مثلما يتذوق مرارة الهزيمة اي قائد عسكري يخسر معركة، تذوق الرئيس بيل كلينتون مرارة الهزيمة مع حزبه الديموقراطي، فيما ارتفعت في بورصة التكهنات اسماء المرشحين لخلافته في معركة انتخابات الرئاسة في شهر تشرين الثاني "نوفمبر" 1996. فهناك من يقول ان الذي سيقود الحزب الديموقراطي في تلك الانتخابات هو السيناتور اللبناني - الاميركي جورج ميتشيل الذي سيتقاعد من منصبه كزعيم للغالبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ في كانون الثاني يناير المقبل. وهناك من يقول ان الجنرال المتقاعد كولن باول هو الذي سيخوض انتخابات الرئاسة باسم الديموقراطيين. فمع انه ليس عضواً في أي حزب الا انه قد يقبل ترشيح اي حزب له نظراً الى ما يتمتع به من شعبية واسعة. وربما اختار الحزب شخصية اخرى. ولكن هل كانت الهزيمة النكراء التي مني بها الحزب الديموقراطي في كل من مجلسي النواب والشيوخ نتيجة أخطاء كلينتون؟ أم هل كانت نتيجة اخطاء اعضاء الكونغرس انفسهم الذين رفضهم الشعب؟ ثم هل قادهم كلينتون فعلاً الى الهزيمة ام قاد اولئك "الجنود" المعركة على هواهم وسط حقول من الالغام ؟ من المؤكد انه يمكن القاء اللوم على كلينتون لأنه حاكم ولاية ريفية وصل الى واشنطن من دون اي خبرة في خفاياها وسياستها، ولم يستطع ادارة الكونغرس في الطريقة التي اداره بها كل من الرئيسين هاري ترومان وليندون جونسون. الا ان فوزه في انتخابات الرئاسة كان في رأي المحللين "تصويتاً بعدم الثقة في واشنطن". اذن هل يتحمل اللوم على نتيجة التصويت الآخير بعدم الثقة في واشنطن وما نجم عنه من هزيمة الكثيرين من اعضاء الكونغرس؟ لقد كان فوز جيمي كارتر عام 1976 نتيجة التصويت الشعبي ضد واشنطن ولكن إخفاقه هو الآخر في ادارة الكونغرس وتوجيهه أديا الى خروجه من البيت الابيض وبالتالي الى دخول رونالد ريغان. فهل سيواجه كلينتون خلال سنتين المصير الذي واجهه كارتر؟ ام هل تمثل النتيجة التي تمخضت عنها هذه الانتخابات احتجاجاً شعبياً على الحزب الديموقراطي لا على كلينتون شخصياً؟ ويقول احد الديبلوماسيين الاوروبيين: "ان الناخبين قرروا التصويت ضد الذين يشغلون المناصب. ففي احدث استطلاعات الرأي العام كان كلينتون يتمتع بتأييد 50 في المئة من الناخبين، بينما اعربت نسبة 43 في المئة عن استيائها منه. وهذه نسبة لم يسبق لأي رئيس ديموقراطي ان حصل عليها في استفتاءات منتصف الولاية الرئاسية منذ روزفلت، كما انها تعادل افضل شعبية تمتع بها أي رئيس أميركي في منتصف فترة رئاسته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومعنى هذا الكلام انه لو كان كلينتون خاض انتخابات الرئاسة الاسبوع الماضي لفاز بكل تأكيد، بغض النظر عما حصل في انتخابات الكونغرس". ويوافق السيناتور ميتشيل على هذا التحليل، اذ يقول: "لقد صوت الناخبون ضد اعضاء الكونغرس الموجودين في واشنطن. ونظراً الى ان المنافسة شملت جميع مقاعد مجلس النواب وعددها 435 مقعداً ولم تشمل سوى ثلث مقاعد مجلس الشيوخ، فان الهزيمة التي مني بها الحزب الديموقراطي في مجلس النواب كانت اعظم كثيراً من تلك التي لحقت بهم في مجلس الشيوخ". ويقول احد ممثلي الاتحاد الاوروبي في واشنطن: "ان سجال كلينتون في مجال السياسة الداخلية جيد. فالاقتصاد في حالة نمو مضطرد والبطالة في انخفاض مستمر. كما ان سياسته الخارجية حققت نجاحاً واضحاً: في هايتي وفي الازمة الكويتية وكوريا الشمالية ومحادثات التجارة العالمية. أما المرة الوحيدة التي منيت فيها سياسته الداخلية او الخارجية بالفشل الذريع فهي تتعلق ببرنامج اصلاحات النظام الصحي". لكن سفير احدى الدول الاوروبية يقول ان كلينتون "يفتقر الى سحر الشخصية، كما انه يعطي الانطباع بالفتور وعدم العمق. فمع انه درس في جامعة اوكسفورد فإنه يعطيك انطباعاً بأنه لم يغادر الولاية التي كان يحكمها - آركنساس. لكن هذا كله لا يعني انه أقل كفاءة وقدرة من الرؤساء الذين سبقوه مثل ريغان أو بوش". ويتفق جميع المحللين في واشنطن على ان الناخبين ارادوا توجيه رسالة واضحة الى الحزبين الديموقراطي والجمهوري. فالطريقة الوحيدة لمعاقبة عضو ديموقراطي في الكونغرس هي التصويت لمنافسه الجمهوري، ومعاقبة العضو الجموري بالتصويت لمصلحة خصمه الديموقراطي. ولما كان عدد الاعضاء الدموقراطيين اكبر فان عدد الذين منيوا بالهزيمة منهم كان اكبر. اذ لا يوجد ما يدل اطلاقاً على ان الحزب الجمهوري يتمتع بشعبية اكبر من الحزب الديموقراطي. وفي هذا ما دفع الجنرال باول، كما يقول اصدقاؤه المقربون، الى التفكير جدياً في خوض انتخابات الرئاسة المقبلة كمرشح مستقل نتيجة تردي شعبية الحزبين. ويرى مراقبون ان النجاح الذي حققه الحزب الجمهوري في الانتخابات الاخيرة يلقي اعباء ثقيلة على كاهل الحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، بعد ان اصبح يسيطر على المجلسين. فمن المفارقات انه اصبح على الكونغرس الآن ان يقر التشريعات التي اخفق كلينتون في اقرارها في الكونغرس الذي كان حزبه الديموقراطي يسيطر عليه. ولكن ما هي الآثار التي ستنجم في مجال السياسة الخارجية؟ من المؤكد ان توقع استقالة وزير الخارجية وارن كريستوفر ومستشار الامن القومي انتوني ليك خلال الاسابيع القليلة المقبلة سيكون له أثر في السياسة الخارجية اعظم مما سيكون لهزيمة الدموقراطيين في الكونغرس. ومن الواضح ايضاً ان كلينتون يدرك الآن ان قضايا الدفاع والسياسة الخارجية وحدها لايمكن ان تضمن الفوز الانتخابي. ومع استمرار الانتعاش الاقتصادي من المرجح ان يعود الرئيس ثانية الى التركيز على برنامجه للاصلاح الصحي. لقد اعتاد كلينتون قبل الانتخابات القاء اللوم على الكونغرس لمعارضته تنفيذ برامجه الاصلاحية. ومن المؤكد انه سيمعن الآن في القاء اللوم على الكونغرس وبعنفوان أشد، لأن المعارضة هي التي تسيطر على المجلسين. ومع ذلك فمن الواضح انه اصبح في موقف صعب للغاية. وكما هو الحال مع الرئيس الفرنسي ميتران يجب عليه الآن ان يحاول الحكم فوق رؤوس خصومه السياسيين. لكن هذه ليست ظاهرة فريدة في الولاياتالمتحدة، اذ يقول ديبلوماسي ياباني: "لقد تخلصنا في اليابان من حزب كانت له جذور راسخة جداً، وكان يهيمن على السلطة بشكل أقوى من كلا الحزبين الجمهوري والديموقراطي. كما ان الشعب البريطاني يمقت اعضاء البرلمان. وكذلك الحال بالنسبة الى الفرنسيين. ولهذا فانني لا اعتقد بأن الوضع مختلف كثيراً في الدول الاخرى عما هو عليه في الولاياتالمتحدة".