كلهم هنا، من جديد، على موعدهم السنوي مع السينما، من جيرار ديبارديو الى رومان بولانسكي، ومن كلينت ايستوود الى كاترين دونوف وكلوديا كاردينالي وايزابيل آدجاني وصوفيا لورين، وتطول اللائحة حتى تصل الى عارضات الازياء الشهيرات من امثال كلوديا شيفر واصحابها. مرة اخرى تأتي دورة كان السابعة والاربعون لتجذب الالوف من الفنانين وهواة السينما، ومرة اخرى تأتي الدورة الجديدة لتطرح تساؤلات حول الفن السابع ومستقبله. كل هذا والجمهور العريض، هواة واصحاب احلام ونساء جميلات، يملؤون المطاعم والارصفة والشواطئ، ولا يعبأ حتى بالعاصفة الهائلة التي هبّ على كان في ليلة المهرجان الثانية. فبعواصف او من دونها، الجميع هنا من اجل السينما وافلامها، ولن يثنيهم عن ذلك شيء، حتى ولا المقاطعة الاميركية الخفية، ولا خيبات الأمل الكثيرة، ولا الزحام، المهلك، ولا الركض الدائم الذي يضطرون لممارسته حتى يشاهدوا بعض الافلام التي يريدون مشاهدتها. لأصحاب الحنين، هناك دائماً فيلليني، فيلليني الكبير، الحاضر الآن في مهرجان كان، حتى اكثر بكثير مما كان حاضراً خلال سنواته الاخيرة، تماماً مثلما يكون حضور الاسطورة اكبر من حضور ما تعبّر عنه في الاساس. فيلليني حاضر هذه المرة، لأن هذا هو اول مهرجان "كان" يقام من بعد موته. من هنا لم يكن غريباً ان يكرّس له تكريم لم يكن لمخرج من قبله، ورمز هذا التكريم، الستارة العريضة التي تغطي شاشة الصالة الرئيسية التي تعرض افلام المسابقة الرسمية: صالة لومبار. فالستارة تحمل رسماً يزيد عرضه على اربعين متراً، وينتمي الى فن الحلم البسيط، ليمثل المعلم الايطالي الكبير وهو يدير احدى لقطات فيلم له، وحوله مشاهد من ابرز افلامه. فيلليني والجمهور الايطالي العريض الذي يحضر المهرجان مشكّلاً اكبر كتلة قومية فيه، هما الشيئان الايطاليان الوحيدان اللذان يلفتان النظر في كان. اما الافلام الايطالية العديدة التي تشارك في المسابقة وفي غيرها من التظاهرات الرسمية والموازية، فشكّلت حتى الآن خيبة امل كبرى، واعطت فكرة عما ستكون عليه السينما الايطالية عليه، في عهد برلسكوني. باختصار السينما الايطالية لم تعد كبيرة كما كانت ايام فيلليني وفيسكونتي ودي سيكا. ومن هنا يتضاعف حنين محبي السينما الى صاحب "الحياة اللذيذة" و"آماركورد". الحنين نفسه يشغل بال عدد من النقاد الذين ما ان تطالعهم صورة فيلليني حتى يتنهدون قائلين: "سقا الله ايام زمان... ها هي مهرجانات كان المتتالية تكاد تخلو من افلام العمالقة". المتنهدون على هذا النحو فاتهم امر هام، وهو انه بعمالقة او من دون عمالقة، فان السينما الكبيرة، سينما الغد، السينما التي تقول ان السينما لا تزال حيّة، رغم التلفزة والفيديو والاقمار الاصطناعية والكابل. بل ولربما كان من عظمة السينما انها باتت قادرة على ان تعيش وتنمو وتتطور، وتحديداً، بفضل اعدائها هولاء. اعداؤها الذين تحولوا الى ادوات حديثة ومرعبة توصلها الى مئات ملايين المتفرجين. قد تكون الصالات في ازمة، لكن السينما لا تعيش مثل هذه الازمة. السينما ستذهل القارئ ارقامها، وعدد حضور افلامها. وذلك الاندماج الذي عرفت كيف تندمجه في وسائل التواصل الحديثة. يقيناً ان سينما الحرفة البسيطة والابداع الفردي في طريقها الى التبدّل. لكن هناك في "كان"، هذا العام كما في الاعوام السابقة، افلام كبيرة ومفاجآت مدهشة. الارقام اولاً: يبلغ عدد زائري المهرجان هذا العام نحو اربعين الف شخص، منهم 3500 صحافي، و25 ألف سينمائي ومهني. هؤلاء ينفقون في عاصمة السينما العالمية نحو مليار فرنك فرنسي. وعدد الافلام المعروضة يصل الى 500 فيلم. والناقد الذي يضرب الرقم القياسي يشاهد ما معدله 40 فيلماً خلال 12 يوماً، شرط ان يكون بطل ركض واسطورة في الصبر والسلوان، وقادراً على ان "يتبهدل" في كل مرة شاء فيها ان يدخل الى صالة من الصالات وسط ازدحام الجمهور وتعليقاته التي تقال بأكثر من من اربعين لغة في وقت واحد. في الارقام ايضاً، وخارج المهرجان وان كان الحدث شغل معظم المناقشات: الثلاثة عشر مليون دولار التي حكم بها القضاء الاميركي للمنتج التونسي طارق بن عمار، يكسبها حلالاً زلالاً من شركة يونيفرسال، بسبب استنكافها قبل 8 اعوام عن تنفيذ عقد توزيع فيلمه "القرصان" الذي اعتبر يومها واحداً من اكبر الاخفاقات في تاريخ السينما المعاصرة، بعد "كليوبترا" و"عمر المختار" وها هو اليوم يحقق لمنتجه "ارباحاً" لم يكن يتوقعها مخرج الفيلم رومان رولانسكي لن ينال قرشاً واحداً من هذا المبلغ، وكذلك لن يصفق له احد في كان، حيث جاءها كممثل هذه المرة في فيلم "مجرد شكليات" للمخرج الايطالي تورنا توري. فيلم بارد مفتعل لم يقنع احداً، والمجابهة التمثيلية التي كانت متوقعة بين جيراد ديبارديو وبولانسكي في الفيلم أثارت استهزاء المتفرجين. وكان هذا ما اغضب ديبارديو، الذي كان قد زيّن المهرجان بحضوره ليدافع عن الفيلم، لكن الصدمة كانت كبيرة. مهما يكن نال ديباريديو عزاءه حين هتف له المارة، مرحبين بمظهره الجديد، اذ ها هو اليوم قد خف وزنه كثيراً، واشقرّ شعره اكثر، يتخذه هذا المظهر الذي يبعد عنه صورة الغوريلا التي كانت التصقت به زمناً. فيلم رائع باللون الاحمر حتى كتابة هذه السطور، لا يمكن القول ان "مجرد شكليات" كان الخيبة الوحيدة، ففيلم الروسي/ الاميركي كونتشالوفسكي "الدجاجة ذات البيض الذهبي" تفاوتت الآراء بصدده، وكذلك كان حال فيلم آلان رودولف "السيدة باركر والحلقة الجهنمية" الذي كان من الافلام المأمول لها ان تفوز. والحال ان اسم فاتنة السينما الفرنسية ايزابيل آدجاني لا يزال مطروحاً كمرشحة للجائزة، رغم ان الفيلم - واذا استثنينا اجماع النقاد الفرنسيين على امتداحه - لم يكن بالنسبة الى كافة النقاد الآخرين بالحجم المطلوب منه. وكذلك شكل "توكيل هادساكر" خيبة كبرى. في المقابل نال "ثلاثة الوان: احمر" لكريستوف كليسوفسكي تصفيقاً حاداً. بحيث ان من المحتمل جداً ان يكون هذا الفيلم الذي هو خاتمة ثلاثية هذا المخرج البولندي الذي يعمل في فرنسا، من الافلام ذات الحظ الكبير بالفوز بإحدى الجوائز الرئيسية ان لم يكن بجائزتين رئيسيتين على الاقل. فان فعل سيكون هذا المخرج المبدع حقق فوزاً مثلثاً، حيث فاز الجزء الاول "ازرق" بالجائزة الكبرى في البندقية، والثاني "ابيض" بالجائزة الكبرى في برلين، ويبقى عليه ان يغزو جائزة "كان" ليحقق رقماً قياسياً لم يسبقه اليه احد. والفيلم الجديد يستحق هذا بالطبع، فهو تحفة سينمائية رائعة ونادرة وذو عمق يختفي وراء بساطة مقصودة، عمق تتحرك فيه صراعات العواطف والاحاسيس، والذكريات، وسط مناخ سوريالي - غير صاخب - يذكّر بروايات الكاتبة الدانمركية كاترين بلكسن، وبفيلم لأورسون ويلز اقتبسه من واحدة منها هو "حقائق واكاذيب". وقد لا يكون من قبيل المغالات تفضيل فيلم كليسوفسكي على فيلم ويلز من نواح عدة. وقد لا يكون من قبيل المجازفة القول بأن الدور الذي اعطاه هذا المخرج للمثل الفرنسي جان - لوي ترنيتنيان، ربما يجعله مرشحاً رئيسياً لجائزة افضل تمثيل رجالي. طباخ يبحث عن العصر في التحف ايضاً، فيلم من تايوان للمخرج انغ لي عنوانه "اكل، شرب، رجل، امرأة": فيلم مدهش وبسيط، يعيدنا الى عوالم الياباني اوزو، ويبدو مشبعاً بأمل كبير رغم طابع الحزن وتصادم العواطف الطاغي عليه. أمل تمثّله حكاية الأب الأرمل وبناته الثلاث، الذين لا يجتمعون الا حول مائدة الطعام الغني والصاخب الذي يعده الاب بنفسه، وهو طباخ شبه متقاعد يتفنن الآن بالطبخ في بيته. لكن من الواضح ان طبخه لم يعد عملة رائجة وسط عالم يتغير. الاب، بدلاً من ان ينصرف الى احزانه والى الحنين الى عالمه المنصرف، ها هو يتغير بدوره، طارداً عالم الذكريات مواجهاً واقعه. طبعاً، من الواضح ان هذه الكلمات المختصرة لا يمكنها ان تلخص كل الانطباعات التي يتركها هذا الفيلم. نذكر فقط انه لا يعر ض في المسابقة الرسمية، بل في ظاهرة موازية هي "خمسعشرية المخرجين" والحال ان هواة السينما الحقيقيين، قد يجدون في هذه التظاهرة، لا في التظاهرات الاخرى الاكبر حجماً، الافلام الرائعة التي يبحثون عنها. وذلكم هو حال فيلم هال هاركلي الجديد "الهاوية" الذي قد يمكن اعتباره نسخة شديدة التطور لعالم جان يوك - لوي غودار، حيث تختلط لديه الوقائع بالخيالات، والاحداث الساخنة بلحظات الهدوء، ومسألة البحث عن الهوية، بالبحث عن السعادة، والعنف بالمرح، فيلم رائع هارتلي. هو واحد من الافلام التي تقول ان السينما لا تزال الفن الأقدر على تجديد نفسه باستمرار.. ومثل هذه الافلام موجودة بكثيرة في "كان" هذا العام. ولا يزال الوقت الآن ابكر من ان نتحدث عنها كلها. وكذلك لا يزال الترجيح الجدي مبكراً. فهناك افلام عديدة لم تعرض بعد، ويقال ان هناك في الأفق مفاجآت حقيقية، من ناحية الروسي ميخالكوف كما من ناحية الصيني جينغ ييماوو، وربما من ناحية الايراني عباس كياروستامي. كل هذا لكي نقول ان الحضور الاميركي المختصر، هذه المرة وربما بسبب مقاطعة خفية وغير معلنة ناتجة عن الصراع الثقافي الاميركي - الفرنسي حول "الاستثناء الثقافي في اتفاقية الغات" هذا الحضور يكاد يمرّ مرور الكرام بالنسبة الى هواة السينما والنقاد. فاذا كانت السينما في العالم اليوم، سينما اميركية، فان ثمة سينمائيين افراداً مبدعين، يعملون في الخارج وسط اصعب الظروف لكنهم يتمكنون في النهاية من ادهاش متفرجيهم، وضخّ تاريخ السينما بأجمل الابداعات: في العام الماضي كان الدور لاوستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا، وهذه المرة تأتي الافلام المدهشة من الصين ايضاً ولكن كذلك في كمبوديا والهند، وبمعجزة من المعجزات يعود سينمائيو اوروبا الشرقية فتأتي افلام رائعة من بولندا وتشيكيا وروسيا. والمدهش ان كل هذه الافلام تحقق بتمويل فرنسي، اولاً على سبيل تحقيق مفهوم بداوة السينما، وثانياً كما لو ان فرنسا، الخالية اليوم من مواهب سينمائية حقيقية، باتت تجد في معاونة مواهب الفقراء بعض عزاء لها. ومن هؤلاء الفقراء، العرب الثلاثة الذي يحضرون في كان هذه المرة: مرزاق علواش وفيلمه "باب الواد سيتي" تظاهرة "نظرة ما" الذي يتحدث عن ازمة يعيشها فران في الحي الشعبي الجزائري شاء ان يواجه المتطرفين غداة مظاهرة 1988 الكبرى. مفيدة التلاتلي وفيلمها "صمت القصور" الذي، رغم كل نواياه الطيبة ورغم الجهد الكبير الذي بذلته مخرجته كعمل اول لها، لم يكن على حجم المتوقع من سينما تونسية كانت ادهشت الكثيرين قبل سنوات، واخيراً الفلسطيني رشيد مشهراوي وفيلمه "حتى اشعار آخر" الذي فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان القاهرة. على رغم جمال هذا الفيلم وقوته التعبيرية في انتمائه الى نوع متطور من البريختية، تعامل معه الاعلاميون الغربيون هنا، بتعاطف نابع من كونه يتحدث عن قضية ساخنة: غزة، والاحتلال الاسرائيلي لها. ولهذا وضع على مستوى فيلمين آخرين يتحدثان بدورهما عن قضية ساخنة: قضية البوسنة: فيلم للفرنسي برنار هنري - ليفي. وآخر لمجموعة من الفنانين البوسنيين تطلق على نفسها اسم "ساغا" ولسوف نتحدث عن هذين الفيلمين، بالطبع، في عدد لاحق. اما الآن فلا بد ان نركض لنلحق عرض فيلم جديد.. ففي كان، لا يمكن للناقد الا ان يركض ويركض ويركض.