تختصر مسألة شيشانيا التناقضات التي تمزق الدولة الروسية وتهدد بحروب في القوقاز. فالجمهورية الجبلية الصغيرة الواقعة في جنوبروسيا كشفت هشاشة "الاتحاد الروسي" وطرحت من جديد حقوق الشعوب والقوميات. واذا كان الانتصار في الحرب التي اندلعت بين روسيا وشيشانيا معروفاً سلفاً، باعتبار ان سكان الجمهورية المتمردة لا يتجاوز عددهم عدد سكان حي في موسكو، الا ان الاخطر هو سريان عدوى الانفصال الى جمهوريات اخرى تتمتع بحكم ذاتي، مع كل ما يحمله ذلك من تهديد لسلطة الرئيس بوريس يتلسن. يعود أول ذكر للشيشان - احد شعوب شمال القوقاز - الى القرن السابع الميلادي. اما آخر ذكر للدولة الشيشانية المستقلة فيرقى الى سنة 1859 عندما احتلت القوات الروسية بلاد الشيشان وضمتها الى الامبراطورية الروسية. واشترك في الحرب القوقازية الأولى، التي استمرت 49 سنة تقريباً، كثيرون، بينهم اثنان من كبار الشعراء الروس في القرن الماضي: الكسندر بوشكين وميخائيل ليرمونتوف. كما حارب ليون تولستوي أيضاً، أحد أكبر كتاب القرنين التاسع عشر والعشرين، وألف عن هذه الحرب قصصاً طويلة وقصيرة وصف فيها عادات وأخلاق الشيشان وصفاً رائعاً. وحتى سنة 1917 لم يكن بوسع الشيشان، الذين قاوموا التوسع الروسي طوال 49 عاماً ان يفكروا بأي شكل من اشكال الحكم الذاتي. ولكن زعيم الشيوعيين فلاديمير لينين كان من شعاراته "المساواة بين الشعوب" وبفضل هذا استطاع ان يذود عن "مكتسبات الثورة الاشتراكية" في الحرب الأهلية، التي دارت رحاها خلال فترة 1917 - 1922. وليس صدفة ان تنال شيشانيا سنة 1918، اي على اثر الانقلاب البولشفي، وضع المنطقة ذات الحكم الذاتي، مع انها كانت قبل ذلك وحدة ادارية معدومة الحقوق ضمن احدى الولاياتالجنوبية للامبراطورية الروسية. وفي عام 1942، حاول الألمان الاستيلاء على "حقول البترول" السوفياتية على ساحل بحر قزوين ومصب نهر الفولغا. وعندما احتلوا الجزء الشمالي من الجمهورية الشيشانية الانغوشية، ظل الشيشان والروس في غروزني، على مسافة بضعة كيلومترات من خط الجبهة، يضخون البترول للدبابات السوفياتية. ومع كل ما قام به الشيشان من بطولات فان ستالين ظل مقتنعاً بأنهم أعوان النازيين ضد الجيش السوفياتي، وجرى ترحيلهم عام 1944 من ديارهم. وخلال بضعة اسابيع ابتداء من 24 شباط فبراير 1944 ساقت قوات الأمن الداخلي 350 الف شيشاني الى كازاخستان وسيبيريا الغربية اي ما يبعد الوف الكيلومترات عن وطنهم. وهلك كثيرون منهم في الطريق في حافلات القطارات المعدة لنقل المواشي اكثر مما هي معدة لنقل الناس. ولم تسمح القيادة السوفياتية للشيشان بالعودة الى القوقاز وطنهم الا في أواخر الخمسينات بعد وفاة ستالين. وظل الشيشان حتى ايلول سبتمبر 1991 على ولائهم لموسكو. وكانوا في الجيش موضع شعبية، خصوصاً لدى الضباط بسبب طباعهم القوية وقد اصبح الكثيرون منهم ضباط صف واخلاصهم الشخصي لقادتهم. فاحترام من هو اكبر سناً، الذي يرضعه الشيشان مع حليب امهاتهم، ينسحب ايضاً على الضباط، وبنتيجة ذلك كان قادة الجيش السوفياتي يفضلون اختيار مساعديهم وحرسهم من العسكريين من ابناء هذه القومية بالذات. وأصبح من أوائل ابطال الحرب الافغانية المعترف بهم رسمياً الجنرال روسلان آوشيف وهو أنغوشي انتخب في السنة الماضية رئيساً للجمهورية الانغوشية المجاورة لشيشانيا. وفي ربيع سنة 1991، عندما أعلن رئيس روسيا المقبل بوريس يلتسن، في حملته الانتخابية، ان "كل كيان ذي حكم ذاتي في روسيا الفيديرالية يستطيع ان يأخذ من السيادة بمقدار ما يستطيع" تأسست في شيشانيا أول منظمة غير رسمية هي المؤتمر الوطني العام للشعب الشيشاني، الذي تزعمه في 7 آذار مارس 1991 اللواء الجوي المتقاعد جوهار دودايف رئيس الجمهورية الشيشانية حالياً. وأُعلنت جمهورية ايتشكيريا الشيشانية بشكلها الحالي في 27 ايلول سبتمبر 1991. تبلغ مساحتها 3،19 الف كلم مربع، وتمتد على ضفتي نهر تيريك في شمال القوقاز ويناهز عدد سكانها 5،1 مليون نسمة، منهم 700 ألف شيشاني وحوالي 400 ألف روسي. وعاصمتها غروزني التي يزيد عدد سكانها على 400 ألف نسمة. وأساس اقتصاد الجمهورية استخراج وتكرير البترول وصناعة الآلات المرتبطة به. لكن اقتصاد الجمهورية مدمر تقريباً بسبب القطيعة مع روسيا. فمعظم مصافي البترول متوقف عن العمل لنقصان قطع الغيار والمعدات الجديدة اللازمة لها من روسيا، وتعيش المدارس والبيوت بلا تدفئة مركزية ولا ماء حار. وتعاني الجمهورية من ازمة غذائية دائمة. ومنذ نهاية 1992 لا تحصل شيشانيا على مخصصات من الموازنة الفيديرالية الروسية. عندما كانت موسكو تحتفل في خريف 1991 بسقوط الحكم الشيوعي لم يتنبه القادة الروس الجدد الى ظهور القوة الجديدة في شيشانيا - المؤتمر الوطني العام للشعب الشيشاني. وبما ان الشيوعي دوكا زاوغايف كان آنذاك على رأس شيشانيا، فقد نظرت موسكو بعين الرضا الى تنحيته وانتخاب زعيم المؤتمر الجنرال السابق جوهار دودايف رئيساً للجمهورية. وكم كانت دهشة الكرملين كبيرة عندما أعلن رئيس شيشانيا الجديد سيادة جمهورية، الامر الذي يعني الانفصال عن روسيا. وردت موسكو على اعلان سيادة شيشانيا على الفور، واعتبر البرلمان الروسي انتخاب دودايف غير ذي مفعول وحل البرلمان الجمهوري غير شرعي، وأصدر يلتسن مرسوماً باعلان حالة الطوارئ في الجمهورية الشيشانية. كانت المواجهة خطرة جداً. وانضمت وحدات خاصة من الشرطة الى القوات الروسية المتواجدة في شيشانيا. لكن عملية الغاء السيادة الشيشانية لم تنجح وأوقفت قوات الشرطة الروسية في مطار غروزني وفضلت قطعات الجيش السوفياتي عدم التدخل في السياسة فيما تبين فجأة ان اكثر سكان شيشانيا من الذكور حتى السن 55 مسلحون. وأعلن الرئيس الشيشاني آنذاك بأن اكثر من 300 الف شيشاني سجلوا اسماءهم متطوعين في الحرس الوطني. وأضاف: "ان الشيشان اصدقاء طيبون، ولكنهم أعداء سيئون، بل سيئون جداً، وان كل روح شيشانية ستكلف 10 أرواح روسية، وإذا اعلنت روسيا الحرب، فنحن مستعدون لها وسنقاتل حتى آخر فرد منا. وإذا وقفت روسيا في طريقنا كالثور، فإن القوقاز كله سيكنسها من هذا الطريق". ماذا يريد يلتسن؟ واعتباراً من خريف 1991 وحتى ربيع 1993 تظاهر يلتسن بأن شيشانيا غير موجودة بالمرة. وكان يفيده آنذاك ان يتمسك بهذا الوضع، الذي أعلنت فيه شيشانيا، من جهة، استقلالها، ولكن من دون ان يعترف بها احد، ومن جهة اخرى وجدت هذه الجمهورية الجنوبية، الداخلة رسمياً ضمن روسيا، نفسها مستقلة عملياً كل الاستقلال عن السلطات والقوانين الروسية. لكنها شكلت مثالاً للكيانات الروسية الاخرى ذات الحكم الذاتي الاخرى. وها هو الشتاء الثالث الذي تقضيه شيشانيا من دون تدفئة في البيوت والمدارس، فيما المستشفيات مغلقة والمتقاعدون وعمال ومستخدمو الكثير من المصانع لم يتقاضوا اجورهم منذ شهور، ووصل مستوى الاجرام الى حدود لا سابق لها فحتى القطارات تنهب، وكأنما تقول موسكو لسائر انصار الانفصال عن روسيا: انظروا ماذا سيحل بكم، اذا بقيتم من دون دعمنا. لقد أمضى يلتسن السنوات الثلاث الاخيرة في صراع طويل مع معارضيه من الشيوعيين والوطنيين الذين ترأسهم نائبه الكسندر روتسكوي والرئيس السابق للبرلمان الروسي الشيشاني روسلان حسبولاتوف. وكانت مثل هذه الشيشانيا، التي تبلبل الوضع في كل جنوبروسيا، تترك ليلتسن دائماً ذريعة لاعلان حالة الطوارئ في كل البلاد ولتطويع معارضيه نهائياً بواسطة الشرطة وقوات الأمن الداخلي. ولكن في ربيع 1994، عندما أعلن يلتسن سياسة تقوية الدولة الروسية، تغير الموقف من شيشانيا ايضاً ولم تعد حالة "لا حامض ولا حلو" تلائم الكرملين واحتاج هذا الى تصوير روسيا بأنها، ان لم تكن دولة قوية، فعلى الأقل موحّدة وقادرة على حماية مواطنيها من القرصنة واللصوصية المسلحة. والدولة القوية هي ذات نفوذ بين الجيران، وشيشانيا هي قلب القوقاز، الذي توجد فيه خمس كيانات روسية ذات حكم ذاتي وثلاث جمهوريات اتحادية سوفياتية سابقة. واختارت موسكو في البداية تكتيكها المجرب في العهد الشيوعي: خنق سيادة شيشانيا من الداخل عن طريق ايجاد معارضة داخلية لرئيس الجمهورية دودايف. وكان ايديولوجي هذه العملية وزير شؤون القوميات الروسي سيرغي شاخراي، الذي اجرى محادثات سرية مع المعارضين الممكنين روسلان لابازانوف ودوكا زاوغايف. وحاولت موسكو ان تلعب على التناقضات الداخلية في شيشانيا، وكادت تنجح لو لم يصل في آب اغسطس الماضي الى غروزني في "مهمة صلح" روسلان حسبولاتوف الذي قرر هو الآخر ان يصبح معارضاً ويناضل من اجل السلطة في جمهوريته. وبدأت تزداد شعبية حسبولاتوف، الذي هو من عشيرة شيشانية نبيلة جداً، ومن اسرة اضطهدت في العهد الشيوعي، وبدأت مخصصات موسكو للمعارضين الشيشانيين تتناقص بشدة. ولم يشأ الرئيس الروسي اطلاقاً ان تتحول رئاسة شيشانيا من دودايف الى حسبولاتوف. وكان أفضل ما تفتق عنه ذهن اعداء موسكو في القوقاز البدء بالحرب. وقد بدأت، فمنذ آب اغسطس الماضي تدور معارك بين انصار دودايف وأنصار المعارضة بلغت اوجها في نهاية تشرين الثاني نوفمبر الماضي. وفي رأي فاختانغ جاناشيا خبير البرلمان الروسي في شؤون القوقاز ان دودايف ليس ارهب عدو لموسكو في القوقاز. وقال لپ"الوسط" ان الرئيس الشيشاني اصبح رهينة الوضع، فهو حرم من مخصصات الموازنة الفيديرالية الامر الذي اضطره الى البحث عن مصادر تمويل اخرى لتأمين حاجات قواته. وكان هناك مصدران: بيع البترول الذي تنتجه حقول شيشانيا، وتهريب المعادن النادرة والاسلحة والمواد الأولية الاستراتيجية، التي تُهرب الى شيشانيا من روسيا. فحدود شيشانيا والمناطق الجنوبية من روسيا بقيت مفتوحة مدة طويلة، مثل الحدود بين شيشانيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق القوقازية. والحقيقة ان شيشانيا ثغرة ضخمة في الحدود الروسية استطاع كثيرون بواسطتها جمع أموال طائلة، وتجد سيارات الكاديلاك في عاصمة الجمهورية بكثرة لا مثيل لها في روسيا. وبين الحرب وتكوين الثروات تتأرجح الجمهورية القوقازية المتمردة، ولم يجد الروس مبرراً للقلق الا عندما بدأ الجنود الروس يلقون مصرعهم. واهتزت روسيا عندما هدد دودايف بمعاملة 30 اسيراً روسياً كمرتزقة واعدامهم رمياً بالرصاص بموجب قوانين زمن الحرب. انها الحرب اخيراً، تتداخل فيها الاحقاد والصراعات التاريخية. لم يكن غريباً ان تتهم الاستخبارات الروسية دودايف باستخدام مرتزقة من افغانستان وأتراك من جماعة "الذئاب الغبراء" فيما يصل الى شيشانيا متطوعون من جمهوريات القوقاز. وليس من المستبعد ان لا يحل السلام شيئاً، ففي أفضل الحالات تنال روسيا نسختها من "بلفاست" أو من أفغانستان وفي أسوأها تبدأ حرب شاملة ثانية في القوقاز.