ليلة السبت 18 حزيران يونيو الفائت ختم مهرجان السينما العربية الذي أقيم في معهد العالم العربي في باريس، دورته الثانية، بإعلان جوائزه التي أتى معظمها على شكل مفاجأة سيئة للحضور، ما أتى استبعاد يسرا و"مرسيدس" على شكل صفقة حقيقية للسينما العربية الجديدة التي تبدو انها أثارت اعجاب كل الذين تدفقوا لحضور هذا المهرجان، لكنها لم تعرف كيف تحرك ساكناً له من لجنة تحكيم لسنا ندري بعد من الذي اختارها ولماذا شكلت على هذا النحو. ما الذي يمكن ان يحدث حين تقف ممثلة ومخرجة فرنسية من الدرجة الثانية لتصرخ غاضبة بأنه لا يجوز ان تعطى جائزة أفضل ممثلة لنجمة عربية من طراز يسرا، مهما كانت الظروف والمبررات؟ بكل بساطة يحدث ان يذعن بقية الحضور، وليس فقط لخوفهم من ان يتحول صراخ الفنانة الفرنسية الى هستيريا معممة، بل لأنهم جاؤوا أصلاً ليوافقوا على ما يمكن ان تقوله هذه السيدة. وكانت تركيبتهم رسمت، في الأصل، لكي يكون توزيع الجوائز على الفائزين، منظماً تبعاً لاعتبارات عديدة، قد يكون حب السينما وجلال الفن آخر همومها. للوهلة الأولى قد يبدو هذا الكلام على شكل أحجية. ولكن بعد شيء من التوضيح، ستبدو الأمور أسهل بكثير. فالفنانة الفرنسية التي نتحدث عنها هي بريجيت روان عضو لجنة التحكيم في مهرجان السينما العربية الذي عقد في معهد العالم العربي في باريس خلال الأيام الماضية، وكان من الواضح لأعضاء اللجنة التحكيمية التي يرأسها الكاتب اللبناني أمين معلوف، انها هنا لتقوم بمهمة، وليس لكي تشاهد الأفلام حقاً وتحكم عليها بتجرد ونزاهة. وفي تركيبة لجنة التحكيم كان ثمة ما يسمح لها بذلك حيث ان الأعضاء القادرين حقاً على الحكم على فيلم عربي لم يكن يتجاوز عددهم الثلاثة، من أصل سبعة، ومن هنا كان من الواضح ان "اللعبة الديموقراطية" ستجعل الجوائز تذهب حتماً ضمن اطار حسابات ذات ثلاثة اتجاهات: 1 - مصالح التوزيع الفرنسي للأفلام الفائزة. 2 - الاهتمام بالأفلام المعبرة عن الراهن السياسي الذي تهتم به فرنسا. 3 - محاولة اقامة توازن حسابي يضفي على الجوائز طابع انصاف مزيف، لكنه في الوقت نفسه تجعلها خاضعة لحسابات دقيقة. من هنا كان اعلان النتائج مناسبة للتساؤل عما اذا كان من الضروري حتماً، ان نأتي في كل مرة بپ"سينمائيين" أجانب لا يعرفون عن سينمائنا العربية شيئاً فيكونون هم الحكام الفاصلين؟ والنتائج كانت، على أي حال، على الشكل الآتي: الجائزة الكبرى فاز بها فيلم "حومة باب الواد" للجزائري مرزاق علواش. جائزة لجنة التحكيم الخاصة فاز بها فيلم "ثلاثة على الطريق" للمصري محمد كامل القليوبي. جائزة العمل الأول فاز بها فيلم "حتى إشعار آخر" للفلسطيني رشيد مشهراوي. جائزة أفضل ممثل كانت من نصيب السوري بسام كوسا عن فيلم "كومبارس" من اخراج نبيل المالح. جائزة أفضل ممثلة كانت من نصيب السورية سمر سامي عن الفيلم نفسه. الجائزة الكبرى للفيلم القصير ذهبت الى عاطف حتاتة عن فيلمه "عروس النيل". مع تنويه خاص لداوود أولاد السيد المغرب عن فيلمه "بين الغياب والنسيان". فضيحة اسمها "مرسيدس" حسناً، للوهلة الأولى يبدو ان عملية توزيع الجوائز لا غبار عليها، ويمكنها ان تكون مقنعة. فالأفلام الفائزة نالت، ضمن حدود متفاوتة بالطبع، اقبال الجمهور واعجابه. ولكن… ولكن كان هناك "مرسيدس" ليسري نصرالله. وكانت هناك يسرا، ولوسي، ودارين الجندي وريم تركي ومنى فتو. وكان هناك بشير سكيرج في فيلم "البحث عن زوج امرأتي" لمحمد عبدالرحمن التازي. وكان هناك "سكان المدينة" للمنصف ذويب و"الاعصار" لسمير حبشي. ولن نحصي كل الأسماء المشاركة، بالطبع، نود ان نقول فقط ان النتائج ستبدو عند المقارنة غريبة جداً ومثيرة للشكوك. فان تعطى جائزة أفضل ممثلة للسورية سحر سامي التي أدت دورها في "الكومبارس" بتعبير لم يتغير طوال الفيلم وبكلاسيكية مزعجة خاصة اذا قارنا اداءها باداء بسام كوسى المتميز في الفيلم نفسه. وان تحرم يسرا، صاحبة الدور الرائع في "مرسيدس" من الجائزة نفسها، لا يعود أمراً محيراً، بل مثير للسخرية طبعاً. ولئن كانت السيدة الفرنسية المشار اليها وصلت الى حدود الهستيريا في وقوفها ضد يسرا، فلقد كان في امكانها ان تختار اداء دارين الجندي الهادئ في "آن الأوان" أو منى فتو الطريف والطيب في "البحث عن زوج امرأتي" أو ريم تركي في "سلطان المدينة". لكن الحسابات كانت في أماكن أخرى بالطبع. وليس هنا المكان الأفضل لرسم كل الحسابات، لكننا نقول بكل بساطة، واستناداً الى ما تناهى الينا من أوساط لجنة التحكيم، ان حيادية رئيس اللجنة أمين معلوف، جعلت أكثر من نصف الأعضاء يفرضون ما يشاؤون هم الذين ظهر واضحاً ان لا علاقة لهم بالسينما العربية لا من قريب ولا من بعيد. من دون ان يعني هذا، ان جهلهم يشكل ضمانة للنزاهة. من هنا اذا كانت هناك من مفاجأة في هذا المهرجان الذي خلا كلياً من اي مفاجأة، فإن عبثية النتائج كانت المفاجأة الوحيدة. "الارهابي" ظاهرة اجتماعية الوحيدة؟ ليس تماماً: كانت هناك مفاجأتان أخريان، واحدة عند الافتتاح واخرى عند الختام، واحدة سيئة والاخرى جيدة. نبدأ بالسيئة: فيلم الافتتاح نفسه "الارهابي" لنادر جلال. فهذا الفيلم بإمكانه طبعاً ان يحقق لدى عروضه الجماهيرية، كل النجاح الذي حققه، ولا اعتراض على ذلك. ولكن ما الذي اتى ليفعله حقاً في مهرجان من هذا النوع، يتبدى اكثر واكثر معبراً عن سينما عربية جيدة ومتميزة؟ ما الذي جاء بكل التهريج والتسطيح الذي يعبق به هذا الفيلم الخبيث والساذج في الوقت نفسه، ليفعله في افتتاح مثل هذا المهرجان؟ حقاً، ان هذا الفيلم يمكن اعتباره ظاهرة اجتماعية جديرة بالدراسة. ولكن أليس كثيراً عليه ان يفتتح وبكل صخب مهرجان يريد ان يقول للعالم ان سينمانا العربية قد تطورت وبدأت تعالج مشاكلنا بعمق وبلغات سينمائية جديدة ومبتكرة تعطي مكاناً للسينمائي المبدع ليكون شاعراً وعالم اجتماع ورساماً تشكيلياً في الوقت نفسه يسري نصرالله، التازي، ذويب، القدسي، حبشي، والقليوبي وغيرهم؟ يبقى السؤال: من اختار هذا الفيلم للافتتاح ولماذا؟ ومع هذا كان لعرض "الارهابي" بعد ايجابي معاكس: فالحال ان هذا الفيلم تبدى دخيلاً، وبشكل صارخ، في مهرجان يعكس تنوع الحساسيات العربية واتى بالنسبة الى الكثيرين ليضع فيلماً مثل "مرسيدس" في مكانته الصحيحة، وليقول كم ان فيلماً هاماً ومتميزاً مثل "مرسيدس" غريب في وطنه، رغم تعبيره الصارخ عن هموم هذا الوطن، وكم ان "مرسيدس" طليعي ومستقبلي في زمن باتت فيه سذاجة افلام من طراز "الارهابي" تبدو صارخة رغم ملايين المتفرجين المعلنة…. هذا بالنسبة الى المفاجأة السيئة، اما المفاجأة الحسنة فكانت فيلم الختام "صمت القصور" لمفيدة التلاتلي وهو عرض خارج المسابقة، بعد اعلان النتائج مباشرة، فاذا به، كما عبّرت متفرجة صديقة، يمتص كل النقمة التي جابهت اعلان النتائج واذا به يصبح هو حديث الحاضرين وهمهم. "صمت القصور" تحدثنا عنه في العدد الفائت من "الوسط" لذلك نكتفي هنا بأن نقول ان ردود الفعل التي سرت بين الحضور، اكدت نجاحه قبل اسابيع في "كان" وان هذا الفيلم من شأنه الآن ان يضاف حقاً الى السينما العربية الجديدة ويكون معلماً من معالمها. "الليل" وجائزة الجمهور الضائع هذه السينما العربية الجديدة هي التي كانت - على اي حال - الاكثر حضوراً في مهرجان معهد العالم العربي، وربما تكون هذه هي النقطة الاساسية والمفرحة، والتي ترغمنا على ان نثني مرة اخرى على الذين قاموا بتنظيم هذا المهرجان، رغم السلبيات التي تبدت في ما قلناه اعلاه، كما في التنظيم، والطابع البوليسي الذي وسم عملية الدخول الى الحفلات الرئيسية، ورغم الارتباك الذي تبدى واضحاً في حفلة الختام. السينما العربية الجديدة التي يبدو اليوم انها تسير خطواتها الحثيثة الى الامام يصبح لها تراكم افلام يحميها ويعززها، ويصبح لها مخرجوها في مصر وخارج مصر، من رضوان الكاشف الى المنصف ذويب، ومن مفيدة التلاتلي والتازي ومرزاق علواش الى سمير حبشي والقليوبي وغيرهم… كما يصبح لها ممثلوها حتى من بلد الصناعة السينمائية الضخة، مصر، اتت النجمتان الاكثر عملاً مع السينمائيين الجدد والدعم لهم: يسرا، ولوسي، فيما راحت اروقة المهرجان تشهد حضوراً كثيفاً لنجوم من نوع جديد مثل دارين الجندي وريم تركي ومنى فتو، وبسام كوسا هذا بينما تمثل انتاج السينما الجديدة بثلاثة منتجين: حسين القلا واحمد عطية، وحسن دلدول، لم يعد الواحد منهم يتردد كثيراً قبل خوض مغامرات قد لا يساندها الجمهور الآن كما يساند افلاماً مثل "الارهابي" لكنه بالتأكيد سوف يعتاد عليها تدريجاً. مهما يكن فان الجمهور الجيد كان واحدة من مفاجآت دورة هذا العام. فالجمهور اتى بكثافة وبفرح طاغٍ: احب الافلام وساندها وصفق لها، وطالب بالمزيد منها. ولكن ما يدعو الى الحزن، ان جمهور السينما العربية الجديدة بات مشابهاً لكل ما يعتمل في حياتنا العربية: المغربي هو الطاغي لحضور الفيلم المغربي، والمصري لا يشاهد الا الفيلم المصري، واللبنانيون يحضرون الفيلم اللبناني لا غير… وهكذا. هذا الواقع يذكرنا بواحد من اطرف الامور التي حصلت خلال المهرجان: جائزة الجمهور، التي اعطيت للمرة الأولى، فكانت من نصيب فيلم "الليل" لمحمد ملص. لماذا نعتبر الامر طريفاً؟ لسببين، اولهما ان هذا الفيلم الرائع والمتميز هو الفيلم الاقل جماهيرية والاكثر نخبوية بين افلام المهرجان. وثانيهما انه الفيلم الذي حضره اقل عدد ممكن من الجمهور من بين كافة عروض المهرجان. فكيف حدث ان صوّت جمهور لا وجود له؟ لفيلم لا يمكن للجمهور ان يستسيغه رغم روعته الفنية؟ أحجية اخرى تضاف الى احجيات هذا المهرجان العجيبة.