على رغم سنوات كوبا الطويلة تحت قبضة فيديل كاسترو بشعاراته الاشتراكية، وسياساته الشيوعية، وحربه ضد الامبريالية، فان الاخيرة تركت في بلاده اسلوب حياة لم يمحه مرور الأيام: انها دراجات "هارلي ديفيدسون" النارية، التي لا تزال قيادتها وامتلاكها حلماً لدى شباب كوبا حتى بعدما توقفت الشركة الاميركية التي صنعتها عن انتاجها قبل نحو أربعين عاماً. عرفت دراجات هارلي ديفيدسون النارية طريقها الى كوبا قبيل ثورة العام 1959 التي قادها فيديل كاسترو. كان كاميلو تشيافويغوس - وهو بطل وطني لا يعرفه كثيرون خارج كوبا - مغرماً بتلك الدراجات الى درجة الهوس. عندما بدأ كاسترو، وأخوه راؤول، ثورتهما ضد نظام الديكتاتور باتيستا كانت تدعمهما ميليشيتان: احداهما يتزعمها ارنستو تشي غيفارا، ويقود الأخرى تشيافويغوس. كان كاسترو وأخوه من أبناء الأسر الثرية. أما غيفارا فهو طبيب ثائر من الارجنتين. لكن تشيافويغوس كان من العامة، من بيت كوبي فقير. التحق في مستهل الاربعينات بكلية الفنون الجميلة، لكنه اضطر الى الانقطاع عنها بسبب نقص الأموال. ووجد نفسه مرغماً على الهجرة الى فلوريدا حيث عمل في مهن عدة، غير انه عرف دراجة "هارلي ديفيدسون" هناك. ولما عاد واستقر في هافانا اثر نجاح الثورة الكوبية لم يتخل عن ولعه بتلك الدراجة النارية الضخمة. تخليد البطل الثائر وذات يوم، في تشرين الأول اكتوبر 1959 اختفت في ظروف غامضة طائرة أقلّت تشيافويغوس من مطار صغير، في احدى مدن شمال كوبا. وبغض النظر عما اذا كان لقي مصرعه بفعل رداءة الاحوال الجوية أو بفعل فاعل، فان تشيافويغوس ارتفع في نظر الكوبيين من مجرد بطل وطني الى "قديس". وباتت الدراجة النارية التي أحبّها وهام بها رمزاً لتخليده. ولم يبق اليوم في منطقة هافانا اكثر من نحو مئة دراجة نارية من ذلك الطراز، يحرص مالكوها على تزيينها، وتركيب قطع غيار من انتاج شركات أخرى بسبب عدم وجود قطع غيارها الاصلية في كوبا. ويحرصون كذلك على وضع علب معدنية مفتوحة من جانب واحد أمام انبوبي العادم اشُكمان ليصبح الصوت الصادر عن المحرك فريداً وضخماً. كانت الولاياتالمتحدة تهيمن على معظم أوجه النشاط الاقتصادي والسياسي في كوبا قبل ثورة العام 1959. وكانت تسيطر إبان عهد الديكتاتور باتيستا على 40 في المئة من صناعة السكر، وعلى نحو 90 في المئة من المناجم، ونحن 80 في المئة من الخدمات العمومية والسكك الحديد. وأمطر الأميركيون الجزيرة الكوبية ابان تلك الفترة بالسلع والنمط الاستهلاكي الذي لا يزال السمة الأساسية المميزة لحياة الفرد الأميركية. "الهارليستا" في هافانا كانت دراجة "هارلي ديفيدسون" النارية احدى تلك السلع التي أغرق بها الاميركيون الشوارع الكوبية. وكانت قوات الشرطة تستخدمها طوال عهد باتيستا. غير ان الكوبيين لم يأبهوا كثيراً بالقضاء على هذه الدراجات، أو الثورة على مالكيها، بعد نجاح الثورة الكوبية لأنها ارتبطت في نظرهم بالبطل تشيافويغوس. وأضحى المهووسون بامتلاك وقيادة هذه الدراجات النارية العتيقة يطلق عليهم في هافانا "هارليستاس" نسبة الى اسم الدراجات نفسها. وتنتشر وسط الپ"هارليستاس" شعارات براقة يحرصون على التمسك بها، وكتابتها على قمصانهم الصيفية، منها: "كاميلو تشيافويغوس اعظم شهداء الثورة"... "نحن "هاليستاس" حتى النخاع"... "دع دراجة "هارلي" توحد العالم كله". ومع ذلك فان عشاق هذه الدراجات النارية يشعرون بالاستياء الشديد من استمرار كاسترو طوال الاعوام الثلاثين الماضية في رفض الانفتاح. وأدى ذلك - علاوة على الحظر الذي تفرضه الولاياتالمتحدة على كوبا - الى استحالة استيراد قطع الغيار والطرازات الحديثة من دراجات "هارلي ديفيدسون" وتزيد مشكلة النقص في قطع الغيار حدة عندما يتضح ان أقدم طراز موجود في هافانا اليوم كان من صنع العام 1933. فيما صنع احدث طراز منها العام 1970. الكنز المدفون ومن شدة هيام الكوبيين بهذه الدراجات فانهم ينسجون حولها الأقاويل والشائعات. ويقال في هافانا اليوم ان مئات من "هارلي ديفيدسون" التي كانت تملكها شرطة باتيستا دفنت في مكان مجهول. الطريف ان محاولة التكهن بمكان الدفن تثير جدلاً وتولّد أقاصيص وحكايات ممتعة. ذلك اذا عرفنا ان الجزيرة الكوبية شاسعة مترامية الاطراف قد يصل طولها الى نحو 700 ميل. اذاً في ظل هذا الحصار المتواصل، والفقر المتزايد، كيف ينجح "الهارليستا" في توفير قطع الغيار المطلوبة لدراجاتهم القديمة؟ لا بد لمن يزور هافانا أن يسمع في هذه الحال عبارة "BOLA ESCONDIDA" وتعني الكرة المخفية، وهي - بعبارة أخرى - القدرة على صنع المستحيل وتجاوز الصعوبات الناجمة عن استمرار الحصار اكثر من ثلاثة عقود. وتتجلى "بولا ايسكونديدا" هذه أكثر ما تتجلّى حين يتعلق الأمر بقطع الغيار المطلوبة لدراجات "هارلي ديفيدسون". اذ ان عبقرية اصحاب الورش ومحلات الصيانة تتبدى في مقدرتهم الفائقة على الابتكار. فهم يستطيعون تحويل بطاريات الطائرات القديمة لتناسب الدراجة النارية العتيقة. ومن مخلفات الجرارات الزراعية الايطالية يبرعون في صناعة قطع الغيار التي تحتاجها الدراجة المذكورة. كما انهم استطاعوا إعادة صنع أنبوب الضغط بيستون في محركات السيارات ليصبح مناسباً لمحرك "هارلي ديفيدسون". وبين الپ"هارليستا" بعض قدامى مالكي تلك الدراجات، منهم من عناصر تشيافويغوس، ومنهم من قاد "هارلي ديفيدسون" ضمن قوات شركة النظام الذي ابادته الثورة الكوبية. وبعض هؤلاء لا يزال يقوم بالألعاب البهلوانية فوق هذه الدراجات النارية التي تنعم بتدليل مالكيها منذ الاربعينات. اللادا والدراجة النارية ويدرك هواة جمع التحف القديمة في مختلف بلدان القارة الأوروبية ان معارض السيارات والدراجات النارية في هافانا تزخر بشتى أصناف المحركات التي لم يعد لها وجود في بلدانها الاصلية. خصوصاً الدراجات التي استخدمتها القوات الاميركية التي ارسلت الى أوروبا العام 1942 في نطاق معارك الحرب العالمية الثانية. وقد نجح مغامر ايطالي ذكي باقناع الحكومة الكوبية بأن تشارك في اقامة مشروع مشترك لتبديل دراجة "هارلي ديفيدسون" بسيارة من طراز لادا تبلغ قيمتها نحو 6 آلاف دولار اميركي، وتقوم الشركة الايطالية الكوبية باصلاح الدراجات وتصديرها الى أوروبا الغربية حيث تباع الواحدة منها بنحو 20 ألف دولار لهواة اقتناء الطرازات القديمة.