تعقد في الدار البيضاء بين 30 الشهر الجاري وأول الشهر المقبل "القمة الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال افريقيا" التي نظمها "مجلس العلاقات الخارجية" في نيويورك و"المنتدى الاقتصادي العالمي" في جنىف. وتشكل تظاهرة اقتصادية - سياسية عالمية على مستوى القمة حيث من المتوقع ان يرعاها الملك الحسن الثاني ويحضرها الرئيسان الأميركي والروسي بيل كلينتون وبوريس يلتسن ورئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين على رأس وفد ضخم يضم نصف أعضاء الحكومة الاسرائيلية وحاكم المصرف المركزي ورؤساء مجالس أكثر من خمسين شركة اسرائيلية كبرى. وسيشارك في القمة رؤساء دول وحكومات ونحو خمسة آلاف ممثل للشركات الخاصة وألف مسؤول رسمي من نحو 60 دولة ستشارك في القمة. وكانت اللجنة التحضيرية للقمة باشرت عملها منذ ايلول سبتمبر الماضي. فعقدت اجتماعات شارك في البعض منها المنسق الأميركي لشؤون الشرق الأوسط دنيس روس ووزير البيئة الاسرائيلي يوسي ساريد وحضرها اندريه أزولاي مستشار الملك الحسن الثاني للشؤون الاقتصادية. وأعدت اللجهنة مجموعة من المشاريع والخطط الاقتصادية لدرسها في القمة واتخاذ قرارات في شأنها، تشمل العمل على تشجيع الاستثمارات الخارجية وزيادة الخدمات المصرفية وانشاء مصارف للتنمية وتقديم وتمويل المشاريع وشراء الأسهم والاهتمام بالبيئة وتأمين مصادر المياه واقامة شراكة بين رجال أعمال عرب ويهود وتشجيع البنك الدولي لتمويل مشاريع مشتركة في الشرق الأوسط وشمال افريقيا وتحسين وسائل الاتصالات وتشجيع السياحة بين دول المنطقة. وتكتسب القمة في الشكل والمضمون والتوقيت، أهمية استثنائية لا يمكن اختصارها ببعض العناوين التي تتناول أمور التمويل والتنمية. فلو كان الأمر مجرد مسألة اقتصادية تقنية صرفة لما كان من الضروري حشد هذا العدد الكبير من الفعاليات الدولية خصوصاً الأميركية والاسرائيلية ما يؤكد ان للقمة مبرراتها وأبعادها السياسو - اقتصادية. فما هي هذه المبررات؟ وما هي خلفياتها وأبعادها الجيو - سياسية سواء بالنسبة الى دعاتها أم بالنسبة الى معارضيها؟ في الوقت الذي كانت تجري المفاوضات بين الدول العربية واسرائيل كانت تجتمع اللجان المتعددة الأطراف، ومهمتها الحقيقية في الذهن الأميركي - الاسرائيلي على الأقل وضع الأسس لبناء "الشرق الأوسط الجديد"، لذا يمكن القول ان قمة الدار البيضاء هي تتويج لنشاط اللجان المتعددة الأطراف والعمل على وضع تصوّراتها واقتراحاتها موضع القبول والتنفيذ لتحقيق ما يمكن تسميته بمشروع مارشال للشرق الأوسط وشمال افريقيا. لقد كانت الأطروحة الأميركية والاسرائيلية الأساسية تتحدث عن سلام الشرق الأوسط وعن نظام اقليمي جديد شرق - أوسطي. فماذا يعني "تمديد" هذا النظام الى شمال افريقيا وربط الشرق الأوسط وشمال افريقيا في منظومة اقليمية واحدة؟ ولماذا المغرب بالذات مكاناً لانعقاد القمة الاقتصادية الدولية؟ في الاجابة على السؤال الأول يمكن القول ان الربط الجديد بين الشرق الأوسط وشمال افريقيا في منظومة اقليمية واحدة يحمل في ذاته أبعاداً عدة: في بُعده الديني يحمل رهاناً على الصفة الدينية لسليل الأسرة الشريفية الملك الحسن الثاني ورئيس لجنة القدس ورئيس المؤتمر الاسلامي. بهذه الصفات الثلاث يمنح الملك المغربي السلام العربي - الاسرائيلي مضموناً اسلامياً طالما سعى اليه الاسرائيليون ويشكّل في الوقت نفسه حاجزاً أمام موجة التطرف التي تنتشر في دول المنطقة. في بعده الاستراتيجي يعني حسماً في المراهنة الاسرائيلية على صياغة السلام مع الأكثرية العربية السنية على عكس استراتيجية اسرائيل التاريخية التي كانت تراهن على صياغة السلام عبر الأقليات. يُضاف اليه ان دول المغرب ليست لها تجارب حربية مريرة ومباشرة مع اسرائيل. في بعده الجيو - سياسي يشكل الربط بين الشرق الأوسط وشمال افريقيا احاطة بالمتوسط من الشرق والغرب وجعله ضمن مناطق النفوذ المباشرة للولايات المتحدة، ما يعني تقليصاً للنفوذ الأوروبي الفرنسي خصوصاً في شمال افريقيا والعالم العربي والقارة الافريقية. ألا يعتبر الصراع داخل الجزائر، وفي أحد وجوهه الدولية، بمثابة شد حبال بين الولاياتالمتحدة وفرنسا؟ في بعده الاقتصادي الصرف، فان الشرق الأوسط على أهميته يبقى سوقاً اقتصادية محدودة من الناحية الديموغرافية. ومع شمال افريقيا يصبح سوقاً واسعة مفتوحة على النشاط الاقتصادي، خصوصاً على "الاستهلاك" بفضل النمو الديموغرافي المتسارع من مصر الى المغرب، وذلك بإضافة 121 مليون نسمة هو عدد. سكان مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب في بداية التسعينات. لماذا اختيار الدار البيضاء في المغرب مكاناً لانعقاد القمة الاقتصادية العالمية؟ هناك أسباب عدة وراء هذا الاختيار: أولها ان المغرب مقتنع بضرورة قيام سلام عربي - اسرائيلي حقيقي ونهائي. ثانيها ان في المغرب نظاماً مستقراً يمكن الاعتماد عليه. ثالثها ان لملك المغرب نفوذاً معنوياً وفعلياً داخل العالمين العربي والاسلامي. رابعها دور اليهود المغاربة في دعم الحكم المغربي وفي خلق الصلات بين المغرب واسرائيل منذ السبعينات، فبعد مصر كان المغرب أول من استقبل علناً شمعون بيريز في العام 1986 ورابين وبيريز في العام 1993، علماً ان 10 في المئة من يهود اسرائيل هم من أصل مغربي. وخامسها ان القمة الاقتصادية في الدار البيضاء هي المعادل والمقابل لمؤتمر مدريد السياسي. فمن الطبيعي ان يكون المؤتمران متقابلين بالنسبة الى محور المتوسط: واحد في اسبانيا والثاني في المغرب… وهكذا تُدرس وتُحل قضايا "المركز" عبر الأطراف. ومما لا شك فيه ان قمة الدار البيضاء هي جزء من استراتيجية أميركية شاملة تشارك اسرائيل في صياغة بعض توجهاتها بما يخص حل الصراع العربي - الاسرائيلي ومتطلبات السلام، خصوصاً متطلبات ما بعد السلام. وهذه القمة تؤسس بالتأكيد لنظام اقليمي أوسطي - افريقي تشارك فيه اسرائيل ودول عربية وشرق أوسطية تركيا وترعاه وتديره الولاياتالمتحدة. والسؤال المطروح هو: ما هي فوائد مثل هذا النظام على العرب واسرائيل والسلام العالمي من جهة وهذا رأي دعاته؟ وما هي مضاره وأخطاره على العالم العربي من جهة ثانية وهذا رأي معارضيه؟ يعطي دعاة قمة الدار البيضاء من أميركيين واسرائيليين وعرب، باعتباره تجسيداً وتشريعاً للنظام الاقليمي الجديد، صورة عن الفوائد التي يمكن ان تنجم عنها وفق المبررات الآتية: 1 - الانتقال من استراتيجية الصراع العسكري الى استراتيجية التعاون الاقتصادي، وهذا يعني وضع امكانات مادية ضخمة في خدمة النمو الاقتصادي بديل الانفاق العسكري في حدود 30 مليار دولار سنوياً وتفتح الباب أمام قيام سوق مشتركة من الخليج الى المغرب. 2 - الاسهام في الحرب ضد الجوع والتصحّر والعطش باستغلال علمي لمصادر المياه في المنطقة. 3 - تسهيل انتقال السلع والأفكار بين دول الحيّز الجغرافي الأوسطي - الافريقي بخلق بنى تحتية للنقل والمواصلات. 4 - تشجيع الصناعة السياحية في منطقة يمكن ان تصبح احدى أهم المناطق السياحية في العالم نظراً الى آثارها ومناخها. 5 - استيعاب الاستثمارات الأجنبية التي تساعد على النمو الاقتصادي وعلى توزيع البحبوحة. 6 - هذه الأمور مجتمعة تؤدي الى تحقيق أمرين: امتصاص البطالة وإضعاف التوجهات المتطرفة. 7 - يحقق الأمن للعرب واسرائيل بالانتقال من وضع العداء الى توازن المصالح والتفاعل الحضاري، بخلق شبكة مصالح متبادلة، وهو ما يؤمن لاسرائيل وضعاً اقتصادياً وأمنياً يسمح بوقف المعونات الأميركية لها. أما معارضو المؤتمر فإنهم يعتبرونه جزءاً من خطة أميركية - اسرائيلية تستغل ضعف الوضع العربي الحالي واختلال ميزان القوى لتحقيق الأهداف الآتية: 1 - خلق نظام اقليمي غير عربي تركي - اسرائيلي - عربي مرتبط أمنياً بالولاياتالمتحدة وتجني منه اسرائيل ثماراً سياسية واقتصادية واستراتيجية. 2 - ادارة واستثمار الثروات العربية بمشاركة اسرائيل ودول الجوار برعاية أميركا. 3 - إعطاء موقع مميّز لاسرائيل كدولة أكثر رعاية وتحويلها الى شريك كامل لأميركا في المنطقة بعد ان كانت تقوم بدور الوكيل وادخالها كبلد متفوق اقتصادياً وتكنولوجياً في نظام اقليمي يحوّلها الى دولة عظمى اقليمية بعد قلب الموازين الأمنية والجغرافية والسياسية والاقتصادية لمصلحتها. 4 - باختصار، فان بيت القصيد هو في تعجيل "اندماج اسرائيل" في المنطقة وبأسرع وقت ممكن. ومثل هذا الاندماج سيتم على قاعدة اقتصادية بالدرجة الأولى، وبالتالي فإن أول حاجز ينبغي اسقاطه بالنسبة اليها هو حاجز المقاطعة العربية… وها هو يسقط تباعاً بطلب أميركي، اذ لا معنى لانعقاد قمة الدار البيضاء والمقاطعة العربية لاسرائيل التي قدرت كلفتها خلال خمسين سنة بخمسين مليار دولار لا تزال قائمة! لقد شكل مؤتمر مدريد منعطفاً سياسياً في صراع الشرق الأوسط. وستشكل قمة الدار البيضاء منعطفاً اقتصادياً موازياً ومكمِّلاً له وضمن شروط أكثر قسوة على العرب. وهذه الوضعية تذكّر بجواب كان يردّده الرئيس حافظ الأسد كلّما سأله صحافي غربي عما سيكون عليه الموقف اذا وجد المسؤولون العرب أنفسهم أمام خيارات محدّدة وربما صعبة. وكان جوابه ما معناه: "اذا كان على جيلنا ان يقبل السلام ضمن شروط لم تكن كلها برضانا وضمن معادلة دولية ليست لمصلحتنا، فإن الأجيال العربية المقبلة هي التي ستتكفل حكماً بإعادة التوازن الى المعادلة والعدالة والى السلام". لقد كان يفكّر بالتأكيد بملايين المثقفين الذين سيلدهم المستقبل العربي. وهذه هي علامة الاستفهام الكبرى التي ستبقى مرتسمة فوق قمة الدار البيضاء. * كاتب سياسي لبناني.