كل كاتب له حكايته الحميمة، ومنابع إلهامه السرية التي لا يشاركه فيها أحد. وكل كاتب كبير له مع حرفته، أو صنعته، أو إبداعه، قصة بدأت على حين غفلة ولن تنتهي إلا بانتهاء مغامرته الادبية المتعرجة والشائكة أغلب الاحيان. وكواليس العملية الابداعية عادة، حديقة نائية مسيّجة بعناية، مموهة خلف أشجار غابة الادب، لا تطأها قدم غريبة. لكننا جميعاً نحلم بارتيادها، أو بالاقتراب منها بشكل أو بآخر: كيف التقط هذا الاديب، أو تلك الاديبة، لوثة الكتابة؟ وكيف بدأت علاقته، أو علاقتها، بكيمياء الكلمات والحروف، الافعال والصور والاصوات...؟ اذا بحثنا جيداً، في الصناديق الخفية، سرعان ما سنكتشف أن لكل مبدع ملهماً أو أكثر، كان الحافز الاول للارتماء في أحضان الكتابة. كل سيرة أدبية تبدأ بلقاء، هو مفترق الطرق الذي يقسمها الى "ما قبل" ذلك الحدث و"ما بعده". فمن منا لم يقبض على نفسه، ولو مرة واحدة، متلبساً بالجرم المشهود، يحاول أن يتحرر من طيف يخيم على عالمه الخاص، أن يهرب من بصمات تركها في وجدانه كاتب تأثر به في مرحلة حاسمة من حياته؟... وما دام الادب لعبة قائمة على الخيال أولاً، وعلى استعادة أطياف الذاكرة أيضاً، فقد اقترحت "الوسط" على مجموعة من الادباء والاديبات العرب، من مختلف الاجيال والاقطار والحساسيات الفنية، أن يفتحوا لقرائها غرفهم السرية، متجهين من على صفحاتها الى مبدع عربي أو عالمي كبير، يدينون له بشرارة أولى، فتحَت أمامهم دروب الكتابة. عشرة كتاب وكاتبات هم، حسب التسلسل الابجدي: محمد بنيس، عباس بيضون، إدوار الخراط، غادة السمان، جمال الغيطاني، الفريد فرج، يوسف القعيد، علي اللواتي، نجيب محفوظ، اميلي نصرالله، قبلوا شاكرين أن يتجاوبوا مع هذه "اللعبة" الادبية، التي تسلط اضواء مهمة على تجربة كل منهم. جمعنا الردود في ملف، وننشرها في ما يأتي، تحت عنوان "رسالة الى الكاتب الذي غيّر حياتي". نجيب محفوظ الى المنفلوطي : وجّهت أحلامي وميلي الى الكتابة عزيزي المنفلوطي، كنت متجهاً الى العلم، وذلك لتفوقي في الرياضيات، إلا أنك جعلتني أولي الكتابة أهمية لم افطن لها من قبل، وغيرت أحلامي بعد أن كانت تنحصر في الهندسة والطب، فاذا بي أصبح كاتباً. وهذا التحول، أنا مدين به لك، أيها الكاتب الكبير. بفضلك بدأت أقرأ العقاد وطه حسين وسلامة موسى وآخرين، وتلاحظ كم حدد هؤلاء نوعية اختياراتي في الكتابة. لكن الفكر يطغى في نتاجهم على الابداع الادبي. ولعل قراءاتي المبكرة لكتبك هي السبب المباشر الذي وجهني الى دراسة الفلسفة. ومر وقت طويل نسبياً قبل أن أفهم أن ميلي الحقيقي هو الى الكتابة الادبية وليس الى الفكر. وأتذكر الآن بين كتاباتك نصاً، كان بالنسبة اليّ بمثابة الموجّه الرئيسي، هو مقدمة أحد كتبك، "العبرات" أو "النظرات"، حيث كتبت في المقدمة عن فن الكتابة وقيمته. وشغلني "الفكر"، وكان المفروض أن يشغلني "الابداع". فمعظم كتاباتك ترجمة، وكانت ثورتك اجتماعية. أما ثورة العقاد وطه حسين وسلامة موسى، ففكرية. المهم انني وصلت عبرك الى رجال التنوير، وكنت دائماً بين الفكر والابداع مع غلبة واضحة للفكر. ظلت الامور على هذه الحال، الى أن تخرجت من الجامعة سنة 1934. فبعد التخرج بعامين، تحولت الى الابداع. كنت أكتب المقالة بشكل أساسي والقصة على الهامش، فقررت اعطاء نفسي للقصة. قرأتُ كل ما كتبت، فهديتني الى الطريق على المستوى الشخصي، وجدت فيك نفسي بلا شك، وهيأتَ لي أكبر متعة عرفتها في حياتي وأكبر تقدير كان نصيبي منها. وأنا الآن اكتب كي اقول لك كل الشكر والامتنان الذي تستحقه، وكل الفضل الذي أدين به اليك. وأعتقد أن الحب الذي اكنّه لك، هو في الحقيقة حب يعتز أي كاتب بأن يحمل لك القراء مثله. والمنفلوطي فاز بهذا الحب من اجيال عديدة. والغريب انني لما دخلت عالم الكتابة، لم أكن امتداداً لرومانسيتك، بل نقيضاً لها. ولكن الشعلة كانت تستمد منك زخمها وتأججها. وأتذكر الآن أني ظللت، مدة طويلة بعد رحيلك، أحسبك لا تزال بيننا، حتى عرفت ذات مرة عن طريق المصادفة انك مت في يوم الاعتداء على سعد باشا زغلول، فكان النبأ بالنسبة الي بمثابة صدمة كبيرة. وأعترف لك أن صورة كبيرة لك كانت معلقة على حائط غرفتي... كما اذكر أنني قرأت مقالة حادة وعنيفة للمازني يهاجم فيها المنفلوطي وطريقته وأسلوبه، فآلمتني لدرجة أنني لم أذق طعم النوم تلك الليلة. فمصر لم تكن تعرف كتاباً كثيرين مثل المنفلوطي، حتى أن سعر المجلة كان يرتفع من قرش صاغ الى قرشين عندما كان يكتب في أحد اعدادها. إن انتشارك كان هائلاً، ولا يزال. فكم كانت دهشتي حين أعيد طبع أعمالك قبل سنوات، فلاحظت أنها نفدت كلها في وقت قليل. يبدو أن الرومانسية ما زالت مطلوبة عند القراء العرب. جمال الغيطاني الى أحمد بن أياس : الايقاع الداخلي للوقت مولاي واستاذي محمد أحمد بن أياس الحنفي المصري. يا شيخي الجليل سلاماً. ما يصلني بك أقوى وأمتن مما يربطني بأحياء ما زالوا يسعون. أكثر من خمسة قرون تفصل بيننا، لكنني أتمثلك وأتخيلك، وعندما أعايش كتابك الفذ "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، أكاد أصغي الى ايقاع أنفاسك، بل ومشاعرك لحظات تدوين الوقائع التاريخية التي مرت بك خلال العقود الاخيرة من القرن الخامس عشر، والثلاثين عاماً الاولى من القرن السادس عشر. أكاد أتخيل وضعك وأنت تجلس لتكتب ما يجري في القاهرة، بينما الحزن يعتصر روحك على ما يقترفه العثمانيون الغزاة في الشوارع. منك عرفت تلك المحاولة الانسانية للاصغاء الى الايقاع الداخلي للتاريخ، لسريان الزمن، لتوالي الصيرورة التي لا حيلة للبشر في الحد منها أو التأثير فيها، أي ما أسميه الايقاع الداخلي للوقت. منك التقطت الخيط وحاولت مدّه الى عالم الرواية، حيث تغوص الرؤية أكثر في ما لا يُرى. كنت يا شيخي ملماً محيطاً بالظاهرة، وحاولت أنا مسترشداً بك النفاذ الى الباطن، الى جوهر ما لا يُرى. عندما تعرفت على الزيني بركات بن موسى متولي حسبة القاهرة، توقفت أمام تدوينك لأخباره، واهتمامك به الذي سرى عندي، فنفخت فيه من عصري وهمومي وما يعانيه الناس في زمني من أمثاله، وأعدته مرة أخرى... ليتك تقرأه في الرواية المنقولة حتى الآن الى أربع عشرة لغة، متداولة في دول لم يكن لها وجود في زمنك. فتحتَ لي آفاقاً في اللغة، لم أبلغها الا من خلالك وبك. عندما طالعت سطورك اول مرة في بداية الستينات، انتبهت بالفطرة الى خصوصية سردك، وتلقائية الكتابة عندك. ونبهتني الى طرائق في السرد غير مألوفة، فسعيت وبدأت وما زلت احاول. عندك عايشت فترة كاملة كان ممكناً تبددها وضياعها لولا انك صنتها من العدم بتدوينك، لِما مر بها من احداث عظمى وحوادث يومية، وظواهر طبيعية. وانني لاقرأ وصفك للايام القاهرية الممطرة فأوشك على البلل، وأنا قابع في غرفتي الدافئة. "بدائع الزهور" في متناول يدي، فأنا يا شيخي أرتب مكتبتي طبقاً لعلاقتي بالكتب. عندي كل طبعاته، بولاق، طبعة كتاب الشعب، الطبعة الاكمل والأتم التي انفق الراحل محمد مصطفى عمره في تحقيقها... وعندما اتيحت لي الفرصة طالبت باعادة طبعها في مصر بعدما كانت تطبع لحساب جمعية المستشرقين الالمان، واستجاب الراحل صلاح عبدالصبور لما كتبت في جريدة "الاخبار" فأتيح كتابتك للقراء. وإني مجتهد الآن في اصدار طبعة تضم ايضاً الفهارس التي تقع في مجلدات ستة. فوق مكتبي صورة لأصل المخطوط الذي كتبته انت، انظر الى خطك، الى كلماتك، أحاول أن أبعث تلك اللحظات التي دونت فيها هذه السطور، أجاهد... لكن عبثاً، غير أنني انثني مرة أخرى واستأنف المحاولة بالفن، بالابداع الادبي، وهذا ما يصلني بك، أنا المريد يا شيخي الاجل، هذا ما يجمعنا... مقاومة العدم والنسيان. إميلي نصر الله الى جبران خليل جبران : الصوت الذي أخذني بيدي شاعري العزيز جبران خليل جبران، أفهم جيداً، معنى أن تحبك النساء، يا جبران. ويمكن أن أعتبر نفسي، ولو لفترة من عمري، واحدة منهن. فأنا، مثلك، ابنة قرية صغيرة ونائية. وقد نشأت في عزلة مجتمعي الريفي، بعيدة عن ملامسة تيارات الفكر والابداع. وكان، يمكن أن أعيش عمري كله، ولا اعرف من تكون، مثلي، مثل سائر الناس في أريافنا، وفي البلاد التي تجهل كبارها. ثم دار بي زماني دورة حظ، وانتقلت لاتابع دراستي الثانوية في معهد داخلي قريب من العاصمة. وهناك التقيتك، وكنت جالساً في محراب الابداع، هادئاً، ومشعاً في تجليات مؤلفاتك. الى جانب اعمالك، كانت هناك كتب عديدة، لشعراء وقصاصين. فلماذا، وحدك، من بين الجميع، استوليت عليّ فكراً وبهاء وحضوراً؟ حتى الآن، احاول استجلاء ذلك السر. فقد اقبلت على قراءتك، مثلما يقبل الظمآن على ينبوع ماء يتفجر وسط صحراء قيظه، فيشرب، ولا يرتوي، لأنه به ظمأ مزمناً. نعم، لقد عرفت من خلال قراءتك، معنى أن يعيش الانسان، على اكثر من مستوى. كنت أهرب معك الى زوايا بعيدة عن كل ازعاج، حتى لا يشاطرني حبك أحد، أو يشاركني أنسان متعتي في تذوق كلماتك، شعراً أو نثراً، أو نفحات نفس تائهة، وكأنها سقطت في غفلة منها من أحد الكواكب المجهولة، ثم قضيت العمر في محاولات البحث عن كيانها. في ذلك الزمان البعيد، لم أكن أعد نفسي لأكتب. فقط، كان امامي ذلك العطاء الغني، أغرف منه، ولا أرتوي. بعدك، قرأت مئات الكتب، وأعجبت بعشرات المؤلفين، وعلى شتى المستويات الفكرية والابداعية... لكني، أعترف لك، وبصدق، بأنني لم اتذوق عند سواك، تلك المتعة الآسرة، ولم يبق واحد من المؤلفين، حاضراً فيّ، نابضاً في وعيي، مثلما بقيت أنت. وأن سألتني اليوم كيف هي حالي معك، اجيبك ببساطة: انك لا تزال حبي الادبي الاول، الينبوع العذب الذي وردت، والصوت الذي فجر فيّ الطاقات الكامنة، ثم، وبكثير من الهدوء، اخذ بيدي، وقادني صوب عالم الابداع. محمد بنيس الى محمد الخمار الكنوني : كثيرة هي شكوكي، ولا انتظر منك جواباً عزيزي محمد الخمّار الكنوني، أكتب اليك رسالة وأنت مسافر حيث لا أدري. جثتك هادئة في قبرها، في القصر الكبير، الى جانب جثة أبيك. رسائل قليلة كنا تبادلناها، بعد سنة من لقائنا الاول في "ظهر المهراز". كنت اكاتبك اكثر من مرة لأستلم رسالة غالباً ما تكون قصيرة. ملاحظات على قصائدي او طلب كتب من مكتبات فاس. ورسالتي الحالية لا تنتظر جواباً، رغم انها تتوجه اليك، في سفرك الخفي عن المدارك. لست بخيرٍ تماماً، كما كنت تعرفني منذ العام 1965. التاريخ لا يحدد حالتي الشخصية، هو مجرد نقطة ثبتنا فيها لقاءً غير نهائي توجهي الدراسي، وغيّر، في الوقت ذاته، علاقتي بالمعرفة. أما زلت تتذكر يوم وضعت بين يديك ورقة مطوية، وفي اليوم التالي قلت لي "اكتب"؟ ذلك اليوم المحموم، الذي احسست فيه ان ولعي بالرياضيات هو مجرد عبث، فانقلب كل شيءٍ في دراستي، من غير علم احد، حتى جاءت لحظة الحسم مع اساتذتي، الذين لم يفهموا كيف اتخلى عن التوجه الى شعبة العلوم، من اجل الالتحاق بشعبة الادب! يوم محموم ايقنت فيه ان يدي اقوى مني، ان عائلتي واصدقائي سيثورون عليّ جميعاً، بلا هوادة. واستمعت الى كلمتك ثم رأيتها تنزل في الصدر، كأمر قادم من بعيد اجهل عنه كل شيء. لم يعلمني الشعر احد في صباي. فالمجتمع الفاسي غريب عن الشعر. وكنت اثناء قراءتي شبه وحيد امام الشعر. قصائد المتنبي او الشابي او كتابات جبران كانت تستولي على جسدي ولا اعرف سبب ذلك. وعندما التقيتك، وانا متمرد على العائلة، عثرت فيك على شخص غريب هو الآخر. تقرأ لي احدى قصائدك المكتوبة بخط جميل، فأحس بالكلمات تنساب في دمائي. وتقرأ لي قصائد السياب فأخفض رأسي لأستقبل هذا النشيد المأسوي، وهو يستحضر الموت والفقدان. شيئاً فشيئاً اصبح الشعر كلامنا اليومي، ورافقتك في الوحدة التي كانت مسكني الوحيد. مرات كنت تنظر اليّ وتصمت. علمتني كيف ابحث عن يدي وصمتي في آن. والصمت ينفجر اسئلة عن الشعر في المغرب. ما معنى ان تكتب الشعر بالعربية الفصحى في المغرب؟ ومن اين يبدأ تحديث القصيدة المغربية؟ وما مآل الشاعر الذي اختار الشعر وليست له قبيلة تحميه؟ في عز الصمت مرة قلت لي: "لو كنت الآن يافعاً، لما اخترت غير ما أنا عليه الآن. الشعر وحده حياتي". ومصادفة اللقاء بك عجلت اختياري. لم أفاجأ بكل ما اعترض حياتي، ولكني لم أكن أتخيل كل هذه الاهوال! ولا ذنب لك في ذلك. ونحن لا نعرف بعد مآل العديد من اجدادنا الشعراء المغاربة. والحديثون غرباء أو صامتون. علمتني مسؤولية الكتابة. القراءة والمعرفة واللغة. ثم اتى الوقت الذي صرحت لي فيه "لم يعد لي ما اعلمه لك، فاكتشف طريقك وحدك". هكذا، دفعة واحدة، اصبح تورطي في الشعر، وفي الحياة الثقافية، يتضاعف بمخاطره. وانت تتفق معي او تختلف. وبحرية نتناقش القصائد او الابدالات الثقافية والمعرفية ونتأمل ما يقع في عالمنا. هل كتبت شعراً؟ هل بحثت عن قصيدتي؟ كثيرة هي شكوكي. ولا انتظر منك الآن جواباً. اراك فقط تجالسني، في هذه الليلة، وانا اكتب اليك. تضحك وانت تقرأ مخطوط ديوان شاعر مغربي قديم. تستمر في الضحك ولا اسألك. تقلب الصفحات، وتقرأ رسالة من شاعر سيموت. عباس بيضون الى يانيس ريتسوس : قرأتك بحثاً عن أجوبة ... عزيزي يانيس ريتسوس، لم يتسن لي أن أراك. كنت وأنا مقيم على كسلي، انتظر أن أراك. سبق لجريدة ان اقترحت عليّ أن أجري حديثاً طويلاً كتاباً معك، وبتكاليف السفر وحدها، فوافقت، لكن الجريدة أهملت الموضوع ولم تعد اليه. مع ذلك لم أشك في أنني سأراك. يبدو غريباً أن الح على ذلك، فما حاجتنا الى رؤية شعراء نحبهم؟ ألم اهمل عمداً رؤية بدر شاكر السياب حين زار مدينتي الصغيرة صور وأقام فيها أمسية؟ لم اذهب الى الامسية لا لسبب، الا لكسل طالما أخّرني عن مواعيد غرامية، وطالما أقعدني عن أمور لا تحتاج لغير السعي والخروج. أقعدني عن النشر حتى نيّفت على الثلاثين، كسل أم سواه لا أدري. ثم ما حاجة المرء لأن يرى المتنبي أو ريلكه، بل ما حاجة المرء الى رؤية فيروز مثلاً؟ اما انت، فكان لك شأن آخر مذ رأيت صورتك بعيد قراءتك او عندها، لا اذكر، أحسست أنك قريب لي، عم أو أب . ولم اقرأك لمتعة القراءة وحدها، بل بحثاً عن أجوبة، أجوبة أقول بخجل إنها لا تعني الشعر وحده، بل الحياة ايضاً، أليس الشعر من الحياة؟ لا اذكر، لكنني لست ادقق الآن في الفاظي. وجدت أن الموت خيط دائم في شعرك، ولست من الذين يستهويهم شعر موضوعه الموت. ربما أتطيّر من ذلك، ربما اخاف على الشعر من وطأة الموضوعات الكبيرة، لا يهم. لكنني أقرأ الموت في شعرك وأعرف انك معذب به، تماماً كما هو لي، وأنك لا تجعل منه موضوعاً، لكنه يحفر تحت كلامك. انه حساسية لا ينجح الكلام تماماً في ان يتخلص منها، بل تبقى في عمق شبر من الكلام، شبر واحد، كلما توغلنا قليلا وجدناها او احسسنا دون ان نتوغل بنومها، بل بقلقها تحته. لماذا كنت لا اخاف ان اقرأ عن الموت في شعرك؟ لأن شعرك كان يعطيني قوة عليه. ليس القوة تماماً فالالفاظ تخونني. ليس القوة بل الرجاء وربما ايضاً لا اجد الكلمة، انه الاحساس بأن كلامك لا يستدعي الموت، ولا يطرده ايضاً، لكنه يوسّع الحياة به، لا يخرجه من الحياة. يعرف انه موجود بمجرد النظر الى راحة اليد الفارغة، بمجرد النظر الى الافق. انه الاصبع السادس، العين الثالثة، انه خيط في الارض والسماء، في المعلوم والمجهول، في المادة والنفس. واذا كان الموت كذلك كان لك، في كل لحظة، شجاعة أن تحضره، وقوة أن تقرّبه، وكبرت به دنياك ونفسك. كان بودي القول انني حين اقرأك اسألك عن الموت، واتعلّم من احتمالك له، اعرف انك احتملته مراراً، واحتملته انا أقلّ. لكنني لا ازال أبحث عن رجل اعرف انني حين انظر في شعره، انظر ايضاً في حياته، واعلم انه يسعى لكي لا يجعل للكلام صوتاً أعلى من الحياة. لذا كنت اسألك عن الموت، عن الحب والاصدقاء والوحدة والشيخوخة والعمر. كنت اسألك، ولا اجد اجوبة بالضرورة. كل ما كنت اجده، هو نوعاً ما في نفسي، فمنذ تعرفت عليك وانا اعلم اني استطيع ان استعيرك لنفسي اكثر مما افعل بشعري. كنت اجد نفسي في كتابتك لدرجة آلف معها أن اجد فيها ادباً للقراءة. اسمع فيها صوتي وحساسيتي، اللذين ما كانا يطاوعان شعري بهذا اليسر وبتلك السلاسة. ربما لذلك تعلمت ان استعير لنفسي كلام الآخرين، او اجدها فيه، دون عسر او قلق، وان اترك شعري يتكلم عني بالصعوبة نفسها التي اجدها كلما حاولت ان اتكلم عن نفسي. بل يغلب اننا نرى انفسنا في اشباهنا اوضح واقرب مما نراها في ذواتنا. حين تعرفت عليك - هل بوسعي ان اتكلم بهذا القرب؟ - لم اقل قرأتك، كان ذلك تعرفاً، كان فيه شيء شخصي، حين تعرفت عليك، كنت في باريس، اعيش في الطابق السابع في بناية بلا مصعد، وفي غرفة ليس فيها غرفة استحمام، أصعد اليها سلماً لولبياً ارجح انه سلم للخدم. تلك كانت غرفاً جعلت في ظهر البناية الاصلية، وجعل لها سلم خاص. الانقطاع في الطابق السابع وذلك السلم اللولبي يلقيان على صلتنا شيئاً من قلق وعزلة، كأن ما ينمو في هذه الغرفة المعلقة من ثمار الظلمة والوحشة. كان ذلك أبعد من أن نسميه حباً، كان في الغالب من مادة اكثر ثقلاً. في هذه الغرفة قرأتك أول مرة. لا أعرف اذا أحببت ذلك أم لم أحبه، لم يكن الجمال هو ما صادفته، كان شيئاً كالحقيقة. ذلك الحين كنت من عامين لا أكتب، ولا اعرف كيف اكتب. اجلس للكتابة مرات لكن سرعان ما اعرف انني لا اجد وتري. اكتب من دون وتر، وارمي، الى ان سئمت، توالت الاشهر فسقطت تحت وطأة الفراغ من الكتابة وغرقت في هذا "العدم" أياً كان الامر، قرأتك فوجدت وتري. لا اعرف لماذا وجدت ثانية الطريق الى الشعر. ولم اكتب فوراً، بل زدت العامين السالفين او اقل من الصمت، كنت خلالهما اغذي "احساسي" بالكلام ، اضع وبصمت داخلاً كلامياً، وحين جلست للكتابة بعد عام او اكثر، كتبت بيسر كما لو ان اربع سنوات من التهيؤ جعلت كل ذلك أليفاً معتاداً. حين رأيت صورتك، كان ذلك في سلسلة "شعراء اليوم" لكنني لاحظتها اكثر على غلاف اسطوانة لتيودوراكيس يغني فيها من شعرك. صورة رجل، لا اعرف ما اقول، جميل الى حد الفتنة، الجمال الذي لا يعتدي عليه العمر، بل ينضجه، فهذا الجبين يزداد انبساطاً كلما اسنّ، وهذا الوجه الذي يملك حداً من النحت، جلال لا يستنكف عن النزول الى البشر جمال شاعر. ألست اجد نفسي في هذا الوجه كما لا اجدها في وجهي وجسدي؟ كنت يومها تخطو الى الثمانين، ولا اعرف عمرك في الصورة، لكنني احسست عندها بطمأنينة. كان الموت تماماً في الخارج، كأن الشعر يوسع الحياة الى حد لا تبلغ فيه الشيخوخة ابداً قرأتك بعدها في طوالك وقصارك. ضيّعت كتبك مرات، فقد اعتدت ان احملها معي في سفري، لانظر الى صفحاتها، الى ترتيب سطورها، الى بياض الصفحة الخشن. قرأت ام لم اقرأ، لكنني آنس الى وجودها معي وأنساها أحياناً، طالما سعيت الى ان اشرك آخرين معي في شغفي هذا. لكنني قلما كنت أستطيع أن أبلغ ما أريد أن أبلغه، فالأرجح أن سعادتنا بنص امر يصعب البرهان عليه على الارجح... لأن نصاً نشغف به يدخل في سرنا وحميمنا فلا نحسن تبليغه! لم يُكتب لي ان اراك. ألم تكن تسكن في قصر؟ ألم تكن ترسم على الاحجار، وتكتب كل لحظة تقريباً وتتنفس وتتكلم شعراً؟ ألم تكن حياتك هي الى حد، نثراً رائقاً هو غالباً في ترتيب الشعر وعلى وشك الشعر؟ ألم تحمل مرصدك وربما موتك معك الى الثمانين؟ لقد كنت هناك حيث الحياة لا تنقطع عن الكلام، حيث الشاطئ والجزيرة أيضاً للشعر. ها أنا ابالغ كالعادة، فلست مثلك قادراً على أفعال جليلة، أو الحديث عن أفعال جليلة، دون أن أرفع صوتي ودون أن أبالغ.