انتخب 270 مليون أوروبي برلمانهم. وكان ملحوظاً ان المعطيات الداخلية في كل بلد لعبت الدور الحاسم في اختيار النواب الذين سيدخلون برلمان ستراسبورغ لمدة خمس سنوات. في المانيا كان الاقتراع واحداً من سلسلة عمليات انتخابية ستتوج في نهاية العام بالأهم منها: التشريعية. وهي، بهذا المعنى، محطة بعد خسارة هلموت كول الانتخابات المحلية ونجاحه في فرض رئيس للبلاد. وفي فرنسا كان المتوجهون الى صناديق الاقتراع يدركون جيداً ان ما يقومون به هو تمرين أولي في انتظار الحملة الرئاسية التي بدأت فور اعلان النتائج. وفي بريطانيا كان العنوان الفعلي هو مصير رئيس الحكومة جون ميجور والانهيار المستمر في شعبية حزب المحافظين ومعرفة ما اذا كانت الخلافة في حزب العمال ستؤثر على حظه في انتصار لاحق. في ايطاليا كان واضحاً ان المسألة الحاسمة هي نجاح التحالف اليميني في تثبيت انتصاره قبل أسابيع وخروج سيلفيو برلوسكوني بصفته الأول ضمن المنتصرين مع ما يعنيه ذلك من قدرة اليسار على الاحتفاظ بمواقع تجعل منه بديلاً محتملاً بعد سنوات. في اسبانيا كانت الأنظار مشدودة الى فيليبي غونزاليس المترنح تحت وطأة الفضائح التي تطال أركان حزبه الاشتراكي وذلك لرؤية ما إذا كان سيسقط بشكل ينزع عنه الشرعية السياسية. في اليونان، الرئيسة الحالية للمجموعة الأوروبية، بدا واضحاً ان اندرياس باباندريو يريد اختبار الاختراق الذي يحققه له خطابه الوطني المتصلب. ويمكن الاستطراد في هذا العرض لتبيان ان الهموم الوطنية غلبت على الخيارات المنطلقة من برامج الأحزاب. وحصل ما كان متوقعاً من تميز المشاركة الشعبية بضعف في الاقبال يمكن رده الى عدد من العوامل. فهناك، أولاً، تراجع الاندفاعة الأوروبية في القارة كلها منذ التوقيع، قبل سنتين، على معاهدة ماستريخت. وليس هذا التراجع خصوصية بريطانية. انه ملحوظ في فرنسا والشمال الأوروبي والمانيا وحتى في بلد مثل ايرلندا حيث تشكل المساعدات الأوروبية ما لا يقل عن ربع الموازنة العامة للبلاد. وهناك، ثانياً، ابتعاد النواب الأوروبيين عن ناخبيهم. والبعد جغرافي طالما ان المقر في ستراسبورغ. والبعد ناجم عن النظام الانتخابي النسبي قائمة واحدة وطنية في سبعة بلدان الذي يوجد هوة بين المقترع والنائب. وهو، أيضاً، نتيجة ضعف الثقافة الأوروبية الذي يجعل القوانين الموحدة، على فعاليتها، ضبابية في نظر القسم الأكبر من المواطنين. وهناك، ثالثاً، وأخيراً، ضعف صلاحيات البرلمان الأوروبي والشبهة اللصيقة ب "بيروقراطية بروكسيل". انه "النقص الديموقراطي" الشهير الذي ينفّر هذه الشعوب المتمسكة بحرياتها من أن تتلقى تأثيرات قرارات صادرة عن هيئات غير منتخبة أو غير خاضعة، كفاية، الى الرقابة. لقد زيدت صلاحيات البرلمان الأوروبي في معاهدة ماستريخت فأصبح شريكاً في اتخاذ بعض القرارات وبات تصويته ضرورياً" لتشكيل المفوضية، كما ان في وسعه تشكيل لجان تحقيق. غير أن المركز التشريعي الفعلي على الصعيد الأوروبي يبقى المجلس الوزاري على مستوى رؤساء الدول والحكومات أو على مستوى الوزراء الذي يوكل الى المفوضية أمر التنفيذ من غير أن يمنعها من أن تقترح فيتجاوب مع طلباتها. وعندما يستعين المجلس الأوروبي بما لا يقل عن مئتي لجنة، وعندما تتشعب فروع المفوضية ويقودها شخص ديناميكي مثل جاك ديلور انتهت ولايته الثانية والنية متجهة الى استبداله برئيس الوزراء البلجيكي الحالي، يكون من الطبيعي ان يتضاءل دور البرلمان وتتراجع، في أذهان الناس، الفائدة من انتخابه. مراجعة ماستريخت ولا يقلل ضعف الاقبال وغلبة الاعتبارات الداخلية من الأهمية الخاصة لهذه الدورة الانتخابية الأوروبية، فهذا هو الاقتراع الأول، على صعيد القارة، بعد التوقيع على معاهدة ماستريخت ودخولها حيز التنفيذ ونشوء نوع من ردة الفعل السلبية حيالها. وهذه هي المرة الأولى التي تصوّت المانيا الموحدة ما أتاح الاطلاع على المزاج الشعبي الفعلي في المقاطعات الشرقية سابقاً. الى ذلك فإن البرلمان الحالي هو الذي سيشرف، في العام 1996، على أعمال "المجمع الوزاري" المكلف مراجعة معاهدة ماستريخت. والبرلمان الحالي هو الذي سيشهد عملية التوسيع التي جرى إقرارها قبل أشهر حيث ستشهد فنلندا استفتاء في 16 تشرين الأول اكتوبر المقبل من أجل اتخاذ قرار الانضمام الى الاتحاد الأوروبي. وتدل استقصاءات الرأي العام على أن ال "نعم" أقوى. ثم تليها السويد في 13 تشرين الثاني نوفمبر. وإذا كانت ال "لا" أقوى فإن الوضع قد يتغير بعد الانتخابات التشريعية في 18 أيلول سبتمبر التي ترجح عودة اليسار. وفي 28 تشرين الثاني نوفمبر يأتي دور النروج حيث تشير التقديرات الى فوز ساحق للرفض الا في حال تأكد قرار الانضمام النمسوي وفاز انصار التيار الأوروبي بشكل باهر في فنلنداوالسويد. وإذا سارت الأمور "على ما يرام" فإن الاتحاد الأوروبي سيضم هذه البلدان الأربعة اعتباراً من أول 1995 ما يفتح الباب أمام باقي المترددين في القارة. هذه الأهمية الاستثنائية للدورة الانتخابية التي انتهت لم تدفع نحو تعميق السجالات المتعلقة فعلاً بالقضايا الأوروبية والتي سيضطر البرلمان الى البحث فيها بمجرد انعقاده. ويواجه البناء الأوروبي معضلات تنظيمية لم يعد في امكانه تجاهلها، كما لا بد من تغييرات هيكلية. وتعمل المجموعة، حالياً، بالقوانين التي وضعت لها منذ 1957 عندما كانت تتألف من ستة أعضاء فقط. لم يعد ذلك ممكناً اذا كانت النية متجهة فعلاً نحو المزيد من الاندماج. ومن أبرز القضايا المطروحة في هذا المجال كيفية اتخاذ القرارات أو ما يسمى "الأكثرية المؤهلة" و"الأقلية المعطلة". وعندما اتخذ قرار التوسيع الأخير ضغطت بريطانيا من أجل ابقاء "الأقلية المعطلة" على حالها بما يمنحها حق النقض. غير أن ميجور تراجع وجرى التوصل الى تسوية لا تحل شيئاً. ولا يزال تعطيل القرارات حيث الاجماع ليس واجباً ممكناً بواسطة أصوات قليلة. وليست هذه مشكلة تنظيمية فحسب، انها مشكلة سياسية في الدرجة الأولى. ففي حال اتخاذ القرارات بأكثرية معقولة يزداد الميل الفيديرالي ويصبح المجلس الأوروبي، أكثر فأكثر، نوعاً من الحكومة العامة. ويقود ذلك، حكماً، الى التخلص من فكرة "الرئاسة الدورية" وانتخاب رئيس لأوروبا "يعطيها وجهاً" وينطق باسمها في المحافل الدولية، اما إذا بقي التقرير مرتبطاً بتوافر أكثرية واسعة فهذا يوجه ضربة الى امكان اتخاذ قرارات سياسية واستراتيجية كبيرة، ما يزيد الميل نحو تحويل الاتحاد الأوروبي الى مجرد منطقة واسعة للتبادل الحر. وهذا تراجع خطير عن مشروع الرواد الذين كانوا يخططون لبناء واحة استقرار وازدهار تقدم نموذجاً للعالم وتجد لنفسها مكاناً بين القوى العظمى في العالم. بطالة وركود ويصطدم البناء الأوروبي، منذ سنوات، بمعضلات اقتصادية - اجتماعية لا يعرف كيف يتجاوزها. الركود مستمر ولا تتحدث الأرقام المتفائلة عن نسبة نمو تفوق الثلاثة في المئة. ويعني ذلك ان البطالة التي تصيب اليوم حوالي عشرين مليوناً مرشحة للتزايد حتى العام ألفين، ومعها العدد الاجمالي لمن هم تحت حد الفقر. والنقاش مفتوح على هذه القضية. وهناك من يعيد هذه النسبة العالية من البطالة الى "أوروبا"، وهناك من يعتبر أنه لولا "أوروبا" لكانت هذه النسبة أعلى في كل بلد على حدة. والحقيقة ان هذا النقاش مغلوط، فالبحث الفعلي يجب ان يتناول معاهدة ماستريخت بصفتها شكلاً للبناء الأوروبي، ذلك ان الأوضاع السلبية الحالية ركود " بطالة هي، فعلاً، من نتائج معاهدة ماستريخت التي تنظم التوجه نحو "العملة الموحدة". وهي تشترط لذلك التزام معايير معينة: نسبة متدنية من التضخم، ومن العجز في الموازنة، ومن الدين قياساً بالناتج الوطني. ويقود احترام هذه المعايير الى الابقاء على الفوائد المرتفعة ما يعني ان العملة غالية الثمن وان التوظيف المالي أكثر جزاءً من الصناعي. يعني ذلك حكماً الابقاء على قدر من الركود والعجز عن حل مشكلة البطالة. ومتى أضيف الى ذلك ان "المصرف المركزي الأوروبي" العتيد هو الذي سيتولى السياسة النقدية بمعزل عن أي رقابة، وذلك حسب ما ورد نصاً في ماستريخت، يتضح ان المعاهدة مسؤولة فعلاً عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وان هذه المسؤولية محمية بالعقل الليبرالي السائد في العالم حالياً. غير أن المشكلة تصبح أكثر تعقيداً عندما يتبين ان هذه هي الانعكاسات الخطيرة للرغبة في احترام معايير ماستريخت من غير أن تكون هذه المعايير محترمة فعلياً، اليوم، إلا من جانب... اللوكسمبورغ! ويعني ذلك أنه من الصعوبة بمكان تأمين توحيد العملة قبل نهاية القرن الا إذا قررت بضعة بلدان ان تسير وحدها فارضة على البناء الأوروبي وتيرتين مختلفتين. وفي سياق هذه المشاكل الاقتصادية يندرج موضوع "الأفضلية" والتناقض الموجود بين اعطاء الأولوية للبضائع الأوروبية وما تفرضه اتفاقية "الغات" من فتح للأسواق. كما يندرج الملف الاجتماعي المستبعد من المعاهدة نتيجة الضغط البريطاني، والموجود في ملحق على حدة، كما ملف تنقّل الأشخاص المعلّق حتى الآن. ان هذه الآثار السلبية للبناء الأوروبي هي التي تعزز النظرة السلبية اليه لدى قطاعات واسعة تعتبر نفسها مهددة. وهي التي تدفع للقول بأن الفارق كبير بين "سوبرماركت" وبين مشروع حضاري كبير. سيجد البرلمان الأوروبي نفسه أمام قضايا شائكة ذات صلة بالسياسة الخارجية. قد يكون سهلاً عليه حل مشكلة التوسع شمالاً مع ما يعنيه ذلك من قوة لالمانيا على حساب الآخرين، فرنسا خصوصاً، غير أن ذلك لا يحسم جدال "التوسيع أو الترسيخ" المفتوح منذ سقوط جدار برلين في 1979. القائلون ب "التوسيع" يطالبون بإبطاء البناء من أجل فتح الأبواب أمام الدول الخارجة من "الصقيع الاشتراكي". أوروبا الشرقية تنتظر ويرد القائلون "بالترسيخ" بأنه من الأفضل المضي قدماً في ما جرى التأسيس له حتى الآن والاكتفاء بمعاهدات اقتصادية مع دول شرق أوروبا ووسطها ريثما تنجح في اللحاق بركب الآخرين. والواضح ان الحل الذي جرى اعتماده يقوم على التوسيع من غير الاضرار بالترسيخ وما على الآخرين، من سلوفاكيا الى سلوفانيا الى جمهوريات البلطيق... سوى الانتظار. على الصعيد الاستراتيجي ستكون دورة البرلمان الأوروبي الحالي حافلة بالقضايا المطروحة على صعيد الأمن الأوروبي، وعلى رأس هذه القضايا العلاقة مع حلف شمال الأطلسي من جهة ومع روسيا من جهة ثانية. وإذا كان الانسحاب التدريجي للقوات الأميركية لن يؤثر على متانة التحالف الغربي فإن الشرق الروسي قد يأتي بمفاجآت في حال أسفرت الانتخابات الرئاسية عن هزيمة ما لبوريس يلتسن. وقد تجد أوروبا نفسها عاجزة عن صياغة العلاقة مع موسكو مضطرة الى اللجوء الى خيار آخر غير "الشراكة من أجل السلام" الذي اقترحته واشنطن ووافق عليه الآخرون. والقلق من التطورات الروسية لا يبرره شيء أكثر مما يجري حالياً في يوغوسلافيا السابقة، سواء لجهة انفجار النزعات الوطنية والاثنية والطائفية المتصلبة أو لجهة انكشاف العجز الأوروبي عن التدخل الفعال لوضع حد للحرب وأهوالها. وإذا كان هذا العجز يدل على غياب أي منظور لعالم ما بعد الحرب الباردة فإنه يؤشر، أساساً، الى غياب السياسة الخارجية الأوروبية الموحدة والفعالة وعدم امتلاكها أداة للتدخل تستطيع بها أن تزن في القرارات. لقد قيل في السابق "ان ماستريخت ماتت في ساراييفو". قد لا يكون هذا صحيحاً تماماً غير أن أوروبا الفاشلة في البلقان تغامر باللعب بمصيرها، خصوصاً اذا انتشرت العدوى. القضايا المشار اليها شديدة الأهمية. وهي تقع، نظرياً، في دائرة اختصاص البرلمان الأوروبي. ولا تفعل هذه الملاحظة سوى إيضاح حجم المفارقة بين نوع المشاكل ومدى غيابها عن السجال الذي أوصل الى هذه التركيبة.