خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، خُفضت أهلية تركيا للاقتراض من الخارج مرتين، ما يعني ان المصارف الاجنبية ستكون أكثر تشدداً في منح التسهيلات التي يطلبها رجال الاعمال الاتراك، أو وقف الاعتمادات التي تمنحها للمؤسسات التركية. إلا ان ما أقدمت عليه مؤسستا "مودي" و"ستاندرد اندبور" العالميتان من تخفيض اهلية تركيا للاقتراض من الخارج، ليس المؤشر السلبي الوحيد الذي ظهر في الأشهر ال 15 الماضية، فقد سجلت اسعار صرف الليرة المزيد من التراجع، وبلغت نسبة التضخم العام الماضي 70 في المئة، فيما من المقدر ان تصل في نهاية العام الجاري الى 100 في المئة، في وقت يرتفع عجز الموازنة العامة للدولة الى 16 في المئة من اجمالي الناتج القومي للبلاد. ومع ذلك، فإن ثمة مؤشرات اخرى لا تقل سلبية، إذ لا زالت تركيا تنتظر الموافقة على انضمامها اعتباراً من العام المقبل الى الوحدة الجمركية الاوروبية، وهي خطوة تثير الكثير من الانتقادات التي يوجهها مسؤولون اوروبيون الى ما يسمونه تردي الاوضاع، وعدم قدرة الاتحاد الاوروبي على تأجيل عملية الوحدة الجمركية. ومن الملاحظات التي تبلغتها انقرة من بروكسيل ما سماه المسؤولون الاوروبيون الفوضى الاقتصادية القائمة حالياً في تركيا، وهي فوضى تتصل بعمليات التهريب المزدهرة عبر الحدود البرية مع الدول المجاورة، خصوصاً مع العراق وايران وبعض الدول في آسيا الوسطى الاتحاد السوفياتي السابق، الى عدم وضوح السياسات التركية المتعلقة بتخصيص الشركات والمؤسسات التي تملكها الحكومة، ويتوجب بيعها الى القطاع الخاص، وتحرير أسعار السلع والخدمات التي يحصل عليها المواطن التركي بصورة مدعومة، ثم اعتراض بعض الشركات المحلية على موضوع الوحدة الجمركية مع دول الاتحاد الاوروبي، ومطالبتها بتأجيل التنفيذ، أقله ل 5 سنوات لاعطائها ما يكفي من الوقت لتحسين كفاءتها التنافسية. وفي الواقع يجمع معظم الخبراء الاقتصاديون في انقرة على انه سيتوجب على تانسو تشيلر الرئيسة الشابة والجميلة للحكومة التركية، التي تحظى بدعم غير قليل من واشنطن ومن العواصم الأوروبية، ان تحارب على جبهتين على الأقل: الأولى الجبهة الأوروبية لإقناع بروكسيل بأن تكون اقل تشدداً في فرض الشروط عليها، وان تساعد بصورة اكثر ايجابية على ازالة الشعور بالمرارة الذي ينتاب فئة واسعة من الأتراك حيال ما يسمونه الإضطهاد الأوروبي، وتجاهل فئة واسعة من المسؤولين الأوروبيين لخصوصيات الوضع التركي. ويقول مسؤول تركي ان شريط السنوات العشر الماضية للعلاقات بين الطرفين لا يخلو من الكثير من الأحداث المرة، في اشارة غير مباشرة الى رفض المجموعة الأوروبية في العام 1987 انضمام تركيا الى عضويتها، ثم الإعتداءات التي تعرضت لها الجالية التركية في ألمانيا وبلغت ذروتها العام الماضي عندما تعرض مهاجرون اتراك لاعتداءات عنصرية وحرق منازلهم من قبل متطرفين ألمان، واثارة ما تسميه بعض الأحزاب الأوروبية عدم احترام حقوق الإنسان في تركيا، في اشارة مباشرة الى الحملة التي تشنها الحكومة التركية ضد المتمردين الأكراد، وقيام البرلمان التركي بتجريد ستة من اعضائه من الحصانة النيابية وتقديمهم للمحاكمة، الى جانب ما يثيره بعض الأوروبيين حول استمرار الأحكام العسكرية في انقرة، ولو من دون العسكر في الواجهة. الا ان الجبهة الأوروبية ليست الوحيدة التي يتوجب على تشيلر التي يتهمها اخصامها السياسيون بأنها محدودة الخبرة في السياسات العالمية، ان تقاتل عليها. اذ ثمة جبهة اخرى في الداخل تتمثل في بوادر المواجهة بين الحكومة ونقابات العمال التي رفضت حتى الآن السياسات المتعلقة بخفض الإنفاق العام وتحرير اسعار السلع والخدمات وبرنامج تخصيص المؤسسات والشركات التي تملكها الحكومة. وفي الواقع، يجمع معظم الخبراء الإقتصاديين في انقرة على ان الحكومة ستحتاج الى الكثير من الدعم، والكثير من الجرأة لتطبيق برنامج التقشف الذي اعلنته في نيسان ابريل الماضي، ويهدف الى رفع الدعم عن اسعار السلع الأساسية، مثل الشاي والسكر والوقود، ما سيؤدي الى مضاعفة اسعارها دفعة واحدة. كما يستهدف بيع الشركات التي تملكها الحكومة، واقفال المؤسسات التي تعجز عن تحقيق ارباح، ما يعني صرف آلاف العمال في الوقت الذي تتجاوز فيه معدلات البطالة 15 في المئة. وتعترض النقابات التركية على اجراءات التقشف التي تنوي الحكومة تطبيقها، وابلغ اتحاد النقابات العمالية في انقرة المسؤولين ان خفض الإنفاق المخصص لدعم اسعار السلع الأساسية سيطال بالدرجة الأولى ذوي الدخل المحدود. كما ان تطبيق برنامج التخصيص سيطرح ما يسمى مشكلة العمالة الفائضة، وارتفاع عدد الأتراك الذين يجدون انفسهم من دون فرص كافية للعمل. الا ان المشكلة في هذا الإطار ليست في الخلاف مع النقابات، اذ هي بالدرجة الأولى في اقناع الأكثرية البرلمانية الحاكمة بالموافقة على سياسات غير شعبية في الأساس، ثم مواجهة ما قد يؤدي اليه مثل هذه السياسات على الصعيد الإنتخابي، بعدما اعتبرت الإنتخابات البلدية التي جرت في آذار مارس الماضي انذاراً يتوجب على المسؤولين الحكوميين أخذه في الاعتبار، في اشارة واضحة الى الفوز الذي حققه "حزب الرفاه الإسلامي" على حساب الأكثرية الحكومية والمعارضة الرئيسية لها. ويقول استاذ في جامعة انقرة، ان الذين انتخبوا حزب "الرفاه الإسلامي" في آذار مارس الماضي في اسطنبولوانقرة هم انفسهم الذين صوتوا للشيوعيين في السبعينات، ما يعني ان ثمة خطراً مقبلاً، وهو اما ان يعود العسكر من المقعد الثاني الى المقعد الأول، او يخلي الجميع مقاعدهم لمسؤولين جدد يعلنون من دون مواربة عداوتهم للعلمانية التي طبقتها تركيا طوال العقود الماضية. ومع ان التشدد الذي تبديه تشيلر ضد التوجهات الإنفصالية الكردية ساهم بصورة واسعة في توسيع قاعدتها الشعبية، الا ان ثمة اعترافاً متزايداً بأن استمرار المشكلة الكردية على نحو ما هي عليه حالياً لن يؤدي الا الى تفاقم الأزمة الإقتصادية، اذ تقدر الخسائر الناتجة عن استمرار الملف الكردي مفتوحاً بما يصل الى 7 مليارات دولار سنوياً. هل يتوجب على الحكومة التركية ان تكون اكثر تساهلاً في موضوع الإصلاحات الإقتصادية؟ الأوروبيون يركزون على ضرورة تنفيذها، "اذا كانت انقرة ترغب فعلاً في ان تصبح في العائلة الأوروبية"، الا ان الحكومة التركية تفضل على ما يبدو ان تحقق مكسبين: ان تجد نفسها داخل اوروبا، لكن بالحد الأقصى من الإستقرار الإجتماعي، فهل تستطيع تانسو تشيلر ان تصنع ما يبدو حتى الآن انه معجزة؟