وضعت اول قمة اقتصادية دولية تعقد في الدار البيضاء، حول التنمية في الشرق الاوسط وشمال افريقيا، الأسس النظرية والعملية للعلاقات الاقتصادية ومستقبل التعاون الاقتصادي بين دول المنطقة، في اطار التعاون الاقليمي الجديد وعملية السلام الجارية بين العرب واسرائيل، وحددت آليات تطويرها بما في ذلك انشاء بنك للتنمية وإقامة مكتب اقليمي للسياحة، وغرفة تجارية اقليمية ومجلس اعمال من القطاع الخاص، اضافة الى لجنة توجيهية تضم ممثلي الحكومات وأمانة عامة لمتابعة اعمال اللجنة يكون مقرها العاصمة المغربية الرباط. وأكد العاهل المغربي الملك الحسن الثاني، في كلمة ختامية، الأهمية الاستثنائية لهذه القمة باعتبارها "اسهاماً حاسماً في دعم عملية السلام بين العرب واسرائيل"، مضيفاً انها "رسمت خريطة عالم عربي جديد يوجه اهتمامه باتجاه النماء والتطور والازدهار لصالح أوفر عدد من الناس، عالم عربي منفتح على الشراكة ومؤهل للتبادل، حريص على صنع مستقبله على اساس استراتيجية التعاون المخلص التي تستبعد انتهاج كل سياسة قائمة على المواجهة والانكماش". وفي اشارة ذات مغزى، قال العاهل المغربي: "ان ابواب المغرب ليست وحدها التي فتحت في الدار البيضاء بل جميع ابواب العالم العربي، ونحن مستعدون لكسب الرهان للعمل كشركاء على قدم المساواة"، فالقمة في سياقها التاريخي، تشكل الحدث الأهم بالنسبة الى صراع الشرق الاوسط، بعد مؤتمر مدريد 1991 وكل من الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي 1993 والأردني - الاسرائيلي 1994. نظراً الى ارتباطها المباشر بتوجهات النظام الاقليمي الجديد للمنطقة والهادفة الى احداث تغيير يحقق فرص تعاون سياسي واقتصادي وثقافي، بين العرب واسرائيل. ومن هنا جاءت الرعاية الاميركية والروسية لقمة الدار البيضاء، على غرار مؤتمر مدريد، واختيار عقدها في اليوم نفسه الذي عقد فيه المؤتمر قبل ثلاث سنوات، وهو الثلاثون من تشرين الاول اكتوبر، ليس للدفع بعملية السلام فقط، وإنما لتحويل السلام من مجرد اتفاقات بين الحكومات الى أمر واقع معاش بين الشعوب، وذلك بالتعاون ومد الجسور بين رجال الاعمال والحكومات في المنطقة، بما يمكن ان يكون استقراراً اقتصادياً يدعم الاستقرار السياسي. والفكرة المستخلصة من ذلك هي ان للتنمية الاقتصادية دوراً حيوياً في ترسيخ علاقات التعايش بين الشعوب، وهي الفكرة التي عبر عنها العاهل المغربي بوضوح، في الخطاب الذي افتتح به القمة حيث قال: "ان مسلسل السلام الذي نريده جميعاً لن يكون نتيجة حتمية لمجرد امضاء على معاهدة او اتفاق بل ينبغي ان يصبح أمراً معيشاً يومياً ليستقيم السلام ويدوم وينعم به كل فرد ويرتاح له الجميع، لذا علينا ان نحيطه بكل ما يلزم من العناية وأن نحافظ عليه وننميه واضعين في حسباننا باستمرار خاصة في بدايتها انه قد تعصف به المخاطر التي يلزمنا ان نحصنه من الوقوع فيها". وأكد الحجم الواسع للمشاركة في القمة 61 دولة و1114 من رجال الاعمال من مختلف انحاء العالم وردود الفعل الايجابية عليها، ان التوقعات كانت في محلها ولم تقتصر على امكان فتح عهد جديد من التنمية في المنطقة، وإنما ترجيح خيارات التعايش والتعاون بين مختلف اطراف الصراع العربي - الاسرائيلي، أي نجاح خيارات السلام التي يبدو ان جميع الدول المعنية راغبة فيه للاستفادة منه في ترتيب اوضاعها الجديدة. فالمغرب، على سبيل المثال، تقدم بمشاريع ذات بعد عربي ودولي مثل مشروع الربط القاري بين المغرب وأوروبا، والطريق السيار بين بلدان المغرب العربي، وطريق طنجة - لاغوس، اضافة الى مشاريع للتعاون الاقليمي في مجالات الطاقة والزراعة والصيد البحري. 60 مليار دولار وتشير تقديرات الخبراء الى ان منطقة شمال افريقيا والشرق الاوسط بحاجة الى ما بين 60 و80 مليار دولار خلال العشرين سنة المقبلة لتحقيق اندماج اقتصادي في ما بينها، وإعادة تشييد التجهيزات التي كانت قائمة من قبل، الا ان الحاجة الحقيقية تتمثل في تهيئة المنطقة وتأهيلها لمرحلة تعاون شامل يستفيد منه الجميع ويشارك فيه الجميع، ليرسخ الأمل بالسلام بعد تراكمات الحروب الطويلة. وبهذا المعنى فإن لقمة الدار البيضاء ابعادها السياسية ايضاً، فهي من حيث المضمون والتوقيت والحشد العربي والدولي ليست قمة اقتصادية وحسب، بقدر ما هي محاولة لوضع نظام اقليمي جديد ينتقل بمنطقة الشرق الاوسط من استراتيجية الصراع العسكري الى استراتيجية التعاون الاقتصادي، ووقف التهديدات التي تتعرض لها منطقة شمال افريقيا القريبة من اوروبا والمتحكمة في الحوض الجنوبي للبحر المتوسط، والتي باتت تعرف ازمات اجتماعية متلاحقة نتيجة البطالة والتوجهات المتطرفة، لذلك فإن الدعوة تبرز من الآن الى ضرورة الاستثمار في منطقة اساسية وفاعلة في السلام والأمن العالميين. وكانت اللجنة التحضيرية للمؤتمر، التي ضمت تسع دول بينها خمس دول عربية هي المغرب وفلسطين ومصر والأردن ودولة الامارات العربية المتحدة، عقدت سلسلة من الاجتماعات في كل من الرباط ونيويورك لاعداد أوراق العمل والمقترحات التي بحثها قادة الدول والخبراء المشاركون والمرتكزة على خطط تشجيع الاستثمارات الاجنبية، وزيادة الخدمات المصرفية وإنشاء مصارف للتنمية، وتقديم وتمويل المشاريع وشراء الاسهم، والاهتمام بالبيئة وتأمين مصادر المياه، وإقامة شراكة بين رجال اعمال عرب ويهود، وتشجيع البنك الدولي على تمويل مشاريع مشتركة في الشرق الاوسط وشمال افريقيا، اضافة الى تحسين وسائل الاتصالات وتشجيع السياحة بين دول المنطقة. منظومة اعلامية وفي هذا السياق ركزت مداخلات الخبراء في محور "أسواق الرساميل" على تحسين القواعد التنظيمية للمحاسبات والأعمال بهدف جلب الاستثمارات الاجنبية للمساهمة في تنمية المنطقة. فيما ركزت المداخلات في محور "محيط الاستثمار الاجنبي" على حجم الاستثمارات المتوقعة للمنطقة. كما بحث محور "تكنولوجيا الاعلام والاتصال" الذي شارك فيه خبراء من تركيا وبلجيكا واسرائيل والولايات المتحدة الوسائل الكفيلة بادماج منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا مستقبلاً في منظومة اعلامية شاملة، والتكنولوجيا المطلوبة لانجاز هذا الهدف. وأشار "اعلان الدار البيضاء" الذي اصدرته القمة الى اتفاق المشاركين من ممثلي الحكومات والقطاع الخاص على بناء الأسس لمجموعة اقتصادية بين الشرق الاوسط وشمال افريقيا تمكن من تدفق البضائع ورأس المال واليد العاملة. وذكر الاعلان ان المشاركين اوصوا بتبني خيارات تمويل يتم بمقتضاها انشاء بنك للتنمية في المنطقة، كما اتفقوا على احداث امانة عامة مقرها المغرب للعمل على تطوير الشراكة بين القطاعين العام والخاص والمساعدة على اقامة مختلف الهيئات التي ستنشأ طبقاً لما تم الاتفاق عليه في القمة، وسيكون ضمن مهام الامانة العامة العمل على انشاء غرفة تجارية اقليمية ومجلس اعمال باعتبارهما من الادوات الفعالة لتقوية الروابط بين القطاعين العام والخاص. وجاء في "الاعلان" ان المشاركين قرروا عقد الدورة الثانية للقمة في العاصمة الاردنية عمان منتصف العام المقبل، وهو ما يعني تحويلها الى مؤسسة دائمة تعقد دوراتها بانتظام. مخاوف وشكوك وكان لافتاً حجم المشاركة الاسرائيلية في القمة حيث كان الوفد الاسرائيلي الاكثر عدداً بين الوفود، وقد ضم حوالي 200 مشارك بينهم نصف اعضاء الحكومة و150 من المسؤولين ورجال الاعمال، فيما كانت غالبية العناصر المتبقية مكلفة بمهام أمنية. وأجمع المسؤولون الاسرائيليون على اهمية التوجه الذي اقرته القمة لبناء اقتصاديات دول الشرق الاوسط وشمال افريقيا، ونقل عن رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين قوله انه لا يتذكر مؤتمراً يحضره هذا العدد الكبير من العرب والاسرائيليين، مؤكداً "انها صفحة جديدة يتعرف الناس فيها على بعضهم بعض ويتعلمون من بعضهم البعض". لقد بدأت بالفعل صفحة جديدة في المنطقة، لكنها صفحة ما زالت محاطة بالكثير من المخاوف والشكوك، فسورية ولبنان غابتا عن القمة، ولم يدع العراق وليبيا والسودان الى حضورها، كما ان دول مجلس التعاون الخليجي التي تمثلت مشاركتها على مستوى وزاري، ابدت تحفظاتها على العديد من توصيات القمة، خصوصاً المتعلقة بانشاء بنك للتنمية شبيه بالبنك الاوروبي للاعمار والتنمية الذي انشئ لمساعدة دول اوروبا الشرقية، وعلى القضايا المتعلقة برأسماله والمقدرة ب10 مليارات دولار، وطبيعة القروض التي سيمنحها، نظراً الى وجود بنوك مماثلة له، وما لم تكن لها مصلحة في ذلك. وعلى رغم من المصافحات الكثيرة بين رجال الاعمال من الطرفين العربي والاسرائيلي، الا ان الرسميين، وخصوصاً من المملكة العربية السعودية حاذروا اللقاءات المباشرة مع اعضاء الوفد الاسرائيلي، وأكد الدكتور سليمان السليم وزير التجارة السعودي في مداخلته في الجلسة العامة للقمة ان بلاده تعتبر وضع القدس المسألة ذات الأولوية، وستظل قضية القدس في قلب الصراع العربي - الاسرائيلي، ودعا الى تعجيل المفاوضات في شأنها، وكان بذلك يرد على كلمة رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين في الجلسة الافتتاحية للقمة والتي أعلن فيها عن عدم تخلي اسرائيل ابداً عن القدس كعاصمة ابدية لها. 3 مخاوف خليجية علمت "الوسط" ان مسؤولين خليجيين حكوميين وشخصيات خليجية من القطاع الخاص اعتذروا عن عدم حضور قمة الدار البيضاء بسبب مخاوف وتحفظات تتعلق بأهداف المؤتمر والمواضيع التي درسها، على رغم ان جميع دول مجلس التعاون الخليجي الست تمثلت بوفود رسمية. ولخصت مصادر خليجية المخاوف في 3 اساسية هي الآتية: 1- السرعة الكبيرة التي تتم بها عملية تطبيع العلاقات مع اسرائيل قبل اكتمال عملية التسوية السلمية على المسارين السوري واللبناني وقبل التطبيق الكامل لاتفاق المبادئ الفلسطيني - الاسرائيلي الذي ما زال يتعثر على رغم مرور اكثر من سنة على توقيعه. 2- مخاوف من ان تتحمل الدول الخليجية نصيباً ضخماً من عملية تمويل مصرف مقترح للشرق الاوسط يزيد رأسماله على عشرة مليارات دولار وقد يطلب من هذه الدول ان تقدم وحدها حوالي 40 في المئة من الحجم الاجمالي للتمويل. 3- مخاوف من أن تؤدي المشاريع الاقتصادية المقترحة وكلها مشاريع "ربط اقليمي" في الأساس كمشاريع مد أنابيب وخطوط وطرق وربط كهربائي... الخ الى اثارة تعارض في المصالح بين الدول العربية التي يملك بعضها حالياً مشاريع منفذة او قيد التنفيذ تتناقض مصالحها مع المصالح المفترض ان تحققها بعض المشاريع التي طرحت في المؤتمر لا سيما من قبل اسرائيل.