بين الثالث عشر والرابع والعشرين من ايار مايو الجاري، يقدم مهرجان "كان" السينمائي الدولي في الجنوب الفرنسي، دورته السادسة والاربعين. ولئن كانت دورة العام الفائت عقدت تحت شعار السينما الشعبية الاميركية، فان دورة هذا العام تبدو متجهة لأن تكون دورة فنية خالصة، تعطي مجالاً كبيراً لسينما التجريب والطليعية، اضافة لحضور عدد من كبار الكلاسيكيين الحديثين بأفلامهم الجديدة من كوروساوا الى فندرز الى غراناواي الى كيف لوش. هذا على الرغم من ان الاحتفال والختام سيكونان فرنسيين بحت، اولهما نجمته كاترين دونوف والثاني ايزابيل ادجاني. هنا اطلالة على بعض سمات برنامج هذا العام. في العام الفائت، حين كان يعقد مؤتمره الصحافي بالاعلان عن الافلام التي تم اختيارها لتعرض في كافة تظاهرات مهرجان "كان" السينمائي للعام 1992، كان وجه امين عام المهرجان جيل جاكوب يطفح بالبشر والامل وهو يتحدث عن الكم الهائل من الافلام الاميركية الذي سوف يعرض في شتى التظاهرات "افلام كبيرة، ولكنها ايضاً في الوقت نفسه افلام هامة وفنية" قال جاكوب وهو يبرر اختيارات الفريق العامل معه، بالحضور الطاغي للسينما الاميركية، تجارياً وفنياً في العالم كله. هذا العام، وخلال مؤتمر صحافي مشابه، لم يجد جيل جاكوب لديه ما يقوله بشأن السينما الاميركية، بل ولم يجد جواباً شافياً حين سأله احد الصحافيين عن سب ضآلة عدد وأهمية الافلام الاميركية المعروضة في مهرجان "كان" المقبل الدورة السادسة والأربعين، كل ما في الامر ان الامين العام للمهرجان نوه بالحضور الكبير للسينما الفرنسية والايطالية والبريطانية، موحياً بأن ثمة سياسة اوروبية مقصودة. بيد ان المطلعين على الامور يقولون ان هذا لم يكن سوى نصف الحقيقة. النصف الثاني هو ان جيل جاكوب ولجنة المهرجان، انتظرا حتى اللحظات الاخيرة ان يبلغا بجهوز العديد من الافلام الاميركية الكبيرة للعرض، ولكن عبثاً: فلا فيلم سكورسيزي "زمن البراءة" جاهز، وسبيلبرغ لم ينه فيلمه الجديد، وودي ألن لا يزال منكباً على الفيلم الذي يشتغل عليه مع دايان كيتون، وكوبولا وسبايك لي عرضا فيلميهما قبل شهور... اذاً لا يبقى امام جيل جاكوب، من السينما الاميركية، سوى افلام قد يتسم بعضها بطابع فني اكيد فيلم آبيل فيرارا الجديد "مدنسو الجثث"، وفيلم ستيفين سودربرغ "بطل التلال" ولكنها في مجموعها لا تخرج عن نطاق العادي... ومع هذا يحمل ملصق هذا العام لقطة من فيلم اميركي شهير من بطولة كاي غارنت. كأن السينما الاميركية تريد ان تلمع حتى في غيابها. غير ان غياب السينما الاميركية لا يعني بالطبع، ان المهرجان سيكون خالياً مما يجذب. اذ اننا لو تمعنا في برنامجه، سنكتشف ان ثمة الكثير مما هو منتظر من قبل النقاد والهواة على السواء مما من شأنه ان يعطي لدورة هذا العام طابعاً خاصاً، فنياً على الاغلب، حتى وان كان القيمون عليه لم يشاءوا له هذا الطابع. ونبدأ بالتظاهرتين الرئيسيتين: حفلة الافتتاح وحفلة الختام. هاتان الحفلتان سوف تكونان فرنسيتين وتحت شعار حضور النجمتين الاكبر في السينما الفرنسية الراهنة: كاترين دونوف التي سوف تحضر، من ناحية مزودة بالمجد الذي حققه فيلمها الاخير "الهند الصينية" في جوائز الاوسكار، ومن ناحية ثانية مزودة بالحزن الذي غلب على تقبلها لعدم اختيارها للفوز بجائزة افضل ممثلة في الاوسكار نفسها. بفيلمها الجديد "موسمي المفضل" الذي تعود فيه للعمل تحت ادارة احد ابرز مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة الثانية: اندريه تبشينيه، في شريط يروي حكاية عائلية عن شقيق وشقيقته وعلاقتهما مع امهما الممزقة. فيلم الافتتاح هذا ينتظره الكثيرون، اولاً لأسباب حضور كاترين دونوف فيه وثانياً بسبب مخرجه تبشينيه الذي يعود فيه بعد غياب. النجمة الثانية التي ستزين المهرجان بحضورها هي ايزابيل أدجاني، التي تعود هي الاخرى بعد غياب، في فيلم هزلي عنوانه "قضية مسمومة" تخوض فيه تجربة الاخراج للمرة الثانية مخرجة فرنسية من الصف الثاني هي فيلمومين اسبوزيتو. في هذا الفيلم تحمل ايزابيل آدجاني اسم بنيلوب، وهي عارضة ازياء تعيش حياة طريفة ومضطربة تمكنها من الالتقاء بعدد كبير من وجوه الفن والمجتمع وتعيش معهم مغامرات مضحكة. فيلم ايزابيل أدجاني هذا، سيختم المهرجان، بحضور صاحبته، وان كان لن يدخل المسابقة على عكس فيلم كاترين دونوف. في المسباقة الرسمية، وهي التظاهرة الاساسية في المهرجان، ستكون هناك افلام فرنسية اخرى: "لويس الملك الطفل" لروجيه بلانشون، و "حرريني" لآلان كافالييه. اولهما يعرض حالياً في الصالات الفرنسية بنجاح كبير، والثاني لا تعرف عنه اشياء كثيرة. ناطق باللغة الانكليزية من ايطاليا تحتوي المسابقة الرسمية على ثلاثة افلام، يقال انها لا تخلو من اهمية: "فيوريلي" للأخوين تافياني، اللذين سبق لهما ان شاركا في العديد من تظاهرات "كان" السابقة و "الرائع لبوبي افاتي، وهو مخرج هزلي ينتمي الى الجيل الأجد في الكوميديا الايطالية، و "المواكب" لريكي تونيازي، ابن الممثل الراحل اوغو تونيازي. ومن بريطانيا ثلاثة افلام لثلاثة من ابرز المخرجين البريطانيين الحاليين: كيف لوش في فيلمه المثير للسجال "احجار تنزل المطر"، ومايك لي في فيلمه "العاري" وخاصة كينيث براناغ، زوج ايما طومبسون، في خوضه من جديد للعبة السينما الشكسبيرية عبر فيله "اسمع جعجعة ولا أرى طحناً" المأخوذ عن مسرحية شكسبير المعروفة، حيث تلعب ايما طومبسون الدور الرئيسي، وتحضر الى كان مكللة بغار جائزة الاوسكار التي فازت بها اخيراً عن فيلمها "العودة الى هواردز اند" الذي كان احد اجمل افلام "كان" المنصرم. من الولاياتالمتحدة سيجذب المتفرجين خاصة فيلم مايكل دوغلاس الجديد من اخراج جويل شوساشر وعنوانه "السقوط" ويلعب فيه دوغلاس دور قاتل مهووس يطارده تحر عجوز. اما آبيل فيرارا الذي فاجأ مهرجان "كان" الفائت بفيلمه "الملازم السيئ" الذي عرض في تظاهرة ثانوية، فانه يعود هذا العام، مشاركاً في المسابقة الرئيسية بفيلمه الجديد "مدنسو الجثث" الذي يعيد فيه الى الشاشة حكاية مرعبة سبق ان عولجت اكثر من مرة قبل الآن، وان كان من المتوقع ان يضفي عليها اسلوب فيرارا جدة مفاجئة. والعمل الثالث المشارك والآتي من اميركا هو فيلم ستيفن سودربرغ "بطل التلال" وهو بدوره فيلم ينتظره الكثيرون من الذين بدأوا يعتادون على افلام هذا المخرج الشاب وعلى حضوره المثمر في المهرجانات. الى جانب هذه الافلام الرئيسية التي تشارك باسم البلدان الكبرى المنتجة للأفلام تعرض المسابقة الرسمية فيلمين صينيين، وعدة افلام من استراليا ونيوزيلندا وفيلماً من الاتحاد السوفياتي. اما الباحثون عن اسماء المخرجين الكبار، فان حصتهم محفوظة: فهناك اولاً، فيلم كوروسادا الجديد "ترنيمة المجد" الذي يعود به فنان السينما اليابانية الى مهرجان بدأ يعتاد عليه بشكل جدي، وهذا الفيلم الذي انجزه اكبر مخرج في تاريخ السينما العالمية سوف يعرض خارج المسابقة، وكذلك سيكون حال فيلم "طفل ماكون" للانكليزي بيتر غراناوي، الذي يعود بدوره الى "كان" بعد غياب، هو الذي تشغل افلامه دراسات النقاد والباحثين منذ ما لا يقل عن عشرة اعوام، وصار كلاسيكياً بين كبار الكلاسيكيين رغم قلة عدد افلامه، من "جريمة في حديقة انكليزية" الى "حديقة الحيوان" الى "بطن المهندس" الى "عرق حسب الترقيم"، الخ. ميل الى التجريب والطليعية "كلاسيكي" آخر سيتيح مهرجان "كان" فرصة لمشاهدة عمله الاخير، وان كان داخل المسابقة الرسمية هذه المرة، هو الألماني فيم فندرز الذي يقدم فيلمه الجديد "بعيداً جداً، وشديد القرب" الذي يعتبر بشكل من الاشكال استكمالاً لقصة كان انزلها في برلين قبل ان يزول جدارها في فيلمه "اجنحة الرغبة"... هنا في هذا الفيلم الجديد يتابع فندرز مسيرة واحد من الملاكين، عبر حكاية بطلتها هذه المرة ناستاسيا كينسكي، التي سبق لها ان عملت معه في عدد من افلامه وأبرزها "باريس تكساس". وكالعادة تحمل التظاهرات الاخرى العديد من الافلام الجديدة المتنوعة البلدان والمخرجين، والتي بالكاد يعرف عنها المهتمون بالسينما شيئاً، مع انها بعد المهرجان سوف يكون بعضها حديث الهواة لعام او اكثر. فتظاهرات مثل "نظرة ما" 24 فيلماً من نحو دزينة من البلدان و "اسبوع النقاد" 14 فيلماً يختارها نقاد السينما ويعطونها جوائزهم و "خمس عشرية المخرجين" وهي تظاهرة تهتم خاصة بمخرجين معروفين او نصف معروفين وترتدي افلامها طابعاً فنياً لا شك فيه، هذه التظاهرات تمتلئ بالافلام وغالباً ما تكون جيدة وفي مرات عديدة تقدم اكتشافات مدهشة. ولكن دائماً ما يكون من الصعب الحديث عن مثل هذه التظاهرات قبل المهرجان. المهم في الامر ان مثل هذه التظاهرات كان في العادة يقدم فرصة لعرض العديد من الافلام العربية او التي يحققها مخرجون عرب، ولكن يبدو حتى الآن ان العرب سيكونون الغائبين الرئيسيين عنها. اذ ان كل البرامج حتى كتابة هذه السطور، لا تتحدث عن اي حضور عربي، هذا على الرغم من ان كثيرين من السينمائيين العرب كانوا رشحوا افلامهم للعرض، بل وان بعضهم لم يفته ان يملأ الصحف العربية اخباراً طوال الشهور الفائتة، حول "مشاركته المؤكدة" في هذه التظاهرة او تلك من تظاهرات "كان"! العرب هذه المرة غائبون على الارجح، لكن آسيا القصوى حاضرة، والانكليز حاضرون والتجارب الجديدة من بلدان عديدة حاضرة... وكذلك تحضر سينما المرأة بقوة من خلال افلام عديدة. اما لجنة التحكيم فان تركيبتها ربما كانت الاقدر على تفسير الطابع الفني بالمعنى الحرفي للكلمة الذي يطغى على اختيارات هذا العام. فلجنة يرأسها المخرج الفرنسي لوي مال احد اقطاب الموجة الجديدة في الماضي، وأحد كبار المجددين في الحاضر وتضم بين اعضائها كلوديا كاردينالي التي عرفت احلى ساعات مجدها مع فيرسكونتي وغيره، كما تضم المخرجين البوسني أمير كوستوريكا، والايراني عباس كياروستاني وكلاهما كرمهما "كان" في الماضي مراراً والممثلة جودي دايفيز. لجنة مثل هذه لا يمكنها بالطبع الا ان تنكب بالفعل على افلام طليعية فهل يمكننا ان نقول بأن مهرجان كان لهذا العام سيكون واحداً من اكثر المهرجانات اهتماماً، بالشأن الطليعي والتجريبي في السينما؟ وهل معنى هذا ان الصخب الانفتاحي الذي اعلنه جيل جاكوب خلال السنوات الماضية اسفر عن فشل ما؟ الحكم على الامور من هذه الزاوية لا يزال غير ممكن، اذ علينا اولاً ان نرى الحدود التي تنبني عليها تجريبية الافلام المشاركة، والتي يحمل كل منها ما كان من شأنه ان اقنع جيل كاكوب ولجنته باختياراتها.