ما دخلت السياسة أمراً إلاّ أفسدته. ولعل اكثر ما ينطبق هذا الكلام على الملابسات التي ترافق اذربيجان لتطوير قطاعها النفطي بواسطة شركات غربية، لكن من دون ان تغضب روسيا التي تملك، على ما يبدو، الورقة الاقوى في لعبة الصراع السياسي والعسكري بين باكو ويريفان القائم منذ سقوط ما كان يسمى الاتحاد السوفياتي. وخلافاً لما كان مقرراً في لندن في آذار مارس الماضي، أرجأ الرئيس الاذربيجاني حيدر علييف التوقيع النهائي على الاتفاق مع تجمع الشركات الاوروبية التي ستتولى تنفيذ برنامج تطوير الحقول النفطية، وهو برنامج طويل المدى تقوده "بريتش بتروليوم" بكلفة ستصل الى 8،11 بليون دولار. ولم يحدد علييف أسباباً معينة للتأجيل، باستثناء تصريحات متفرقة لمسؤولين اذريين تحدثت عن الحاجة الى استكمال دراسة بعض الملفات، علماً أن هذا التأجيل هو الثالث من نوعه في أقل من 3 سنوات، ما دفع الى الحديث عن اعتبارات اخرى تدفع باكو الى استغلال ورقة النفط لتحقيق مكاسب اخرى، ليس فقط مالية، وانما ايضاً سياسية. وفي الواقع كان من المقدر ان يتم التوقيع على الاتفاق في تموز يوليو الماضي، إلاّ أن التطورات السياسية والانقلاب الذي شهدته اذربيجان في حزيران يونيو الماضي، ثم وصول قيادة جديدة الى السلطة، أدت الى طي صفحة الموضوع، أقله موقتاً، وبدأ الرئيس الجديد جولة جديدة من المفاوضات ادت الى زيادة حصة بلاده من العائدات من 70 الى 80 في المئة، اضافة الى حصولها على منح ومساعدات مختلفة تصل الى 500 مليون دولار. وكان من المقرر ان تؤدي هذه المكاسب الى تسريع تنفيذ الاتفاق في تشرين الاول اكتوبر الماضي. إلاّ أن شيئاً من ذلك لم يحصل. وعاود علييف المطالبة بإدخال تعديلات جذرية على مشروع الاتفاق النهائي، تركزت هذه المرة على زيادة حصة بلاده من العائدات في السنوات العشر الاولى من الاتفاق التي كانت تحددت ب 30 في المئة. وطرحت الحكومة الاذرية معادلة مختلفة، عندما عرضت تخفيض عائداتها على المدى البعيد في مقابل زيادتها في المديين القصير والمتوسط في خطوة فهم انها تتصل بحاجة البلاد الى استخدام عاءدات النفط لتمويل المشاريع العائدة الى قطاعات اخرى. وبعدما اظهر تجمع الشركات الاوروبية استعداده للتجاوب، ولو بصورة نسبية مع المطالب الاذرية الجديدة، بدا شبه مؤكد ان الاتفاق النهائي سيوقع عليه في اثناء زيارة علييف الى لندن في آذار مارس الماضي، وهو ما لم يحصل مرة جديدة، ما أدى الى تزايد الشكوك بفرص نجاح المشروع من جهة، والى بدء الشركات التي كان من المقرر ان تساهم فيه بإعادة النظر بموقفها. أوراق الضغط وفي الواقع، فإن ثمة قناعة متزايدة لدى الشركات الغربية مفادها ان باكو لا تتفاوض معها على تطوير قطاعها النفطي بقدر ما تسعى الى تحقيق مكاسب سياسية في الغرب، يمكن استخدامها سواء في الصراع الدائر مع ارمينيا، ام في اقناع موسكو باتخاذ مواقف اكثر انحيازاً ضد يريفان التي يقول المسؤولون الاذريون انها تملك اوراق ضغط قوية في روسيا، كما في العواصم الاخرى. ويقول أحد محللي "بريتش بتروليوم" ان علييف يحاول الحصول على "أكبر ثمن اقتصادي وسياسي للسلعة الوحيدة التي يملكها، وهي النفط، في اشارة واضحة الى مطالبة الدول الاوروبية بموقف اكثر تضامناً مع بلاده في الصراع مع ارمينيا، والى دفع هذه الدول الى توسيع استثماراتها في اذربيجان لتحسين اداء الاقتصاد الوطني، بعد التراجع الذي سجله في السنوات الثلاث الاخيرة، وبلغت نسبته 40 في المئة في العام الماضي وحده. وبالفعل، فإن ثمة اجماعاً على أن علييف يحاول الحصول على أكبر ثمن اقتصادي وسياسي من الغرب، لكن من دون ان يغضب موسكو التي أظهرت هي الاخرى رغبة قوية بالحصول على حصة من عقود النفط الاذري الى جانب اقناع باكو بالابقاء على ميناء نوفورو سيسك على البحر الاسود، أما عبر اعادة تأهيل خطوط الانابيب القائمة حالياً، أو بناء خطوط جديدة قد تصل اكلافها الى ملياري دولار. وإذا كانت باكو أعطت حصصاً معينة لشركات نفطية روسية للمشاركة في تشغيل بعض الحقول الا انها لم تتخذ موقفاً نهائياً حتى الآن من موضوع خط الانابيب الذي تطالب به موسكو، فيما تقول "بريتش بتروليوم" ان الموافقة على مثل هذا المطلب الروسي ستعني ان اذربيجان قررت ببساطة كلية استمرار خيارها السابق بالبقاء تحت مظلة النفوذ الروسي عن طريق السماح له بالتحكم بوسائل التصدير واقتصادياته. وفي الواقع حسب دراسات الجدوى التي أعدتها الشركات الغربية حول المشروع، فإن استخدام البحر الاسود لاعادة التصدير هو الاسوأ من وجهة نظر اقتصادية، نظراً الى ارتفاع التكاليف من جهة، ولانه يحمل الصادرات النفطية الى غير الاسواق التي يجب ان تذهب اليها، في اشارة الى المشروع الآخر الذي اقترحه تجمع الشركات بقيادة "بريتش بتروليوم" لاقامة خط انابيب تصل كلفته الى 1.4 بليون دولار عبر تركيا الى مرفأ سيحان على البحر الابيض المتوسط. ردة فعل الشركات الغربية على التردد الاذري بدأت تظهر، وان بشكل غير مباشر فقد عمدت "بي. بي" الى تخفيض وجودها في باكو عن طريق الابقاء على عدد أقل من الخبراء، فيما بدأت شركات اخرى تساهم في التجمع بإلغاء بعض عقودها المحلية. ومن غير المستبعد أن تلجأ هذه الشركات الى اجراءات اخرى لاظهار تزايد استيائها مما تسميه "المناورات" التي تقوم بها باكو، مثل وقف تمويل بعض المشاريع ذات الطابع الاجتماعي والتنموي، والمنح التي كانت قدمتها لتنفيذ المشاريع ذات الطابع الوطني. وتقول تقديرات متطابقة ان الشركات الغربية بدأت تستخدم الاوراق القوية التي تملكها، وهي اوراق مالية وتقنية غير متوافرة لجهات اخرى، في اشارة واضحة الى عجز الشركات عن تقديم المساعدات المالية، واستخدام التكنولوجيا المتطورة التي يملكها الغرب، فهل دخل قطاع النفط الاذربيجاني مرحلة شد الحبال.