من باب "تحصيل الحاصل" ان ينادي بعضهم اليوم بضرورة اعادة الاعتبار إلى الرئيس أنور السادات الذي هاجمته أصوات كثيرة غاضبة كالت له التهم بالخيانة والعمالة والانبطاح والتفريط. والحقيقة انه بعد مرور واحد وعشرين عاماً على حرب تشرين الأول اكتوبر، وسبع عشرة سنة على زيارة القدس، ومنذ قيام مؤتمر مدريد والتسابق المعرفي في المحادثات الثنائية واستشراف آفاق المستقبل في المحادثات المتعددة، أيقن معظم العرب ان رؤية السادات للمستقبل كانت سليمة، وان حسه السياسي كان صائباً فأدرك طبيعة المتغيرات الجديدة واتجاهات التغيير واستثمرها بحنكة ومثابرة لمصلحة اهدافنا القومية. واتبع اسلوباً مبدعاً في العمل السياسي يتماشى مع التغيير في المدركات وفي الرموز والأحاسيس والتطلعات التي تختلج في وجدان الشعور الشعبي العالمي. وأثبت مرور الزمن وتوالي الاحداث ان هذه الرؤية الجديدة كانت صادقة، وانها عبرت وتعبر عن الوعي السليم لحركة التاريخ. وأدرك التيار الرئيسي العربي ان الرؤية الرافضة لحركة التاريخ تعبر عن وعي زائف يجر علينا تزايد الفشل وتراكم الخيبة ويدفعنا بعيداً عن دائرة التأثير والتفاعل الى دائرة الاهمال والتهميش. حقيقة لا تزال هناك اصوات عربية تكابر في الحق وتخلط بين الأسباب والنتائج فتقول اننا وصلنا الى ما نحن فيه لأن السادات بادر بسياسة المهادنة والمصالحة. واصحاب هذا المنطق المغلوط يحاولون القول انه كان في يد السادات وحده قلب موازين القوى وتغيير علاقات المصالح وحل الصراع المعقد والممتد منذ نهاية الحرب العالمية الاولى الى اليوم والذي فشلت جهود اقليمية ودولية في الحد من تصاعده والحد من اتساع رقعته كماً وكيفاً. لقد رد الاعتبار إلى السادات مع كل رقعة أرض حررت من الاحتلال الاسرائيلي ومع كل درجة من الحرية حصل عليها العرب الواقعون تحت الحكم الاسرائيلي. وأياً كانت القيود والشروط فان روح التحرير والانتفاضة والانطلاق الى علاقات جديدة تستهدف السلام القائم على المفاوضة والمشاركة تطرح منطلقاً للعمل العربي يسمح بمزيد من تلاحق النجاح والانجاز وتحقيق غد أكثر اشراقاً للشعوب العربية بدلاً من المنطلقات البائدة التي جانبها النجاح وأدت الى سيادة الهزائم والنكسات والتخلف. واذا كانت الشعوب العربية بصفة عامة أكثر تقبلاً لمبادرات السادات، واذا كان رجال القوات المسلحة اكثر تفهماً وادراكاً لدوافع السادات ومواجهته للحقائق والتعامل معها، فان جماعات من رجال الفكر ودوائر من المشتغلين بالسياسة والاعلام أصروا على رفض الرؤى الجديدة وفضلوا ان يشاهدوا التغيير العالمي من خلال نظارة سوداء مقلوبة ترى الحال والمستقبل بنوع من عمى الألوان وتنغلق على الماضي كأن التاريخ كمّ ثابت لا يتحرك. وكان شعورهم هذا صادقاً ومتسقاً مع مفاهيمهم ومنطلقاتهم إذ انهم عاشوا ويعيشون في حصن من الايديولوجية تحوّل مع تغيير الزمن الى سجن فكري يحد من بصرهم وبصيرتهم. ولما كانت غالبية هؤلاء النخبة من المخلصين، فقد خاضت وتخوض معارك عنيفة وعميقة مع النفس لاكتشاف الواقع الجديد ولادراك ان الفكر متجدد حي ينفعل ويتفاعل مع الانسان وهو بدوره طاقة متجددة متغيرة... ومن دفع الحياة هذا تطرح رؤى جديدة ويتغير الواقع السابق فيصبح تاريخاً لحقبة من الزمن. ان التمسك بالصور الخارجية والصروح التي انتهت حيويتها وفعاليتها يدفع بالمفكر والسياسي الى ان يصبح من أهل الكهف السياسي. ولن أتطرق الى غير المخلصين الذين يجيدون تفصيل الايديولوجية والتبريرات حسب الطلب وحسب القدرة على الدافع. وحتى تجار السياسة وسماسرة ترويض الرأي العام وتضليل الشعوب اكتشفوا بعد سنوات الوعي الصحيح، فهاجموا البضاعة الفكرية التي احتكروا تجارتها لكنهم فعلوا ذلك حين قام نفط العرب بتزييت عدتهم وازالة الصدأ عنها، بعضهم أخذ من كل يد تعطي ومن كل بئر تدر على رغم اختلاف النظم والزعامات، وبعضهم اعتراه نوع من عودة الوعي المفاجئ الذي تزامن مع قوة الدفع المادي وحجمه... هؤلاء يمثلون عناصر التشويش والتضليل ويعيشون في جو الظلال والغروب الذي استفحل لضياع المعايير وضحالة الفكر وتشتت النخبة وغلبة قوى القصور الذاتي والسلفية الجوفاء على قدرات التجديد والابداع. لكن التساؤل الاعمق يمتد الى أعماق تتعدى موضوع اعادة الاعتبار إلى دور السادات التاريخي لأن المحك الحقيقي هو فهم القضايا والمعضلات والاختبارات التي واجهت الشعب العربي بعد نكبة حزيران يونيو 1967. ان البحث عن الذات العربية اثر هذا الاختبار المر كان يتطلب بحثاً اعمق من اجادة الفن العسكري والسياسي لأنه استدعى ويستدعي اختبار اسلوب التفكير ومواجهة الحقائق من دون تغطية او تعمية والتعايش مع العالم الحي بكل عطائه وتناقضاته. في عجالة سريعة، ان صدمة 1967 طرحت بالحاح حواراً عميقاً، وان كان معظمه صامتاً. واذكر حين كلفني الزعيم عبدالناصر ان اعمل متحدثاً رسمياً لمصر انني بادرت الى القيام منفرداً برحلة من كفر الشيخ في شمال الدلتا الى اقصى الصعيد للتعرف إلى ما يختلج في فكر الشعب ووجدانه، ولمست أبعاد هذا الحوار الصامت، من حيث النشر والاعلان، المدوي من حيث الاثر والعمق. شعرت بأن هناك توافقاً صامتاً على الامور الآتية: أولاً: ان مصر والدول العربية لم تبلور سياسة عملية تجاه اسرائيل، وان شعار القضاء على اسرائيل هو شعار فارغ من اي مضمون تكتيكي او استراتيجي. وان العداء المطلق ليس له مضمون سياسي. وحتى النصر لم نحدد اهدافه، فهل هو متمثل في الحصول على النقب أم ماذا؟ وماذا سنفعل بملايين الاسرائيليين حتى لو قرروا اتباع سياسة غير صهيونية؟ وان الخلافات السياسية مهما اشتدت وتعقدت يجب ألا تدفعنا الى اوضاع اكثر سوءاً من الاوضاع السائدة. وان العالم لن يتغير لمجرد رغبتنا في تغييره. هناك حاجة ماسة الى اهداف معقولة وممكنة وقابلة للدخول اليها بتكلفة انسانية ومادية مناسبة وان الحاجة ملحة إلى ترشيد الاهداف والوسائل. ثانياً: ان سياسة اتخاذ القرار في القضايا الجوهرية يجب ان تقوم على سياسة يؤيدها ويساهم فيها التوافق العام للشعب بكل فئاته. وان اتخاذ الخطوات التنفيذية يجب ان يشارك فيه ويعبأ له خير العقول والخبرات، ولا بد من تفهم الشعب وتأييده لتلك السياسة حتى وان كان على هذه السياسة ان تتقدم وتستمر وتتغير حسب المراجعة والمشاركة والنقد المستمر. فلا بد من ديموقراطية المضمون حتى وان غابت ديموقراطية القوالب. ثالثاً: ان النظام السياسي القائم على المركز السياسي الأوحد والجهاز السياسي الأوحد، والاطار الاقتصادي المركزي الأوحد لم يعد صالحاً أو مناسباً لتنمية الطاقات الشعبية والقومية لمواجهة التخلف المادي والمعنوي، ولا بد من اعادة بناء الهيكل السياسي للدولة. رابعاً: ان السياسة، حتى وان استندت إلى قيم مطلقة، فانها ليست علماً مطلقاً. ان السياسة العامة هي ممارسة في فن وعلم الممكن. وان الممكن ليس كماً صلباً ثابتاً. السياسة الجادة هي السعي المستمر العملي إلى تصعيد الممكن وإثرائه وتوسيع أبعاده. وان ثمار العملية السياسية يجب ان تؤتي في الزمن المحدود نتائج ملموسة. خامساً: ان السعي الى مصالحة تاريخية بين العرب واسرائيل لا يتم عن طريق مفاوضات سرية توضع في ثلاجة التجميد ثم تذاب في جهاز ميكروويف للتسخين في الوقت المناسب. ان مثل هذا المسعى التاريخي يجب ان يتم في العلن وتتوافر له الشفافية. وان السلام طريق صعب سيتعرض لعقبات كثيرة لكنه المنطلق الاصلح للشعوب، وان السلام يجب ان يتحرك تدريجاً الى سلام الشعوب وليس مجرد سلام الحكومات والنظم السياسية. سادساً: ان النظام والمؤسسات والقوالب التنظيمية للدولة وللمجتمع تحتاج الى مراجعة شاملة، ولا بد من التعددية سعياً وراء الديموقراطية الدستورية والمساءلة وحرية الرأي والفكر. على أساس هذه الاسس انطلق السادات بقدر ما واتته الظروف السياسية والامكانات المتاحة من تأييد ومعارضة. واذكر انه حين فاجأ رئيس وزرائه والمحيطين به بفكرة "المنابر" قال احدهم ان الشعب لا يطالب، بينما قال آخر ان الاحزاب تمثل تعقيداً نحن لسنا في حاجة اليه. لقد واجه السادات معارضة داخلية من بعض المحيطين به لا تقل عن المعارضة التي واجهها من معارضيه السياسيين. باختصار - وقد عملت مع الزعيمين التاريخيين لمصر الحديثة - فان عبدالناصر كان يمثل ابن مصر والعرب الذي رفع صوت الضعفاء والمحرومين واعطاهم امكان الامل. اما السادات فجمع الاشلاء المتقطعة والمتناثرة واثبت امكانات شعب مصر والعرب في صورة عملية يتقبلها العالم. كان على السادات ان يواجه اختبارات صعبة أو يحطم بعض القواعد المتكلسة وان يقود الى حرب تثبت قدرة الذات المصرية والعربية، وان يبادر الى سلام يبدع على رغم المخاطر والثغرات. وعلى رغم اخطاء سياسية في المسائل الداخلية وفي تطبيق التغيير فان رؤيته الدولية والاقليمية كانت صائبة وسباقة. ولعل اعادة الاعتبار الى الشعب ومخاطبته بصدق واستدعاء عناصر القوة والخلق والابداع فيه هي الدرس المستفاد من تجربة السادات وعبد الناصر بغض النظر عن الاخطاء والمآخذ. ان في اعادة الاعتبار إلى لشعب ومن الشعب وبالشعب، في عمل وحوار دائم، يكمن طريق التحرير والتنمية والانطلاق في اطارات دستورية وقانونية تحترم الانسان وتعيش في هذا العالم، تعطي وتأخذ، تخطئ وتنجز. وبذلك تكون "اعادة الاعتبار" بمثابة "رد للاعتبار" يتيح تفجير الطاقات العربية في البناء والابداع والمساهمة في تشييد صرح السلام. * سفير مصري سابق.