لماذا حسين الحسيني؟ الاسباب كثيرة. ففي بيروت يقولون انه مصمم أزياء الجمهورية الثانية التي كشفت السنوات الخمس الماضية محاسنها ومعايبها والمفاتن. وهذه الصفة وحدها تكفي لسؤاله او استجوابه. ثم انه يقود حالياً المعارضة التي تتهم التركيبة الحالية بافراغ دولة المؤسسات من مضمونها، مطالباً بالعودة الى احترام روح اتفاق الطائف والمقاصد الفعلية لنصوصه. يضاف الى ذلك ان الحسيني صعد في الجمهورية الاولى الى رئاسة مجلس النواب وشهد من ذلك الموقع سقوط جمهورية وولادة أخرى. في العام 1984 انتزع الحسيني مطرقة رئاسة مجلس النواب من الرئيس كامل الأسعد. وفي 1992 انتقلت مطرقة الرئاسة الى يد الرئيس نبيه بري. وفي الحالتين لم تكن رحلة المطرقة بين الأيدي وليدة الحسابات النيابية فقط. من دون أن ننسى ان مطرقة رئاسة حركة "أمل" انتقلت من يد الحسيني الى يد بري في 1980 وأقامت في يده. يتكلم الحسيني على الوفاق الوطني كما يتكلم المهندس على بناية شيدها، أي بلهجة العارف بمقاسات الغرف والممرات والظلال. يتكلم بلهجة حارس القاموس وكأنه المؤتمن على تفسير حدود الصلاحيات وحدود الكلمات. لكن السياسة تقول ان القصر لا يدوم لسيده والمكتب لا يدوم لشاغله. وهذا ما حصل. ربما كانت الحسابات مختلفة لو لم تنفجر جمهورية رينيه معوض بعد 17 يوماً من ولادتها ولو لم يتطاير جسد الرئيس مع الاستقلال في 22 تشرين الثاني نوفمبر 1989. وليس سراً ان الحسيني كان أقرب الى جمهورية معوض التي كانت أقرب الى التفسير الاصلي لبنود اتفاق الطائف. لكن الغدر من طبع السياسة... ولو دامت لغيرك لما وصلت اليك. في النصف الثاني من الثمانينات ومطلع التسعينات كان حسين الحسيني محور الحركة السياسية الباحثة عن ملامح الوفاق أولاً، ثم عن ترسيخ ملامح الاتفاق ثانياً. ومنذ 1992 تدور الجمهورية الثانية حول محورين: الأول محور نبيه بري الذي نقل طائفته من ضاحية القرار الى صلبه، الى حد اثارة مخاوف الآخرين. والثاني محور رفيق الحريري الذي استدعته الجمهورية المفلسة فاقتحمها برصيد شخصي يعادل وقعه دوي مدافع الميليشيات الكبرى. جرف رصيد الحريري الاعتراضات على وصوله. وحين حاول اعادة اعمار الدولة او ترميمها اصطدم بذهنية الطبقة السياسية التي خشيت من تحوله "جنرالاً" دائماً فمنعته من بناء الدولة وحاولت عرقلة بناء دولته فيها. وحين تضطرب العلاقات بين المحورين تسلك الازمة طريق دمشق. زائر لبنان هذه الايام لا يحتاج الى أدلة اضافية على انزلاق الطبقة السياسية الى درجة التلاعب بمصيرها وهو ما كشفته الجولة الاخيرة بين بري والوزير وليد جنبلاط والتي دارت عبر الوكلاء. وثمة من يعتقد بأن ظروف الجمهورية الثانية اكثر دقة من ان يسلم مصيرها الى طبقة يسارع أركانها الى ايقاظ قاموس الحرب عند اول خلاف. وفي الصالونات السياسية في بيروت حديث هامس عن افلاس الملابس المدنية وحاجة الجمهورية الى منقذ. ولد حسين الحسيني في 1937 في زحلة. أجداده من مزرعة السياد في أعالي جبيل. وهي قرية مقابلة لبلدة شمسطار البقاعية التي تولى رئاسة بلديتها في 1957. أدرك باكراً خطورة الخلل الكامن في تقسيم المناطق الى "مناطق اصلية وأخرى اقل اصالة". ورث عن والده وجده تحالفات وصداقات بقاعية ولبنانية سهلت له ادراك اسرار التركيبة اللبنانية التي لا تحتمل استمرار الحرمان ولا تتسع لمنطق الانتصار. وخلال الحديث الطويل الذي تناول الماضي والحاضر، وتنشره "الوسط" على حلقات، حمل الحسيني بعنف على الحكومة الحالية ورئيسها رفيق الحريري وقال: "لقد حذرنا مرات عدة من أن أي اضعاف او تغييب لمؤسسة مجلس الوزراء ووضعها بيد شخص هو اخلال فاضح بوثيقة الوفاق والدستور. من هنا القول عن الشخص لأن الخلط بين الشأن العام والشأن الخاص هو العنوان الواضح في تصرف رئيس الحكومة، وبالتالي ليست هناك حكومة، هناك تحالف مع الميليشيات والباقي يتألف من موظفين او شهود زور عند رئيس الحكومة. لا نستطيع ان نسميها حكومة. هي الشخص او حكومة الشخص وهي النقيض لما نص عليه الوفاق الوطني". وانتقد اسلوب التعامل مع الوزير "كأنه عامل في جنينة الحريري او بستانه". وأعلن ان الحكومة باتت "جثة هامدة". قبل ثلاثة اعوام سألت الرئيس الحسيني ان يفتح دفاتر ذاكرته لكن الاحداث حالت دون ذلك. وها هو يحكي ل "الوسط" عن محطات كان فيها شاهداً او شريكاً وهنا الحلقة الأولى: * تعاونت في الثمانينات مع رئيس الوزراء الراحل رشيد كرامي، اي انطباع خلف لديك؟ - كان الرئيس رشيد كرامي صاحب أعصاب هادئة يمتلك قوة احتمال في اوقات الخطر. ورثت هذه العلاقة عن والدي واستمرت. كان رشيد كرامي رجل دولة بكل ما للكلمة من معنى وعمل طوال عمره من أجل اقامة الدولة. * والرئيس كميل شمعون؟ - رجل دولة من طراز رفيع، خلافاً لما يراه الآخرون. هو في المظهر شيء وفي الجوهر شيء آخر. وهناك حادثة معبرة في هذا المجال: عندما توليت رئاسة المجلس في 1984 فوجئت قبل انتخابي بمذكرة اصدرها الرئيس رشيد كرامي بوصفه رئيساً للحكومة موجهة الى وزير المال بوجوب وقف اجزاء من تعويضات النواب ريثما تضع الحكومة مشروع قانون بالغاء هذه الاجزاء. عندما نقل اليّ ذلك وقدمت دوائر المجلس صورة عن هذه المذكرة مذيلة بكتابة لشمعون كوزير للمال وعليها عبارة للتنفيذ اتصلت بالرئيس شمعون معاتباً. قلت له انت رئيس سابق للجمهورية ومحام ونائب ووزير فبأي حق تستطيع مذكرة من رئيس الحكومة ان توقف مفعول قانون؟ وبالتالي فكيف تذيل المذكرة بتوقيعك؟ ورد الرئيس شمعون: "لا تظلمني، صباحاً أمر على المجلس وأشرح لك الموضوع". في اليوم التالي قال لي: انا وزير في حكومة الرئيس كرامي وهو أصدر مذكرة مخالفة للدستور ومخالفة للقانون ولكن أين تصبح هيبة رئيس الحكومة امام الموظفين في وزارة المال وحكومته لو كتبت أنا لرفض التنفيذ بسبب المخالفة الدستورية والقانونية؟ العلاج الحقيقي هو أن أكتب أنا للتنفيذ ونسعى انا وأنت مع الرئيس كرامي ليعود عن مذكرته بإرادته. وعندما نعجز عن اقناعه نصبح في مواجهة معه. اما الرفض قبل ان نسعى معه فيعني اننا هدرنا هيبة رئيس الحكومة مجاناً. لم تكن العلاقة بين شمعون وكرامي آنذاك جيدة لا بل كانت متوترة. اتصلت بكرامي لاحقاً التقينا فرويت له ما حصل. وكانت تلك الحادثة بداية علاقة جديدة جيدة وحميمة بين الرئيسين تطورت الى ما سمي اللقاءات حول ورقة عمل كنت على اطلاع عليها في 1987. بيار الجميل: تريد تخريب لبنان * والشيخ بيارالجميل؟ - انه شخصية مميزة. كان كنائب يحترم القانون لكنه كان متصلباً جداً لدى أي بحث في اي اصلاح للنظام السياسي. كان هناك نوع من التشبث بفكرة ان هناك من يحتكر اللبنانية وان هناك من يحتكر العروبة وما نشأ عن ذلك من كلام من نوع "ماذا تعطيني لأقول عن نفسي انني لبناني وماذا تعطيني لأقول انني عربي". وهذا ناتج من الخلل في التكوين الوطني. كان بيار الجميل يشكل بهذا المعنى عائقاً أساسياً امام اي بحث لأنه كان يعتقد بأن التيار اليساري هو وراء الدعوة الى الاصلاح ويعتبر ان هذه الاصلاحات هدامة ومخربة. وكنت من أوائل الذين طرحوا في مجلس النواب موضوع اصلاح النظام، وقبل ذلك في 1973 في جلسة لم يكتمل نصابها كنت اجلس في حلقة ضمت الرئيس صائب سلام والعميد ريمون اده والشيخ مخايل الضاهر ومجموعة من الزملاء. قلت آنذاك ان هذا الميثاق الوطني نحمله اكثر مما يحتمل وعندما يحلو لنا نقول بالميثاق الوطني غير المكتوب وعندما يحلو لنا نقول بالدستور المكتوب... وهكذا نعلم أولادنا شيئاً ونطبق شيئاً آخر. كان الشيخ بيار يجلس في المقاعد الخلفية ويبدو ان صوتي كان مرتفعاً اثناء النقاش وكنت اقول اذا كان هذا الميثاق هو الميثاق المطلوب فلنكتبه ولندرّسه لأولادنا وابنائنا في الجامعات والمدارس. اما اذا كان الميثاق غير المكتوب لا يلائم بلدنا فلنفتش عن الميثاق الذي يتطابق مع الدستور. هذا الكلام اثار حفيظة الشيخ بيار فنهض من مقعده وجاء نحوي ليقول: "مون شير، مون شير أنت تريد ان تخرب لبنان". كان فعلاً يعتبر ان التيار اليساري او المد العربي هو الذي يريد ضرب هذا النظام الذي هو المدافع عن الكيان. شمعون واده وتويني * والعميد ريمون اده؟ - العميد اده علاقتي به قديمة جداً ذلك ان والدي كانت تربطه علاقة جيدة بوالده ايضاً ناتجة من جبل لبنان. وبالتالي منذ ان تعاطيت بالشأن العام، عندما كنت رئيساً للبلدية في سن مبكرة، كانت لي علاقة معه. وكذلك عندما تولى وزارة الداخلية عام 1958 لعب دوراً كبيراً ومميزاً في فرض هيبة الدولة في منطقة بعلبك - الهرمل. وبالتالي استطاع ان ينجز عملية استئناف مهرجانات بعلبك الدولية في تلك السنة، أي في سنة 1959، فقط لاعلام العالم بأن لبنان عاد الى حالته الطبيعية. وكان يحضر الى بعلبك يومياً، ليس ليحضر الحفلات او المهرجانات التي تقام في قلعة بعلبك، لكنه كان يأتي ليقف عند مدخل القلعة ويسهر على أمن الناس. وكان يستحضر قوى الأمن بوصفه وزيراً للداخلية. فهو، كرجل دولة، فاعل على الأرض. برهن على انه من طراز رفيع وكان له حظ كبير في ان يصبح رئيساً للجمهورية عام 1970 لولا ترشيح الرئيس شمعون، خصوصاً انه كانت هناك مساع للتقريب بين ريمون اده وكمال جنبلاط، وشاركت في هذه المساعي انا وجوزيف سكاف والاستاذ غسان تويني. ويبدو ان الرئيس شمعون، بحكم صلته بالاستاذ غسان تويني، علم بأن اتفاقاً حصل في منزل جوزيف سكاف بين المرحوم كمال جنبلاط والعميد ريمون اده. * هي ايد كمال جنبلاط ترشيح العميد اده سنة 1970 قبل انتخاب سليمان فرنجية؟ - نعم، أيّد، ولكن كما نعلم كان هناك النهج والمعارضة. النهج كان يضم 59 نائباً من اصل 99 والمعارضة 40 نائباً. وكان المطلوب ان تؤيد المعارضة العميد اده بما فيها كتلة الرئيس شمعون ومناصروه، وان تتوافر اصوات كمال جنبلاط وكتلته وبعض نواب النهج، وعند ذلك سيرتفع خط وصول العميد اده. لكننا فوجئنا في اليوم التالي بأن الرئيس شمعون بادر الى ترشيح نفسه لاحباط هذا الاتفاق واستطاع احباطه فاتجهت الأنظار الى الرئيس فرنجية. العميد مشكلة العميد * هل نستطيع القول انك كنت ايضاً في 1988 مع وصول ريمون اده الى الرئاسة؟ - كنت مع انتخاب ريمون اده. لكن ريمون اده كان ضد انتخاب ريمون اده. لنتمثل الأمر بشكل مختصر. يريد العميد اده من اللبنانيين ومن السوريين ومن كل القوى ان نخوض معركة وننتصر محلياً على "القوات اللبنانية" التي كانت تعارض بشكل عنيف. وعلينا ايضاً ان نغلب عدداً من الاحزاب اللبنانية ثم نتغلب على اسرائيل التي تقيم الحواجز وتعتبر ريمون اده من ألدّ أعدائها. ونتغلب على أميركا التي لا تعتبر ريمون اده صالحاً للمرحلة. وبالتالي قد نكون وطدنا أنفسنا على خوض مثل هذه المعركة. لكن الذي يثبط الهمة هو انه بعد الانتصار على كل هذه القوى يأخذ العميد اده مهلة شهرين ليستشير نفسه ثم يجول على اميركا وروسيا وبريطانيا والصين للسؤال عن تطبيق القرار 425 واتفاقية الهدنة واخراج كل القوى غير اللبنانية عن الارض اللبنانية. ثم اذا تأكد من صدق النيات يستجيب لندائنا، واذا لم يقتنع يقول لنا بعد شهرين لا تؤاخذونا انا رافض الرئاسة. وعند ذلك نكون بلا جميل لدى اده اذا انتصرنا لأنها من واجبنا واذا فشلنا نكون ارتكبنا الاثم الكبير. لا اظن انني أتجنى على العميد اده ومعروف كم قاتلت وجاهدت من اجل ايصاله الى الرئاسة ولست وحدي في ذلك فقد كان هناك عدد من الزملاء والقادة اللبنانيين يشاطرونني رأيي في صفات العميد اده الكثيرة على رغم خلافنا معه عندما يقاتل ريمون اده. انتخاب فرنجية * هل شاركت في الاجتماع الحاسم لترشيح الرئيس سليمان فرنجية؟ - نعم وقد عقد في منزل عبداللطيف الزين في عاليه، وكنا كتبنا ورقة نصها المرحوم والدي عليّ وعلى جوزيف سكاف، تقول اننا نحن الموقعين ادناه نرشح الوزير سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. وحمل الوزير سكاف، رحمه الله، الورقة وطرحها في ذلك الاجتماع الذي ضم الرئيس صائب سلام والرئيس فرنجية والوزير كمال جنبلاط وعدداً من المعارضين من "تكتل الوسط". وطبعاً كنت انا وجوزيف سكاف خارج المجلس اذ أسقطونا عام 1968، لكننا بقينا في تكتل يعمل وله نواب. * هل حضر كامل الأسعد الاجتماع؟ - نعم. في منزل عبداللطيف الزين في عاليه فوجئ الجميع بطرح الوزير سكاف وبقوله اما ان نوقع هذه الورقة واما انتخاب الياس سركيس. وبالفعل لم يتحرك الرئيس فرنجية اطلاقاً من مقعده وفوجئ بهذا الطرح الذي كان فكرة المرحوم والدي. وأبدى الوزير كمال جنبلاط موافقته على هذا الطرح طبعاً بعدما اسقط موضوع ترشيح العميد اده، لكنه اخذ مهلة للتشاور مع كتلته وحزبه وامتنع عن ابداء الرأي الى حين العودة الى كتلته وحزبه. * هل أيد كمال جنبلاط انتخاب الياس سركيس عام 1976؟ - لا. انقسمت كتلة كمال جنبلاط. هو قاطع شخصياً وغاب عن الجلسة. ومن كتلة بعلبك الهرمل غبت انا وحسن الرفاعي وألبير منصور، بينما حضر الزميل طارق حبشي وانتخب الرئيس سركيس. والتقينا في منزل الرئيس صائب سلام مع بقية المقاطعين وسمونا "المقاطعون". * كيف هي علاقتك مع الرئيس صائب سلام؟ - جيدة. دائماً كانت جيدة. وأيضاً من العلاقات الموروثة عن والدي. تقي الدين الصلح والأصولية! * هل يحتل تقي الدين الصلح لديك منزلة استثنائية؟ هل كان رئيس حكومة استثنائياً، او شخصية استثنائية؟ - طبعاً، انه ذو أفق واسع ومتفوق على الآخرين. قد لا تكون لديه القوة الشعبية، او الصبر على التعاطي الشعبي، لكنه كان رجل دولة من طراز رفيع جداً. وتستطيع ان تعتبره مسؤولاً ولو كان خارج المسؤولية فهو يتصرف بمسؤولية في كل الظروف. وكان مخلصاً جداً للمبادئ الاساسية. التاريخ سينصف الرئيس تقي الدين الصلح. الصورة المأخوذة عنه انه رجل مناورات وتسويات ليست صحيحة، فهو من أصلب من تعاطيت معهم في القضايا الجوهرية والمبدئية. ولا يتزحزح ابداً عن المواقف الوطنية الاساسية. وشجاع لجهة مقاومته كل العوامل. كنا نلتقي رؤساء الحكومات السابقين وما كان يسمى جبهة المحافظة على الجنوب في اطار شيء اسمه التجمع الاسلامي. وكان الرئيس تقي الدين الصلح من هذا التجمع. وفي فترات لاحقة اصبحنا عندما نجتمع وفي غالب الاحيان نجلس، الرئيس تقي الدين الصلح وأنا في زاوية من مكان الاجتماع. بداية كنا نجتمع في الطبقة العلوية من مستشفى البربير، وبعض الاوقات في منزل شقيق الوزير جارودي، او في منزل الرئيس سلام. وكنت والرئيس الصلح نلتقي لنكتب البيان. وأذكر حادثة معبرة عن سرعة خاطر الرئيس الصلح: عند تشكيل التجمع الاسلامي انزعجت الحركة الوطنية وأفرادها خصوصاً الشخصيات البيروتية واعتبرت التجمع مناهضاً لعملها. وجاء النائب الدكتور اسامة فاخوري الذي كان من شخصيات الحركة الوطنية ليقول لأعضاء التجمع الاسلامي: نحن نمثل المقاتلين فمن تمثلون أنتم؟ وبادره الرئيس تقي الدين الصلح: "طيب أنتم تمثلون المقاتلين ونحن نمثل المقتولين"! وأذكر حادثة أخرى معبرة: اثناء الاجتياح الاسرائيلي ونحن محاصرون في بيروت والقصف الجوي مستمر، كنا نجتمع في منزل الرئيس سلام في فترة الهدوء عند الحاجة ونصدر الموقف يومياً او كل يومين على مدى فترة الحصار. ولكن كثرت الاصابات بين الناس وانقطعت المياه والامدادات وفقد الغذاء وأصبحت الحالة لا تطاق. وكان المراد من الحصار دفع الناس الى موقف سلبي من المقاومة الفلسطينية. وبالفعل اصبح الناس يعتبرون ان هذا القصف انما يأتي بسبب الوجود المسلح الفلسطيني وأصبحت النظرة سلبية. فضلاً عن ان القبول بدخول الاسرائيليين اصبح يتسرب الى الناس. كان واجبنا الوطني يدعونا الى حضهم على الصمود ومواجهة الاجتياح، غير انه لم تكن لدينا القوى اللازمة من المسلحين لتدافع عنا لو جبهنا مشاعر الناس وبينهم من يفقد ولده او احد افراد عائلته. كانت العواطف جياشة ولا تقبل مخاطبة العقل. ووصلنا الى وقت اصبحت عملية القول للناس اصمدوا في وجه الموت والموت المحقق نوعاً من المغامرة. بعد الاجتماع انتحينا في غرفة صغيرة في منزل الرئيس سلام، وبدأنا نفتش عن صيغة. الموقف الوطني يقضي بالقول بالصمود وهذا القول سيصدم الناس وسيعرضنا لانتقاد شديد او لحالة غضب من الشارع. وفي خضم هذا التفتيش، قال لي الرئيس الصلح شو رأيك نقول "نحيي صمود؟" بمعنى اننا لسنا نحن الذين قالوا اصمدوا. هم صامدون ونحن نحيي هذا الصمود. لكن المخرج لم يتعارض مع المبدأ. هناك حسن تصرف ولكن ليس هناك تفريط بالموقف المبدئي. * كان خبيراً في التركيبة اللبنانية؟ - لا شك، فمثلاً هناك لقاء جمعنا به والوزير سكاف ومحمد شقير. وكان الاتجاه ترشيح الشيخ بشير الجميل لرئاسة الجمهورية. فكان تعبير الرئيس تقي الدين الصلح, وطبعاً هذا موقفنا ايضاً لكنه هو الذي ابلغ الموقف ومفاده انه في كل الدول العربية لم تتسلم الاصولية الاسلامية مقاليد الحكم، حتى في مصر حيث بلغت قوة الاخوان المسلمين في فترة من الفترات في عهد الملك فاروق مبلغاً كبيراً لكنها لم تستطع ان تصل الى رأس الحكم فكيف يمكن خرق هذا المبدأ العام في طول المنطقة العربية وعرضها بأن تصل الاصولية المسيحية الى رأس الحكم؟ هذا غير طبيعي ولا نعتقد بأنه سينجح، وعلى المخلصين، خصوصاً من المسيحيين، ان يصارحوا الشيخ بيار الجميل بهذا الأمر للاقلاع عن فكرة ترشيح نجله الشيخ بشير. بشير الجميل: لماذا لا تنتخبني؟ وللمرة الأولى سيعرف الناسب انني التقيت الشيخ بشير الجميل بعد الاجتياح الاسرائيلي بناء على الحاح صديقي الدكتور طارق حبشي وفي منزله في النقاش. وقبل ذلك قُصف منزلي في خلدة. وحصلت المعارك الاساسية في الاجتياح الاسرائيلي في خلدة، وتزايد القصف على منزلي ولم يعد امامي سوى طريق واحد هو طريق سوق الغرب لأذهب الى بعلبك او اخرج عائلتي الى بعلبك ثم أعود الى بيروت. وصلت الى عاليه، لاحقنا القصف وقُصفت البناية الملاصقة للمبنى الذي كنا فيه فاضطررنا الى العودة الى الحازمية حيث الطريق الوحيد المفتوح، وكان هناك قصف على منطقة بعلشميه، اي ليس هناك مجال للذهاب الى البقاع. وعندما وصلت الى الحازمية اتصلت بالدكتور طارق حبشي فجاء وأخذني الى منزله فبت تلك الليلة. ويومها نادى احد الحضور علي بأن هناك مخابرة هاتفية لي. جئت الى الهاتف فقال: انا بشير الجميل، أهلاً وسهلاً، المنطقة منطقتك. غداً سآتي انا او سأرسل احداً لتأمين انتقالك. فشكرته على هذا الهاتف ولم اكن قبل ذلك على اي اتصال به، ولا اعرفه الا مرة عند تعزية والده الشيخ بيار بوالدته اذ رأيت الشيخين أمين وبشير علماً ان الشيخ أمين تربطني به صداقة لأن مكتبه كان في البناية الملاصقة للبناية التي يقع فيها مكتبي في شارع كليمنصو. وكنا على علاقة جيدة في المجلس وفي الجيرة. اما الشيخ بشير فلم اكن اعرفه. صباحاً انتقلت الى بيروت وارسلت عائلتي الى بعلبك. * إذاً لم تلتقه، فقط كلمته على الهاتف، لم تره اذاً؟ - لم أره حينها وتحدثنا على الهاتف فقط. بعد فترة، عندما انتهى حصار بيروت ألحّ عليّ صديقي طارق حبشي وأنا فعلاً أضعف أمام طلباته خصوصاً انه لا ينطلق من أي خلفية سياسية بل يستنسب احياناً اشياء قد تكون صحيحة وقد تكون غير صحيحة. ألح في طلبه فوافقت وذهبت الى النقاش والتقيت الشيخ بشير. * ماذا حصل في اللقاء؟ - بادرت الشيخ بشير: اذا كان الموضوع موضوع انتخابات الرئاسة يجب ألا يضيع احدنا وقت الآخر، لا يمكن ان انتخبك. فقال: اصلاً هذا اللقاء طلبته انطلاقاً من ان احداً لا يستطيع ان يلغي احداً في لبنان. وجميعنا مسؤولون عن انقاذ البلد. طبعاً كانت تشكلت هيئة الانقاذ برئاسة الرئيس سركيس. ووافقت أنا على الهيئة وشجعتها. وقال: بالمناسبة طالما انك فتحت هذا الحديث لماذا لا تنتخبني؟ صحيح ان اللقاء ليس لهذه الغاية لكنك طرحت الموضوع. قلت: أولاً لأنني لا اعرفك. وثانياً لأنك، في نظري وفي نظر الكثير من الناس، مسؤول عن مسألة الذبح على الهوية ومسؤول عن السبت الأسود ومجزرة اهدن ومجزرة الصفرا. واذا تصرفت هكذا مع المسيحيين فكيف ستتصرف مع غيرهم؟ واذا كانت العلامات المطلوبة لك عشرة، هذه اربع علامات ضدك ولا يوجد في ذهني اي علامة لك. وسأبادر الى القول انني اقترح التمديد سنتين للرئيس سركيس وخلال هذه الفترة أنت تطرح نفسك في اجواء السلام. قد تكون هناك جوانب لا يعرفها الناس وعند ذلك تصبح مقبولاً، ولكن الآن مسألة قبول الناس بترشيحك أمر مستحيل. ورد فوراً: انا مع التمديد سنة للرئيس سركيس. فقلت هل تتكلم جدياً؟ اجاب: اسأل عني انا لا اكذب وألتزم كلامي. وبالفعل استندت الى هذا القول وتداولنا في كلام كثير. من هذا الكلام مثلاً عندما أراد ان يعبر عن رأيه كانت واضحة عنده انه هو من الفريق المنتصر، وان المنتصر والمنهزم لا يمكن ان يكونا على قدم المساواة. وقال: نحن دفعنا خمسة آلاف عن لبنان، فقلت له انت بدأت الغلط، هناك مئة ألف شهيد، اذا لم تسم سوى 5 آلاف منهم شهداء فكيف تريد ان تكون ممثلاً كل لبنان؟ وكيف تطرح نفسك لحكم كل الناس؟ ثانياً، اذا كنت تعتبر انك منتصر، فأنت مخطئ. ستكتشف ان الاسرائيلي الذي أوصى اليك بأنك منتصر هو المنتصر الحقيقي. كلنا مهزومون وستكتشف سريعاً انك اكبر المهزومين فالهزيمة لنا جميعاً. والسعي - اذا كان هناك من سعي - يجب ان يكون من قبلنا جميعاً للخلاص من هذه الهزيمة ولا يمكن الخروج منها الا بوحدة لبنان ووحدة الصف اللبناني. وافترقنا من دون تحديد موعد جديد للقاء، ولكن مع القول بلقاءات جديدة وعرضت الموضوع على عدد من القيادات ووافقوني الرأي بالتمديد سنة للرئيس سركيس. الرئيس المريض يغضب وذهبت الى الرئيس سركيس وطرحت معه الموضوع فانفجر غاضباً. ولم أعرف سبباً لهذا الغضب الا بعد فترة طويلة، عندما لم يعد رئيساً للجمهورية وأصبح مريضاً. ذهبت لأزوره فقال لي يومها: "أنت ظلمتني" لأنه عندما غضب قال: "شو بدك تقلي، اذا لم أجدد يخرب لبنان؟ ليخرب، لا أريد ان أجدد". وبالفعل انا اجبته اجابة كانت قاسية، كما يبدو، اذ قلت "ان لبنان لم يسئ اليك، انتخبك رئيساً للجمهورية ولا يجوز ان تقول ذلك". فقال: "آسف انا مش وارد ابداً". عندما التقيته بعد مرضه، قال لي: "انت ظلمتني. عندما فاتحتني بموضوع التمديد، انا كنت قبل سنة اصاب بنوبات وكنت اخاف ان يطرح احد من خصومي انني لم اعد صالحاً لسبب مرضي. وكان هذا الموضوع يطغى على تفكيري اذ انني كنت انتظر الساعة التي أتمكن فيها من الخروج من الرئاسة من دون ان اتعرض لمثل هذا الموقف". بعدها سمعت كلاماً للشيخ بشير الجميل في لقاءات صحافية غاب عنها اي كلام عن منتصر ومهزوم وصار يتكلم عن اللبنانيين وعن مئة ألف شهيد ويقول كلنا معاً سننقذ لبنان. اختلف الخطاب السياسي تماماً، قبل انتخابه رئيساً للجمهورية وبعد انتخابه. التقيته مرة ثانية على مائدة الغداء عند الصديق طارق حبشي في حضور السيدة صولانج زوجته قبل انتخابه. والطرفة انه قال لي: زوجتي لا تشتغل بالسياسة فإذا كنت لا تريد ان تتغدى معنا فليست هناك مشكلة. هنا لا بد من التذكير بأنني عندما قلت له انت بطل مجزرة كذا، جاوبني "وأنا لن أدافع عن نفسي، التاريخ سيكشف ما الذي يجري، أود ان اقول لك اننا في موضوع الصفرا كنا ندفع بالتقسيط، فدفعناهم بالجملة. أتيت اليك الآن الى منزل الدكتور طارق أقود سيارتي من دون مرافق. قبل الصفرا لم أكن استطيع التجول من دون مرافقين. وفي كل الاحوال لا اريد ان ادافع عن نفسي في هذا الموضوع". أمين الجميل * شاركت في انتخاب أمين الجميل؟ - كلنا شاركنا في انتخاب أمين على أمل ان نعمل شيئاً بموافقة الجميع، حتى الذين لم يشاركوا لعجزهم عن الوصول بسبب العوائق الامنية، مثل الرئيس كرامي وغيره. لكن القرار كان اجماعياً. بعد اغتيال الرئيس بشير الجميل صارت هناك ردة فعل لمواجهة اسرائيل وكنا وما زلنا نعتقد بأن اللقاء الاخير بيني وبين الشيخ بشير كان واضحاً انه وصل الى قناعات بخصوص اسرائيل مختلفة تماماً عن قناعاته السابقة. وكان يسأل كيف الطريقة للخلاص من الموضوع الاسرائيلي. * قلت ان غسان تويني شارك في ترتيب الاتفاق بين ريمون اده وجنبلاط في 1970، هل علاقتك قديمة معه؟ - طبعاً والدي كان صديق والده وعلاقتي به موروثة. وما زلت أكرر ان صداقاتي التي بنيتها من دون جهد أهلي قليلة قياساً على الصداقات التي ورثتها. طبعاً استمرت هذه الصداقة مع الاستاذ تويني. * صداقة سياسية؟ - الصداقة تتخطى السياسة. أحياناً نكون متفقين في موقف سياسي، واحياناً مختلفين، لكن هذه الصداقة لها مكان. هناك محطات كثيرة مهمة منها ما سمي في بعبدا ليلة الكونياك. اختفاء الصدر * كانت بينك وبين الإمام موسى الصدر علاقة حميمة، ماذا لديك من معلومات عن اختفائه؟ - انا من الذين شاركوا في تأسيس حركة المحرومين وشاركت مع الإمام الصدر في تأسيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى وبالتالي في ما كان يسمى الجبهة الوطنية للمحافظة على الجنوب... وكلها اطر تصب في خط واحد هو تكريس وحدة لبنان والعيش المشترك المسيحي - الاسلامي واقامة دولة العدالة والمساواة، الدولة القادرة والضامنة لحقوق الانسان وحرياتهم، اي الدولة المدنية. قلت ذلك لأن لاختفاء الإمام الصدر علاقة بما كان يمثله من قيم ومن خط وكان لا بد من اخفائه على أيدي المعادين لهذا الخط. الكل يعلم ان الاخفاء تم على يد العقيد معمر القذافي وهو أمر لا يقبل الجدل او التأويل او الشك. ذهب الإمام الصدر مع رفيقيه الى ليبيا تلبية لدعوة رسمية وأخفي هناك. وحاول النظام الليبي - والأصح اللانظام الليبي اذ لم يثبت حتى الآن ان هناك نظاماً في ليبيا - الادعاء انه سافر الى روما لكن رأس النظام عاد وتراجع امام عدد من رؤساء الدول العربية عن مثل هذا الادعاء. وقد اثبت القضاء الايطالي بما لا يقبل الجدل ان الإمام الصدر لم يحضر الى روما. خلال وجوده في ليبيا التقى الإمام الصدر القذافي وتفيد المعلومات انه اخفي بعد اللقاء ليلة 31 آب اغسطس 1978. كانت للإمام الصدر مواقف واضحة لجهة وحدة لبنان وتطبيق القرارات الدولية وإنهاء الوجود الفلسطيني المسلح. الى الآن هناك انباء متضاربة عن مصير الإمام، وطول مدة الاخفاء يجعل الآمال ببقائه حياً ضعيفة. لكن احداً لا يستطيع الجزم بأنه قتل او لا يزال حياً. المدة الطويلة وعدم ظهور معلومات ذات قيمة تجعلان كفة الجانب السلبي ترجح. * هل هناك شركاء في عملية اخفائه؟ - هناك تحريض واضح من جهات اخرى. وهي جهات غير لبنانية بعضها فلسطيني. هناك معلومات عن تحريض وقد يكون لجهات غير فلسطينية وغير عربية دور. لكن دور القذافي معروف في احداث الثغرات وكان له الدور الأبرز في بداية المحنة اللبنانية. * وتوليك لرئاسة حركة "أمل"؟ - فور اخفاء الإمام الصدر لبستني المسؤولية من دون ان ألبسها. طبعاً هناك مثل متداول في منطقة بعلبك يقول "ان المراجل حيا" اي ان الشخص يستحي من شيء فيقدم على الشجاعة. لم يكن تولي رئاسة "أمل" يومها من الأمور السلهلة وبالتالي لا أستطيع ان اهرب منه، وعندما وصلنا الى فترة يستطيع الكل ممارسة المسؤولية فيه استقلت في نيسان ابريل 1980.