عرفت مسرحية "فاميليا" التونسية في لبنان نجاحاً منقطع النظير، أعاد الى الاذهان أجواء السنوات الذهبية للمسرح اللبناني، وكان بمثابة الصفعة التي أخرجت المسرح من سباته. حتى أن المخرج الفاضل الجعايبي يفكر جدياً في تقديم مسرحيته السابقة "كوميديا" على خشبة "مسرح بيروت" في وقت لاحق. المراسلة الثقافية ل "الوسط" رافقت هذا الحدث، وتتناوله في وقفة سريعة. كُتب الكثير عن مسرحية "فاميليا" التونسية، قبل نيلها جائزتي القاهرة وقرطاج العام الماضي، وبعد ذلك. لكن تقديم هذا العمل في لبنان، بدعوة من "مسرح بيروت"، كان له وقعه الخاص سواء على مستوى الجمهور أو الحركة المسرحية بشكل عام. ترافق عرض "فاميليا" في بيروت لعشرة أيام متواصلة، وأمام صالة ممتلئة، مع مجموعة نشاطات رافقت الحدث الفني وكرسته. من المؤتمر الصحافي الذي حضره المخرج/ المؤلف الفاضل الجعايبي مع أعضاء فرقته جليلة بكار بهجة، فاطمة بن سعيدان ببونة، صباح بوزويتة ملكة وكمال التواتي المفتش، الى جلسات المناقشة واللقاءات بمشاركة المخرجة سهام ناصر والاديب الناقد محمد دكروب...، مروراً بالاحتفال الخاص بالعرض المئة للمسرحية في بيروت. لكن هذا الحدث الثقافي جاء قبل كل شيء "صفعة" فنية، تلقفها الجمهور اللبناني الخارج من خدر طويل هو الذي انقطعت علاقته بالاعمال الممتعة والناضجة التي حفل بها العصر الذهبي للمدينة ولحركتها المسرحية. فالجعايبي ورفاقه من نخبة فناني تونس، كانوا بمثابة الزائر الذي حمل الينا فرحة العيد بعد سنوات الخواء، وأيقظنا من سبات مسرحي لجأنا اليه صاغرين أحياناً، هرباً من العروض شبه المحترفة، والاعمال التجارية التي نبتت كالفطر السام على ضفاف الحرب الاهلية بيأسها وافلاسها الثقافي. مع "فاميليا" فهمنا سبب ضجرنا كل هذه السنوات، وتأكدنا أخيراً من صحّة انحيازنا. فعندما قاطعنا المسرح، كنا نحتج على استخفاف بعض المسرحيين اللبنانيين - الطليعيين أحياناً! - بنا وبتاريخهم... ومع "فاميليا" اكتشفنا أيضاً أن الجوائز التي تعطى في المهرجانات المسرحية العربية، يمكن أن تكون منصفة ومحقة، فاحترمناها. صمت الجمهور اللبناني. تألم وفرح وصفق كثيراً. تهيّب المنظمون والممثلون في البدء من لقاء المشاهد اللبناني، وتخوّفوا من عدم وصول اللهجة التونسية اليه، خاصة وأن العجائز الثلاث ينطقنها بطريقة خاصة جداً. لكن المشاهدين قطعوا أنفاسهم، وعاشوا على مدى ساعتين ونيف مع الشخصيات حتى الاندماج التام. لذا كان لا بد أن نسأل: هل بوسع أولئك العجائز العودة الى أعمارهن الحقيقية خارج الخشبة؟ هل بوسعهن التخلص من مشاعر المرض والوحدة والضعف والغيرة والحقد... عندما ستسقط بعد قليل ستارة الفصل الاخير؟ مسرحية الجعايببي أعادتنا الى انسانيتنا، من خلال معاناة كل من الشخصيات المحاصرة في عزلتها، وحيدة ومنبوذة ومكبوتة، حالمة مشتاقة الى الحب، متعطشة الى الانتقام من عدو غامض اسمه الحياة. شممنا رائحة المقبرة وورودها دون أن نراها. أحسسنا بثقل عتمة البيوت، حيث تشيخ الارامل وحدهن، وينغلقن على الوحشة والذكريات في انتظار الموت. بكّار، بوزويتة وبن سعيدان تقمصن أدوارهن بمهارة، فإذا بهن عجائز حقيقيات، بمشيتهن المتعثرة، وأجسادهن المترهلة كمشاعرهن، و ألسنة لم تتعب من الثأر، و"وجبات" الاسنان الاصطناعية. كان ألمهن ينتقل الى الصالة كالعدوى، فنشم الروائح الكريهة المتصاعدة من أعماقنا... داخل جدران ذلك البيت، وخلف الستائر السميكة، تربصنا العمر الهارب معهن، ولعبنا لعبة الموت كأننا في فيلم بوليسي يسهّل قبول الحقيقة المرة. جميلة "ببونة" في وقفتها اليائسة، تستعيد أيام العز - حين كانت راقصة باليه - وهي على حافة الموت، وجارح سعالها وصمتها. ورائعة ملكة في تعبيرها عن تمسكها بالحياة والحب، من دون أن تنسى تقدمها في السن: "هل بوسعك تقبيلي من دون افراط حرصاً على تنفسي؟" تقول للمفتش. ومدهشة بهجة، حين يتحرك في عروقها المتيبسة دم الشباب، فتنفض عنها الثمانين وتعود الى ألقها لحظات يضيع معها الجمهور بين الحقيقة والخيال. وهنا تشتعل الصالة بالتصفيق لهذه المهارة في الانتقال بين حالتين متناقضتين الكهولة والشباب في غضون ثوان. عالم قاس كان يتجول أمامنا على المسرح بملابسه الداخلية، ويروي هواجسه وكأن أحداً لا يسمعه. وفي القاعة المظلمة، استسلمنا لهذا الطقس الغريب الذي أقحمنا فيه المخرج التونسي البارز الفاضل الجعايبي.