريخ الرسمي على الشيوعيين الجزائريين زمن الثورة. والتاريخ هو - كما نقرأ في "التفكك" - "هذه الجزئيات البسيطة التافهة، ففيها يكمن الصدق التاريخي، ومنها يمكن أن تصنع مادته". يندر حضور الفعل الجنسي خارج الاغتصاب أو الشذوذ أو البغاء في أغلب الروايات الجزائرية. ما يؤدي الى تفجير المنظومات المقدسة: منظومة الأعراف والأخلاق، كذلك المنظومة الروائية التقليدية، وهذا ما يبدو صارخاً في روايات رشيد بوجدرة، موفراً لها مستوى لغوياً خاصاً يمكن نعته بمستوى الحرام الجنسي، والذي ليس غير واحد من مستويات الحرام الأخرى التي يمعن الكاتب في تفجيرها اللغوي والقيمي، ابتداء بالسياسة، وليس انتهاء بالحاجات الجسدية. على أن التجريب في "التفكك" كما في "ليليات امرأة آرق" 1985 أو في "معركة الزقاق" 1986 أو في "فوضى الأشياء" 1990 يمضي في انتهاك المقدس الفني، فيلاعب حد التفاصح المعجمية اللغوية، ويشعّب السرد حد التتويه، كما عبر الحبيب السائح بصدد رواية "معركة الزقاق" إذ عدّها "معركة التتويه ضد المتاهة"، ولعل التعبير يصدق في روايات بوجدرة جميعاً. قريباً من هذا التجريب حد التتويه، تبدو روايتا جيلالي خلاص "رائحة الكلب" 1985 و"حمائم الشفق" 1986. ففي الرواية الأولى تتعنون فصول الرواية بالكلمة الأولى من كل منها، ويتشعّب السرد وتتوالد القصص ويشتبك الزمن. وفي رواية "حمائم الشفق" يجرب الكاتب استثمار تقنية التجريد، فلا يعيّن المدينة التي يكتب تاريخها خلال خمسة قرون. وفي تشييد المدينة يجرب الكاتب استثمار تقنية الأسطرة، فتأتي المدينة شبه اسطورية بمعماريتها الغرائبية وعشق الراوي لها حد الصوفية. ويتابع الكاتب في هذه الرواية تجريب الاستغناء عن الحوار، مضيفاً الاستغناء عن التداعيات، تاركاً للسرد أن يروي تاريخ المدينة بتعقيد أقل مما سبق في "رائحة الكلب". بعيداً من حد التتويه، ولكن بمضارعة في المغامرة، يأتي التجريب في رواية الزاوي أمين "صهيل الجسد". وعلى هذا النحو يأتي أيضاً التجريب في روايات واسيني الأعرج، حيث يشخب دم الشيوعي لخضر الذي نفذ الحكم بذبحه ذلك المجاهد البسيط زمن الثورة عيسى. وعيسى يذكر زيدان والطاهر بطلي روايتي وطار وبوجدرة، فالجذر هو هو: النظر النقدي للتاريخ الرسمي، واجتراح نقيضه. يبدو التجريب حياً في هذه الرواية، وهو أدنى منه في سابقتها "نوار اللوز أو تغريبة صالح بن عامر الزوفري" 1982 حيث يُستثمر التناص مع تغريبة بني هلال ومع كتاب المقريزي: "إغاثة الأمة بكشف الغمة" وذلك بالمفارقة عبر المعارضة. فبين مدينة أمسيردا من جزائر الاستقلال والثورة الزراعية والتحويل الاشتراكي، وبين فضاء التغريبة، تبدأ لعبة المفارقة عبر المعارضة، لتتواصل بين بني هلال وبني كلبون الذين يعنون السلطة الاستقلالية لنتذكر اسمهم هذا في رواية زمن النمرود، وهكذا يقابل صالح بن عامر السبايبي مرة أبا زيد الهلالي ومرة الحسن بن سرحان، وتقابل لونجا حبيبة صالح الزوفري الجازية الهلالة التي سبق أن رأينا مقابلتها للجازية الروائية عند بن هدوقة. وكل ذلك وسواه يأتي فيما بين نمط التغريبة المتعلق بجماعة، ونمط الرحلة المتعلق بفرد هو صالح الزوفري الذي تحول من مجاهد في الثورة الى مهرب على الحدود الجزائرية المغربية. بعد قرابة العقدين سيعاود واسيني الأعرج هذا التجريب بامتياز في روايته "حارسة الظلال" أو "دون كيشوت في الجزائر" 2000. وانشغال الكاتب بدون كيشوت قديم يعود الى رواية "مصرع أحلام مريم الوديعة" 1984. لكنه انشغال عابر، بينما هو أساسي في "حارسة الظلال". شيدت هذه الرواية من قصة الصحافي الاسباني فاسكيس سيرفانتس دالميريا الذي يفضل ان ينادى: دون كيشوت، لانتسابه الى الكاتب الشهير ميغيل سيرفانتس الذي أبدع رواية "دون كيشوت بلامانتشا". من نمط الرحلة الى المذكرات الى السرد العاري الى الوشاح البوليسي، تعددت تقنيات هذه الرواية. بعد التوكيد - الذي تأخر - على أن في هذا النظر في الرواية الجزائرية من القصور ما فيه، يلح على المرء، بعدما تقدم في آخر ما كتب الطاهر وطار وواسيني الأعرج مما يقارب ما بلغه التجريب في الرواية الجزائرية، أن يمضي الى الثنائية الروائية "ذاكرة الجسد" 1993 و"فوضى الحواس" 1998 لأحلام مستغانمي، لعل مآل التجريب يزداد وضوحاً. في تقنية حضور المؤلف يقوم الرهان التجريبي لروايتي مستغانمي، ليس في شعرنة اللغة - صدى نزار قباني وخصوصاً في الجزء الأول - ولا في التناص الغزير حد الإبهاظ. ها هنا تلاعب الكتابة التلقي وتشتبك الشخصيات والأحداث... فالراوية في "فوضى الحواس" هي كاتبة أيضاً. ومن قصتها القصيرة سيخرج عبدالحق، فتخون حياة - أحلام زوجها معه، لكنها ستكتشف أن من أحبت ليس هذا الخارج من القصة، بل صديقه وصنوه الذي أخذ العسكر يده اليسرى في أحداث 1988 والذي سيودي به الى بحر الدم الجزائري. انه تجريب يذكّر بالتتويه الذي ذكرنا بصدد جيلالي خلاص ورشيد بوجدرة، بالاضافة الى مساءلة الرواية لنفسها. في الغلبة لما بين مناوشة الحرام الجنسي والديني والسياسي والفني، وبين تفكيك ونقض ذلك الحرام المشتبك والكثير، قاد التجريب في الرواية الجزائرية - في الغلبة أيضاً - الى الخروج من أسر اللغة الواحدة الى أفق التهجين والتعدد، مما ساعد على تنويع الأساليب وتحقيق درجة أعلى من الحوارية، وكل ذلك أثر في العناصر الروائية الأخرى كما أثرت هي فيه، فتعقد السرد وتصدع وتوالد، وتبدل الوصف، وتكسّر الزمن، وتخلخل الميثاق السردي، وساءلت الكتابة نفسها، واشتبكت الخطابات، وسربلت العتامة الى مدى أو آخر البنية، كما كان مع اللغة او مع الشخصية. وليس ذلك وسواه - التداعي، تجريد المكان أو الشخصية، استثمار التراث السردي... - سوى علامات اللحظة الروائية الحداثية، كما عرفتها الرواية العربية عموماً خلال العقود الماضية. فحديث التجريب الروائي العربي يقترن بالحداثة الروائية، وإن يكن لا يوقفه عليها، لأن اللحظة التقليدية لم تفتأ تحاول أن تجدد نسغها. * كاتب سوري. والمقال مقتطع من مداخلة ألقاها في لقاء تكريمي في الجزائر باسم الراحل عبدالحميد بن هدوقة.