الفاضل الجعايبي غني عن التعريف، وتجربته المتحدرة من مختبر "المسرح الجديد" في تونس تحتل اليوم موقعاً متقدماً على الساحة المسرحية العربية. بعد "كوميديا" 1991، يجيء عمله الجديد "فاميليا" ليكمل هذه التجربة ويدفعها الى الذروة. ننشر في ما يأتي قراءة نقدية للمسرحية التي افتتحت على خشبة "التياترو" في العاصمة التونسية، قبل ان يستضيفها حالياً "مهرجان الحمامات" ضمن تظاهرة "أيام المسرح المتوسطي". كان منتظراً ان يكون عرض "فاميليا" العائلة في استعمال افرنجي شائع في تونس، في الخط المعروف لمسرح الفاضل الجعايبي، وفي مستوى حلمه بالحداثة كما انبرى للتعريف به في لقاء صحفي سبق افتتاح المسرحية. وفي ظلام قاعة "التياترو"، ذلك المسرح الحالم ايضاً بدور حداثي في تهيئته ومشروعه الثقافي. كان متوقعاً ان نرى شخصيات تتحرك وتتكلم حسب تواضعات اسلوب "المسرح الجديد" المألوفة: شخصيات هستيرية لها سمات متفردة، ومآس ذاتية مما يزخر به الواقع اليومي، وتلف كل ذلك مرجعية ذهنية غربية. وفيما انظار المشاهدين تنتظر بدء العرض، متنزهة بقلق بين عناصر الديكور القليلة الموزعة على حيز مشهدي بسيط: بعض الكراسي المصطفة في وضعية مواجهة للصالة وطاولة عارية على اليسار، اذا بنا نسمع فجأة اصوات وصرخات في آخر القاعة من وراء الجمهور. كن ثلاث نساء... وليس جديداً ان تبرز الشخصيات في الظلام من حيث لا يتوقعها احد، فقد اصبح ذلك من الاساليب المعتادة. ولكن الفاضل الجعايبي احدث بتفجير الصرخات والاصوات في ظهر المتفرج تحويلاً مفاجئاً للاهتمام من الحيّز المنظور الى فضاء الحكاية. فمنذ تلك اللحظة التي شهدت عبور الاشباح الثلاثة، تتلاحق وتتشاتم وتتباصق بين صفوف المشاهدين، لم يعد بالامكان الافلات من العرض قبل الظلام الاخير. هكذا وجد المشاهد نفسه داخل طقس قائم على سحر لغة متفجرة غزيرة غطّت على كل عناصر الحفل المسرحي، معطلة تواضعاته، مكيفة اجواءه بروح السرد الخرافي، دافعة بالجعايبي الى مياه شعرية لم يخض فيها من قبل. لكأنه، وقد استكمل في "فاميليا" ادواته الاسلوبية، يبعثر في الوقت ذاته، بحركة يد عابثة، تراثه القديم كمسرحي متشبث بالميثولوجيات اليومية وبتفجير البراكين الداخلية، عبر توليدات الدراما النفسية. والمفارقة ان اسلوب المخرج وبلاغته وعناصره المنظورة لا تزال ماثلة هنا، وتقنية التوليد النفسي التي عرف بها لا تزال تحتل المكانة نفسها في بناء الشخصيات. ان جديد الجعايبي في هذا العمل يتمثل في سعيه الى التعبير عن واقع ما، عن فكرة يحاول طرحها على نحو مركزي وأساسي، جاهداً في ابرازها كحقيقة مستقلة وان تداخلت مع سائر عناصر مقاربته التعددية المعروفة لبناء الحدث المسرحي. كما ان المسرحي التونسي يدير ظهره هذه المرة للتجريبية المسترسلة التي كانت في الاعمال السابقة "العوادة"، "كوميديا" تحدد المسرحية كحصيلة اجتهادات مشتركة بين الممثلين وبين المؤلف/المخرج. الحبكة البوليسية إطاراً كنّ سبع اخوات، قبل ان يخطف الموت منهن اربعاً، صرن ثلاث اخوات اذاً. سبع، ثلاث... ويحيلك سحر العدد على طقوس الخرافة، فكأنك لم تدخل مسرحاً، وانما جلست مصغياً الى جدتك تصحبك على حافة عالم غامض. ثلاث اخوات يعشن في شبه عزلة ويحكم علاقتهن بالمحيط الحذر والخوف: الكبرى بابونة، عجوز فانية مصدورة ومصروعة، والوسطى بهجة نيّفت على السبعين، حازمة ومتحكمة ونصف مثقفة مثلما يبدو من لغتها المرصّعة بكلمات وعبارات فرنسية تؤكد تسلّطها على اختيها، وأخيراً ملكة المعذبة، وقد جاوزت الستين، بجسد شبق متمرد على الشيخوخة. يظهر التهامي المفتش البوليسي في حياتهن الموحشة التي اقفرها الطلاق او الترمل، مخترقاً النسيج العنكبي الذي نسجته حولهن خوفاً من الاعتداءات والتحرشات الخارجية. ظهر بينهن بقناع السلطة الجامد الملامح، محققا مستفسراً، حاشراً انفه في الخفايا المشبوهة لحياتهن. ملقياً اسئلته الملحة المفخخة عن ماضيهن وحاضرهن، عن اخوتهن الاربع اللائي توفين في ظروف غامضة. وجد التهامي في ملكة الملتهبة الحواس، وقد استمالها، الذريعة والوسيط للنزول الى جحيم العجائز والتجول بين اطلال ذواتهن. وتفاقم بظهوره الكره والصراع بينهن ليبلغ ذروة فجّرت كل ما كان رتيباً ومنظّماً في حياتهن. ويستغرق رفع الحجاب عن المآسي والذكريات الجميلة والقبيحة جلّ وقت المسرحية... الى ان يبرد رماد الحريق بتغير صورة التهامي الذي تبيّن انه كان مفتشاً مزيفاً مثلما كان عاشقاً مزيفاً. وفي جلسة اخيرة امام عدسة الابدية، تصطف الاخوات الثلاث، فانيات منتظرات الموت ولكنهن راضيات وقد ازحن من حياتهن الرجل الذي حرّك، لفترة، بركتهن العطنة الآسنة. وكما جرت العادة في اكثر اعمال "المسرح الجديد"، فان الوقائع تنتظم في حبكة بوليسية قوامها تحريات عن جريمة وبحث عن قاتل. ولفاضل الجعايبي ولع بهذا الاسلوب الذي يمكّنه من تكثيف التساؤل حول شخصياته، على نحو تصاعدي، حتى ذروة القصة. كما يفيد منها لابراز حقيقة او حدث ذي مغزى عند حل العقدة في النهاية. اننا نرى كيف يضيق الخناق على بهجة من خلال ملاحقة التهامي لها بالاسئلة المربكة عن تحركاتها المشبوهة فتعترف اخيراً بالأسباب التي كانت تدفعها الى قتل اخواتها لتنهب اموالهن. ولكن البنية القصصية تبقى، مع ذلك، غير اساسية - وربما عديمة الجدوى - بإزاء المادة الشعرية المنسابة كمرثية للزمن والذاكرة. قيل ان "فاميليا" تطرح موضوع الشيخوخة. ولو كان ذلك فعلاً ما قصد اليه الجعايبي، لأمكن القول بقصور نظرته عن استيعاب ثراء الواقع. فالشيخوخة في المجتمع التونسي لا علاقة لها بالنماذج والاوضاع القصوى التي تعرضها المسرحية، اذ لا بد من التسليم بأن ما يحدث لأولئك العجائز، او ما يمارسنه او ما يدور في خلدهن لا يعبر بصدق عن واقع الشيخوخة. ولعل خروج تلك النماذج والاوضاع عن المعتاد هو الذي دفع بأحد النقاد الى الاعتقاد بأن "فاميليا" انما هي "قصة عائلة يهودية"!... وعندما انتفى التهامي طرف صراع في نهاية المسرحية، عادت الاخوات الثلاث الى الانصهار في وجود متجانس، والانخراط في ذاكرة موحدة. فكأنما سمح حضوره المستفز بتبلور ذاتي للزمن عند كل واحدة منهن: بهجة تمثل الزمن المتجه ببرود ومنهجية نحو تنفيذ ما تسطّره ذاكرة واعية ومنتقمة. بابونة هي زمن الذاكرة المبعثرة التي تقطعها نوبات الصرع والاختناق. اما ملكة فصورة للجسد في هستيريا الرغبة، حيث ينتفي كل وعي بالزمن خارج اهتزازات الغفلة. اللغة وذاكرة المجتمع التونسي فاذا لم يكن موضوع "فاميليا" هو الشيخوخة، واذا لم تكن العجائز ذوات متميزة، وانما اقانيم لحقيقة واحدة، فما هي هذه الحقيقة؟ ليس من اليسير رسم ملامح الهاجس او الهواجس الباطنة التي ينبني عليها هذا العمل المتفجر الدلالات. ولعلنا مضطرون للوقوف فقط على تلميحاته الظاهرة عن العزلة والعجز والفراغ والاغتراب والانقطاع عن الجذور وتفتت الذات... وهي معان تعبر، شعرياً، عن وعي ما ببعض جوانب مشكلة الذاكرة الحضارية للمجتمع التونسي. ولعل الفاضل الجعايبي قد استعان بواقع العجز الجسدي والهرم ليرسم صورة مجازية لذاكرة متأزمة. وتبدو الحدة التعبيرية القاسية لتلك الصورة تعبيراً عن كيان يريد اثبات شرعية وجوده في استعلاء، بازاء التحولات الموضوعية والمحاولات الحقيقية او المفترضة لطمس ملامحه. ويتجسد ذلك الكيان في نوعية الحوار الذي تقوم عليه المسرحية. فاللغة المستعملة بين الشخصيات، هي العامية التونسية الانيقة كما يستعملها اهل تونس العاصمة، كأنها ترمز الى وجود مديني حضري في طريقه الى التراجع والانحسار. اللغة هنا هي الذاكرة نفسها، في توزعها بين الاحتفال بقيمة ملحمية واطار ثقافي وانساني، وبين الافتتان النرجسي بثوبها القشيب. والواقع ان البون شاسع بين لغة "فاميليا" الشعرية وبين المستوى الوظيفي للغة المحكية في مدينة تونس التي تشكو الآن كغيرها من اللهجات التونسية، فقراً مطرداً في جمالياتها وفي مخزونها الدلالي، وتعاني يومياً من اجتياح المفردات والعبارات الفرنسية لها، اجتياح البرص للجسد. ان اللغة تبدو بازاء نسبية العناصر الاخرى للمسرحية، الضامن لاستمرارية الذاكرة، كبناء لفظي وكظاهرة شعرية مستقلة عن دورها الوظيفي. وقد كان ذاك وضعها في اعمال "المسرح الجديد" المختلفة منذ بداياته، وخاصة في مسرحية "غسّالة النوادر" التي يجري فيها سيل القول مفتتناً بمادته البرّاقة المنمقة، في صيغ عتيقة ضمن موضوع ذات ابعاد اجتماعية على مستوى الخطاب والتطلعات الايديولوجية وفي "فاميليا" تحمل اللغة ايضاً مرجعية شعرية واجتماعية محددة تتصل بالحياة الحضرية، كأنها تخشى ان يخالط نقاءها شظف الكلام الريفي، مثلما تخشى المجتمعات المهووسة بالنقاء الامتزاج - المحتوم تاريخياً - بعناصر دخيلة. ان اللغة/الذاكرة، المخلدة لوقائع الذات الجماعية، والحافظة لشرعية استمرارها الثقافي، هي حجر الرحى في هذا العمل الذي وضعت طاقاته الجمالية والتعبيرية لخدمة مشروع تنكشف فيه العورات واحدة فواحدة، فيبين العجز والتخاذل وتقريع الذات، وفي الوقت ذاته تتحقق الهوية المشتتة لذلك الكيان في جسد اللغة المنتصرة، مثلما تتوحد الاخوات الثلاث ويذبن في نقاء ذاكرتهن المستعادة بعد خلاصها من "الآخر الغريب". لقد اعلن الجعايبي في حديث صحفي انه اعتمد اقصى درجات الاقتصاد في التعبير، والواقع ان المسرحية مزدحمة بشتى الأساليب، وقد تتكامل فيها احياناً او تتوازى جماليات مختلفة: المنحى الايهامي ونقيضه الاسلوب الملحمي، المأساة والفكاهة وربما الهزل. وقد يكون اهم ما توصل اليه الفاضل الجعايبي، هو تقديمه لوسائط تعبيرية مختلفة تبدو في توازن ظاهر يدل على كفاءة حرفية عالية. ولا شك في ان عري الحيز المشهدي خدم الى حد ما انسياب السيل اللغوي. ولم يتعارض اداء الممثلين المغرق احياناً في الايهام، مع المعالجة الملحمية للموسيقى والاضواء التي وظّفها المخرج بتفوق، ناجحاً في ضبط الايقاع الزمني للمسرحية، ومستعملاً احياناً الايجاز السينمائي. ولعل من اسباب النجاح الحاسم لمسرحية "فاميليا"، ذلك التكامل بين مخرج لا يهدأ قلقه الابداعي، وبين ممثلين جليلة بكّار، فاطمة بن سعيدان، صباح بوزويتة، كمال التواتي هم من اقدر الكفاءات الفنية في تونس والعالم العربي.