محمد المرّ من كتاب القصة المعروفين خليجياً وعربياً، لا تزال أعماله تثير ردود فعل حادة ومتضاربة. والكاتب المنشغل بالعلاقة بين المحلي والانساني، تعرف نصوصه انتشاراً واسعاً، ربما لكونها تعبيراً أميناً عن مخاض مرحلة اجتماعية حرجة، تشهد صراعاً بين بقايا عصر اللؤلؤ والصيد والموروثات الاجتماعية التقليدية، وبين طوفان المتغيرات الكبيرة. لكن الكتابة، في نظر هذا الاديب الواسع الاطلاع على الادب العالمي، تبقى معادلة تحفظ التوازن الدقيق بين المتعة الفنية والرسالة الانسانية. في الامارات حركة ثقافية ناشطة، ومتميزة وكتاب كثر وشعراء مجددون. إلا أن قلّة ولجت عالم الرواية، بما هي مشروع أدبي طويل النفس متعدد الآفاق. فالاقلام البارزة تكتب القصص القصيرة، وبرع المبدعون في اثارة الجدل حول أعمالهم المتباينة في اللغة والمستوى. ولعل القاص محمد المرّ بين أكثر زملائه إثارة للجدل. فالبعض يرى في نتاجه، محاولة توثيق لمرحلة اجتماعية حرجة تشهد صراعاً بين بقايا عصر اللؤلؤ والصيد والموروثات الاجتماعية التقليدية من جهة، وطوفان المتغيرات الكبيرة في منطقته. فيما يذهب البعض الآخر بعيداً في تهجمه على أعمال المرّ، بحجة أن كتاباته صحافية وليست أدباً، في الوقت الذي تنتشر فيه أعماله بشكل كبير، ويقرأ له جيل المرحلة الحالية بحماس. درس محمد المرّ مواليد 1955 الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة "سيراكيوز" في نيويورك. وعمل رئيساً لتحرير جريدة "خليج تايمز" الناطقة بالانكليزية، ونائباً لرئيس تحرير جريدة "البيان" العربية الصادرة في دبي. كما عمل في الادارة المصرفية لبنك الشرق الأوسط. له مشاركات صحافية وثقافية واعلامية كثيرة يكتب حالياً في صحيفة الخليج ومجلة الرياضة والشباب، كما قدم برامج اذاعية ووضع مؤلفات تراثية، الى جانب 12 مجموعة قصصية هي على التوالي: "حب من نوع آخر"، "الفرصة الأخيرة"، "صداقة"، "المفاجأة"، "شيء من الحنان"، "ياسمين"، "نصيب"، "مكان في القلب"، "حبوبة"، "قرة العين"، "الصوت الناعم". وكان أن جمعتنا بالاديب "دردشة" في مقر "ندوة الثقافة والعلوم" التي يرأس مجلس ادارتها، وهي ملتقى النخبة من المتخصصين والمثقفين في دبي، في مناسبة صدور أحدث انتاجه "سحابة صيف". يرتبط الابداع غالباً بالمعاناة الذاتية، والكتّاب في الوطن العربي يخرجون غالباً من الحارات والاحياء الفقيرة والمناطق الأكثر تخلفاً في بلدانهم. أما أنت، فأتيت الكتابة من وسط مريح وبيئة تتمتع بالثراء. فهل هي محاولة لاثبات معادلة جديدة أم ان للكتابة مفهوماً اجتماعياً معيناً؟ - في تاريخ الأدب العالمي تنحدر قلة من الأدباء من الطبقات الاجتماعية المعدمة، كما خرجت قلة من الأدباء من الطبقات الاجتماعية المرفهة، بينما نجد ان اكثرية أدباء العالم جاءت من أوساط الطبقات الوسطى، ومن الذين عاشوا ظروفاً اجتماعية قاسية في بداياتهم. هذا ما يفرّق مثلاً بين الروسي مكسيم غوركي وتولستوي الكونت الارستقراطي الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب. لكن اللافت فعلاً ان معظم الكتّاب كانوا من البرجوازيين الصغار أبناء الطبقات الوسطى كتشيكوف وموباسان وبلزاك وفلوبير وشتاينبك وهمنغواي وآخرين. وفي الوطن العربي نجيب محفوظ وغسان كنفاني ويوسف ادريس. وسبب ذلك كما يقول علماء الاجتماع ان أبناء الطبقات المعدمة تضطرهم الظروف القاسية الى التفكير في لقمة العيش قبل التفكير بالأمور الأدبية والفلسفية، وهنا يحضرني قول الحكيم المتمرد الشاعر أبو العلاء المعري: "نلوم على تبلدها قلوباً تكابد من معيشتها جهاداً". أما أبناء الطبقات الثرية فتشغلهم أمور الترف. يحدث طبعاً أن تقع حالات استثناء عن القاعدة، ولكنها استثناءات تؤكد القاعدة ولا تنفيها. ويترك الواقع الاقتصادي الخاص بالكاتب أثراً بالغاً في أعماله، وانحيازاً كلياً الى الطبقات المعدمة. ويبقى الكثير من هؤلاء، لأسباب سوسيولوجية، منشغلاً بشؤون وشجون الطبقات الوسطى وامكانية ربطها بقضايا الانسان الكبرى الروحية والنفسية والوجودية. ونحن في الوطن العربي تنطبق علينا مثل هذه المعادلات. تشريح هموم المجتمع يردد انك الكاتب الأكثر انتاجاً والاكثر انتشاراً في الامارات وبعض دول الخليج. فهل هي القدرة على النشر أم انك كاتب مطلوب من القارئ؟ - أكثر أدباء العالم انتشرت أعمالهم وحصلوا على شهرة كبيرة في مجتمعاتهم التي عاشوا فيها. والانتشار أنواع. هناك انتشار يتعلق بنوعية الكتابة. الاعمال البوليسية مثلاً، وأعمال الفانتازيا المرعبة، تلاقي شعبية كبيرة في أوروبا وأميركا ولا يعني ذلك انها الأفضل! وهناك انتشار له علاقة بقدرة أديب ما على خلق شهرة شخصية حول نفسه، مثل الاميركي ترومان كابوت الذي استغل وقاحته وشذوذه وحبه للفضائح لترويج أعماله الروائية. وهناك انتشار راجع الى مغازلة الأديب لحساسيات طائفية أو اجتماعية معينة... أما أهم الاسباب في نظري، فهو القدرة على تشريح هموم المجتمع والغوص فيها ودراسة الشخصيات والتوغل في أعماقها وربط المحلي بالانساني. وشخصياً آمل ان تكون شعبية قصصي مبنية على النموذج الأخير ولو بدرجة بسيطة. أي لون من القصة تكتب، وما مدى تأثرك بكتابات اجنبية مشابهة؟ وكيف تبني علاقتك بالشخصيات التي ترسمها على الورق؟ - منذ نهاية الستينات انفتحت منطقة الخليج على الاجواء والمدارس والاتجاهات الأدبية في الحواضر العربية المتقدمة مثل القاهرةوبيروت ودمشق. هذا لا يعني أنه لم يكن هناك تواصل في السابق، لكنه كان ضعيفاً وغير مؤثر... هكذا أصبح للتيارات الأدبية السائدة في الوطن العربي روافد أو لنقل امتدادات في منطقتنا، ففي الشعر نجد تلامذة مخلصين لأدونيس. كذلك في مجال القصة والرواية، فعلى سبيل المثال هناك من تأثروا بالواقعية النقدية والراديكالية مثل فوزية رشيد ومحمد عبدالملك، وآخرون تأثروا بالاتجاه السوريالي مثل أمين صالح خاصة في أعماله الاخيرة. وتأثر طرف ثالث بالواقعية السحرية المفضلة عند كتاب أميركا اللاتينية. أنا اعتبر ان هذا التباين والاختلاف مصدر ثراء للتجربة بشكل عام، فالمشهد الأدبي الاحادي التيار ممل وكئيب. الكتابة القصصية بالنسبة الي معادلة تحفظ التوازن الدقيق بين المتعة الفنية والرسالة الانسانية. فهناك اعمال تمتعك كقارئ بأسلوبها الجميل وبحبكتها الفنية، ولكنها صحراء انسانية... وهناك اعمال ذات مضامين، لكنها تفتقر الى "الهندام" الفني القشيب. قصصي تحمل ألوان قوس قزح، فيه أطياف من تيارات متعددة طبيعية وواقعية ورومانسية وكوميدية! نعم أتعاطف مع شخصيات قصصي وأعرفها عن قرب. وقد اوافقها حماقاتها وسخافاتها بسبب كثرة اضطرابها. انها رغم كل شيء تتمتع بحساسية فطرية، ونبل انساني يلخص كل ايجابيات الشخصية العربية، في منطقتي التي استطاعت ان تصارع قروناً مع المعيشة القاسية والظروف الاجتماعية الصعبة والمهلكة في صحراء معادية وفي بحر شرس. تدافع بحماس عن شخصياتك، في حين انها متهمة باستفزاز مشاعر مجتمعات تتمتع بالكثير من الخصوصية... إنها متطرفة في سلوكياتها؟ - شخصياتي جزء من حالة عامة. فلماذا يكون عليّ الحديث عن غواص أكل الجرجور نصفه، ولا اتحدث عن بحار وجد نفسه يرقد فوق تل من المال، ويتعامل مع خليط من البشر يفتقر الى التجانس؟! ألا يحق لهذا الاخير احتلال مساحة تناسبه فوق الورق كجزء من حالة، لا بل جزء لا يمكن التغاضي عنه؟ أنا لا اخترع هذه الشخصيات، كل ما أفعله هو التوثيق لها. الكاتب الاميركي مارك توين نقل شخصياته من خلال مشاهدات على نهر المسيسيبي عندما كان يعمل في السفن البخارية، في الوقت الذي يعتبر فيه بعض الأدباء والنقاد نقل هذه الشخصيات الى الورق وبأمانة مطلقة تسطيح وخلو من العمق وحط من قيمة الاثر الادبي. بعد قراءة "الأبله" لديستوفسكي، وجدت أن في منطقتي من يشبهه حرفياً! لقطة سريعة وحلم عابر يشعر البعض بثغرة آخذة في الاتساع بين مرحلة ما قبل النفط وبعده، على مستوى المنشور الثقافي والانتاج الأدبي في الامارات... - عميد الأدب العربي طه حسين كتب في احدى المرات يسخر من الأدباء الشباب الذين يستعجلون الشهرة، فقال بأنهم يكتبون اكثر مما يقرأون. القراءة مهمة جداً بالنسبة الى الكاتب، لاسباب عدة. أولاً: حتى لا يكرر ما يقوله الآخرون، ثانياً لتحصيل مستوى معقول من الثقافة العامة وسعة الاطلاع توسع من مدارك الكاتب وآفاقه... فالثقافة الموسوعية الآن صعبة في ظل الطوفان العالمي للنشر. النتاج الادبي في منطقتنا سبق الفورة النفطية، كان قليلاً ربما لكنه هام ويجب التعرف اليه قبل ولوج عالم الكتابة، لنكون امتداداً لحركة تاريخية، أو على الأقل كي نشهد حالة نمو طبيعية. نعم، ثمة ثغرة غامضة بين ما كتب سابقاً وما يكتب الآن مثلما هو واقع الحال على جميع المستويات حتى المعيشية منها والتراثية. هل نفهم من كلامك انك لا زلت في حالة قراءة، وان ما تكتبه خطوة على طريق الرواية والكتابة المختلفة؟ - في الفترة الاخيرة اخذت اقرأ لكتاب عالميين مثل الاميركي كارفر والايطالي كالفينو والهندي نيبول. فلكل منهم اسلوب معين ونكهة خاصة، ولا بد من التعرف اليهم جميعاً ولو من باب العلم بالشيء. في كتاباتي اتحاشى التحول الى واعظ، لأن النزعة التبشيرية تفسد العمل الأدبي وتفقده عفويته. أما مسألة ان يكون الكاتب شاهد عصره والتي يلوح بها الكثيرون، فإنها ممكنة في روايات مثل "الحرب والسلام" لتولستوي أو في أعمال بلزاك وثلاثية نجيب محفوظ التي تنقل بأمانة روح المجتمع القاهري في النصف الأول من هذا القرن. أما القصة القصيرة فامكاناتها أقل، ومرآتها أصغر. إنها حدث، لقطة سريعة وحلم عابر لكنها لا تخلو من الموقف والرصد ومعايشة الشخصيات. ألم يستهوك عالم الرواية أبداً؟ فكرت احياناً في ولوج عالم الرواية، ولكنني متردد. فالرواية عالم مهيب وتحتاج كتابتها الى جلد وتنظيم ومثابرة ونفس طويل، وهذه أشياء افتقدها في كتاباتي. لكن قد اتجرأ وأقدم "النوفيل" أي الرواية القصيرة أو القصة الطويلة. اختار المستعرب البريطاني بيتر كلارك مجموعة من قصصك وترجمها دون غيرها من الانتاج الأدبي في الامارات. لماذا اختارك أنت؟ - "أقاصيص من دبي" الذي ترجمه كلارك كان نافذة مفتوحة للقارئ الاجنبي على مجتمع الامارات. هذه الشهادة وصلتني من القراء الاجانب، أبناء الجاليات التي تعيش في الامارات. إن العلاقات الحميمة مفقودة كما تعرفون بين مجتمعنا المحلي والمقيمين، بسبب العديد من الموانع والحواجز الاجتماعية والنفسية. أما الاسباب الاخرى التي اتاحت ترجمة هذه المجموعة فهو يسر اللغة وبساطة الطرح، أعني واقعيته. فالقصص التي يكتبها آخرون في الامارات تُعنى كثيراً بالتوصيفات والمفردات التراثية الصعبة الترجمة، ما يجعل المترجم يواجه صعوبة كبيرة في فهم ما يكتبه المؤلف إن لم يكن ملماً إلماماً كبيراً باللهجات المحلية والعادات والتقاليد. وتحضرني في هذه المناسبة عبارة قالها لي مستشرق ياباني يقرأ العربية ويعيش في منطقتنا، التقيت به عندما اختار ترجمة بعض قصصي الى اليابانية، فقال لي: "اللغة العربية جميلة بلا شك، لكن عباراتها طويلة جداً. إنني أواجه صعوبة في ترجمة بعض المفردات العربية الى اليابانية فلماذا لا تكتبون عبارات أقصر وأسرع للفهم؟! ما آخر قراءاتك الادبية باللغة العربية؟ - رواية "ذات" للمصري صنع الله ابراهيم. وأعتقد أن تكنيك الاستشهاد من الصحافة اليومية أثقلها، وكان الاديب وقع في المطب نفسه في روايته السابقة عن بيروت، كأنه يشك في قدرة العمل الروائي على فضح سلبيات المجتمع. كذلك اعجبني "سراج" لرضوى عاشور وهو عمل روائي مستوحى من منطقة جغرافية مختلفة من الوطن العربي ومرحلة تاريخية مختلفة. المرّ والنقاد في دراسة نقدية مطولة قدمها جمال عبداللطيف درويش تتناول أعمال محمد المر وردود فعل القارئ المتلقي عليها يقول: "ان تجربة محمد المر في الكتابة تصل بلا شك بالانتماء القوي لوطنه ولهذا فإن كثيراً من أوجه ما يعرضه سواء على مستوى الحدث او الشخصية او الفكرة يبدو ذا صلة بظواهر سلبية وسيئة على مستوى المجتمع من تلك التي ولدتها عوامل التغيير السريع التي عاشها أهل الخليج والامارات في شكل خاص، خاصة التحول من مجتمع الاسرة الممتدة والقبيلة ومن نمط حياتها القديمة من عادات وتقاليد محددة الى مجتمع الاسرة النووية واسلوب الحياة المادية الحديثة. هذا التغيير غير المعدّ له الاعداد المتأني والطويل. لقد وصف الكثيرون اعماله بالتشاؤمية والسلبية والاكتفاء بعرض مساوئ المجتمع وظواهره المشينة فحسب. إن لغة المر القصصية تقترب من التقريرية لقناعته بأنه يكتب لشريحة واسعة من القراء. لا يريد إغراقها في الرمز. ان الشخوص الضائعة المتوترة التي يركز عليها المر ليست الا قرابين تقدم في الطريق الى الخلاص. انه أي المر يجيد استنطاق شخصياته بلغاتها وليس بلغته هو. إنه مصور يجيد استخدام عدساته".