شرح الرئيس حسني مبارك موقفه الرافض تعيين نائب للرئيس، مراراً وتكراراً. وأكد أنه لا يريد أن يفرض الرئيس المقبل للبلاد، وأن اختيار الرئيس المقبل هو من حق الشعب وحده. ولا أدري لماذا لم يتبنّ الحزب الوطني هذا الموقف ويترجمه الى موقف عملي حتى الآن. ولعل الحوار الوطني الذي اقترحه الحزب مناسبة مثالية لوضع هذه القضية وغيرها من قضايا الاصلاح السياسي على مائدة الحوار الوطني. فهي فعلاً قضية جوهرية يجب أن لا يقتصر القرار فيها على المنابر الاعتيادية لصنع السياسة، لأنها تتمتع بمكانة فوق مكانة السياسة العادية. وهذا النوع من القضايا له منزلة دستورية، ومن ثم لا يليق أن يقررها مجلس الشعب البرلمان مثلاً، خصوصاً أنه يكاد يكون حكراً على الحزب الوطني من دون غيره من سائر الأحزاب. والمسائل التي تكتسب منزلة دستورية يجب أن يقررها الشعب وأن تخضع لمناقشات مستفيضة من جانب المجتمع المدني والسياسي كله. والواقع أن اصلاح نظام الخلافة السياسية يمكن أن يصبح أعظم انجازات الحوار الوطني، بل أهم الاضافات والاصلاحات السياسية في عهد الرئيس مبارك على الاطلاق. فالنظام الذي يقرره الدستور الحالي لاختيار رئيس الدولة لا يحقق رؤية الرئيس مبارك التي تقول إن اختيار رئيس الدولة هو حق الشعب وحده. فالرئاسة في هذا الدستور بل في دساتير ثورة 23 تموز يوليو جميعها يحددها مجلس الشعب وليس الشعب، وهي تكاد لا تكون منصباً منتخباً ولو على درجتين. فالشعب يقول رأيه في الاستفتاء حول قبول أو عدم قبول ترشيح مجلس الشعب للرئيس. ومن شبه المستحيل عملياً أن يناقض الشعب ترشيح البرلمان وإلا وقع ارتباط دستوري وفراغ سياسي لا حل له في الدستور أو حتى في الفكر السياسي. لقد جمع دستور 1971 في هذا النظام لتولية الرئيس بين نقيضين. فهذا الدستور تفنن في توسيع سلطات رئيس الدولة التي تتعدى السلطة التنفيذية الى غيرها من السلطات. ومعنى ذلك من وجهة النظر الديموقراطية أن يتم انتخاب الرئيس انتخاباً حراً مباشراً من الشعب صاحب السيادة. وغير ذلك من الطرق لتولية الرئيس - ومنها الاستفتاء - معروفة في الأنظمة الملكية الدستورية أو الجمهورية البرلمانية حيث لا يتمتع الرئيس بسلطات حكم حقيقية باعتباره مجرد رمز للسيادة. ولهذا قد يختاره البرلمان مثلما يحدث مثلاً في النظامين الهندي والاسرائيلي. أو يرث الحكم مثلما في النظام الملكي الوراثي الانكليزي. ولا بد من انهاء هذا التناقض الذي يسم دستور 1971 وجعل الرئاسة منصباً مترامي السلطات ومع ذلك فهو لا يقوم على الانتخاب الشعبي المباشر كما تملي الأصول الدستورية المرعية في المجتمعات الديموقراطية. فالاستفتاء غير الانتخاب ابتداء. ومن المعروف أن الانتخاب يجب أن يتم بين أكثر من مرشح ليكون صحيحاً. فالانتخاب بالتزكية هو أقرب إلى نظام البيعة منه الى الانتخاب الصحيح حتى من الناحية اللغوية البحتة. فالمرء ينتخب بمعنى يختار من كثرة. والواقع أن الهدف الجوهري من فكرة الانتخاب ليست النيابة عن الشعب بذاتها فحسب وانما طرح البدائل الممكنة على الشعب ليختار من بينها ما يروق له ويعده صالحاً أكثر من غيره. والأهم هو الأفكار والسياسات التي يدافع عنها المرشح للرئاسة ويلتزمها أمام الشعب أكثر من الشخص. وهذه هي الفكرة التي تجعل النظام الديموقراطي متفوقاً من الناحية الفنية على غيره من النظم. اذ أنه النظام الوحيد الذي يسمح للشعب بأن يتعلم من تجربته وأن يصحح تلك التجربة عندما يخطئ ويدفع غالياً ثمن هذا الخطأ. ولكي يتم حصر احتمال المصادفة والخطأ ويقوم الاختيار على أسس صحيحة، لا بد أن يعلم الشعب ابتداءً ماذا ستكون عليه توجهات الرئيس وما هي سياساته. والانتخاب الحقيقي هو تفويض من الشعب لشخص أو حزب أو جماعة ما بتطبيق سياسات وعاها المواطنون ووافقوا عليها في لحظة معينة بالمقارنة بغيرها. ولذلك فإن الاختيار أو الانتخاب هو فعل نسبي وليس مطلقاً. فالنظام الديموقراطي لا يعرف "مطلقات" ولا يقرها. ولهذا السبب نفسه لا يزال الرئيس مبارك يرفض مثلاً مفهوم الدولة الدينية، وهي الدولة التي تقوم على "مُطلَقات" لا يجوز تعريضها للاختيار أو للانتخاب العام. كما لا يزال يرفض مفهوم الحزب الديني لأن هذا الحزب يريد أن يحكم بتفويض مطلق: أي من دون معرفة الشعب أو موافقته على السياسات المحددة التي سيأخذ بها هذا الحزب اذا وصل الى السلطة. فاختيارات مثل هذا الحزب وسياساته ليست معروضة باعتبارها بدائل نسبية لها مزايا ما وعيوب ما وانما هي تفويض إلهي أو هي إلزامات وليست التزامات طالما أنها تعني لديه نصوصاً مقدسة أو أوامر إلهية لا شأناً من شؤون البشر يخطئون فيها ويصيبون. وباعتبارها كذلك فهي مطلقات يقوم على تفسيرها الشخص أو الحزب القائم على الحكم من دون التزام محدد أمام عموم المواطنين. وعلى العكس من ذلك فالنظرية الديموقراطية ترى أن كل فعل أو اختيار سياسي هو نسبي ويتعامل مع قضايا نسبية ومحددة. وهنا يختلف معنى الانتخاب في النظام الديموقراطي عن أي نظام آخر لاختيار المسؤولين السياسيين أو تعيينهم. فالمناصب ليست مجرد نيابة وانما هي تفويض أو نيابة في مسائل محدودة وفي مدى محدد ولفترة محددة معروفة ومقررة سلفاً. وأي تفويض يفترض فيه الوعي بنتائجه سلباً وايجاباً. فكأن التفويض بمسؤوليات الحكم يفترض وعي الهيئة الناخبة بكيفية الحكم والتوجه الذي يأخذ به المرشحون للمناصب الحكومية حيال المواقف والقضايا العامة التي تهم المجتمع بأسره. وهذا هو المعنى المراد من مبدأ النيابة في الفكر الديموقراطي. فالرئيس ينوب عن الشعب في تطبيق بديل من بين البدائل المتاحة في مجال الأفكار والفلسفات السياسية وليس بديلاً عن الشعب في أن يتخذ ما يراه مناسباً من دون أن يكون الشعب على علم به لأن الشعب هو الذي يتحمل العواقب الحقيقية لما يفعله الرئيس والمسؤولون السياسيون الآخرون. ويحتم هذا المبدأ أن يكون الرئيس الذي يختاره الناس من بين مرشحين آخرين معروفاً لدى عموم المواطنين بما هو عليه من سمات شخصية ومواقف من القضايا العامة. وهذا هو ما لم يضمنه نظام تولية الرئيس في الدستور الحالي. تنهض هذه المعاني بوضوح خلف رؤية الرئيس مبارك وتعد سبباً معقولاً لمعارضته الضغوط التي يتعرض لها لتعيين نائب للرئيس. اذ جرى العرف السياسي منذ ثورة 23 تموز يوليو على أن يولّى "نائب الرئيس" الذي حدث أن كان موجوداً وقت أن اختار الله الرئيس القائم الى جانبه. وقد يكون في ذلك نوع من أنواع المصادفة البحتة. ومن المؤكد أن مثل تلك المصادفات قد تسبب مشاكل لا حصر لها للأمة. واعترف بذلك ضمناً الرئيس السادات الذي أطاح بمن احتلوا منصب النائب له شخصياً وقت أن تولى الحكم ملقياً عليهم التهم شتى. ولو افترضنا أن المصادفات قادت الى نتيجة مختلفة غير أن يتولى الرئيس السادات منصبه لكان من الممكن أن يكون لدينا رئيس أو رؤساء لم يكونوا موضع ثقته أو سبباً لاطمئنانه ناهيك عن ثقة الشعب أو اطمئنانه. ويكفي هذا السبب لإدراك حتمية تغيير نظام تولية الرئيس أو الخلافة السياسية في الدستور الحالي بل في نظام 23 تموز يوليو اجمالاً. ذلك أن الرئاسة - بجلال قدرها وهيبتها في مصر - يجب أن لا تكون أمراً خاضعاً للمصادفات أو لاختيار شخص واحد هو الرئيس القائم. والواقع أن "قضية نائب الرئيس" أو الخلافة السياسية ليست سوى مدخل للقضية الأوسع والأهم، وهي الاصلاح السياسي. بل إن الحوار حول الاصلاح السياسي الوطني، لو خلصت له النية، ينتهي الى اختيار نظام آخر للحكم غير ما أخذت به دساتير الثورة ومنها دستور 1971. ولم يكن ذلك بعيداً عن تصورات ثورة 23 تموز يوليو التي جعلت أحد أهدافها الستة "اقامة نظام نيابي سليم". والنظام النيابي هو النظام البرلماني أو ما يسميه البعض بالجمهورية البرلمانية التي تقوم على سلطة البرلمان وتزاول فيه حكومة منتخبة وظائف الحكم بصورة مستقلة عن وظائف السيادة مثلما كان مؤملاً من دستور 1923. وقد يتم الجمع بين بعض سمات النظامين البرلماني والرئاسي بدرجات مختلفة وتبعاً لخصائص الواقع المصري أو بالأحرى لتطلعات المصريين في التقدم وقيادة المنطقة والعالم الثالث نحو نظام ديموقراطي فعال. وقد يطرح البعض السؤال الآتي: هل الوقت ملائم الآن للحديث عن اصلاحات كبرى وطموحة للنظام السياسي في مصر. ثمة ما قد يسبب القلق في اللحظة الراهنة وقد يجعلها من وجهة نظر البعض غير مناسبة لإدخال اصلاحات عميقة في النظام السياسي المصري. اذ أن مستويات المشاركة السياسية بين المواطنين منخفضة كثيراً. وهو ما يبرر الخوف أو حتى الاعتقاد بأن المواضيع السياسية حتى لو كانت اصلاحات مهمة ليست من بين اهتمامات عموم الناس. ثم إن الوضع الاستراتيجي يشتمل على مخاطر جمة من الخارج ويخاصة بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر. وتتعرض الدول العربية جميعاً لضغوط كبيرة من جانب الولاياتالمتحدة وهو ما نعتقد أنه يرمي الى خدمة الأهداف الاسرائيلية في المنطقة. وهناك صعوبات اقتصادية كبيرة ومشكلات في مختلف جوانب الحياة، وهي تجعل البعض يعتقد بأن الأولوية يجب أن تكون لقضايا الخبز. ثم إن هناك المزاج السياسي والثقافي في البلاد والذي يثير مخاوف جادة من أن تأتي "الاصلاحات" إما على عكس المؤمل به أو المنتظر منها وهو دفع البلاد على طريق الديموقراطية. وتقول الحكمة التقليدية إن رفع مطلب الاصلاح السياسي أو الاجتماعي في وقت يتسم بردة أو نكسة ثقافية أو مزاج عام محافظ أو رجعي هو عين الخطأ. وتقول حكمة أخرى إنه يجب عدم الوقوع أبداً في خطأ القيام بإصلاحات اقتصادية وسياسية عميقة في الوقت نفسه. ويجب بالطبع أخذ كل هذه الظروف في الاعتبار أو التعامل مع هذه الحجج باحترام. لكن الاحترام الحقيقي لأية أحكام أو مواقف هو مناقشتها بصورة عقلانية. فالواقع أنه لا توجد في عالم السياسة ظروف مثالية لأي اصلاحات وانما توجد ضرورات أو لوازم لها. واذا كان هناك توقيت ملائم فهو يجب أن لا يكون مبكراً جداً بحيث يقع الاندفاع الى المجهول في وقت تزيد المخاطر أو المخاطرة. لكن يجب ألا يكون التوقيت متأخراً جداً حتى يستحيل أن يعطي أي نتائج. وكان الاصلاح المتأخر في الاتحاد السوفياتي السابق ومعظم أوروبا الاشتراكية الأخرى أهم أسباب انهيارها. وكان من الممكن انقاذ هذه النظم لو سمح لها بتطبيق الاصلاحات التي اقترحتها هي ذاتها. أما اذا نظرنا بشكل محدد إلى حالة مصر فلن يكون من الصعب التعامي عن المشاهدات الآتية: أولاً، أن الاصلاحات التي نتحدث عنها بل تحدثت عنها ثورة 23 تموز يوليو انتظرت لأكثر من خمسين عاماً، وهو وقت طويل بكل المقاييس، خصوصاً في عالم متغير لا بد أن تتمتع فيه بلادنا بالمرونة وخفة الحركة. وثانياً، أن المخاوف التي تثيرها وجهة النظر المتطيّرة من توقيت الاصلاح نتجت تحديداً عن التأخر في الاصلاح السياسي الديموقراطي ولم تكن قدراً. وكانت هذه الاعتبارات نفسها وظّفت لمصادرة أي حديث عن الاصلاح السياسي بعدما رفع الرئيس عبد الناصر شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة". ولو أن الاصلاحات التي وعد بها الرئيسان عبد الناصر والسادات طبقت في موعدها لما انخفضت مستويات المشاركة وعمّ اليأس من الاصلاح ولما تضخم نفوذ الاتجاهات غير الديموقراطية في مصر وزاد - ولم يقل - مع الزمن. والواقع أنه رغم بعض المخاوف المبررة لم تتمتع مصر بظروف أكثر ملاءمة للاصلاح من الوقت الحالي. فالمخاطر الخارجية أقل من أي مرحلة في تاريخ مصر الحديث. وعلى المستوى الداخلي فإن مصر هي الأقل معاناة من التوترات السياسية والاجتماعية من بين جميع بلاد العالم تقريباً. اذ اختفى الارهاب بصورة تامة منذ نحو ست سنوات كاملة. وانخفضت كذلك المؤشرات الأخرى للتوتر الاجتماعي والسياسي الظاهر. وتبدو المعارضة أكثر ولاءً للنظام السياسي وأكثر حرصاً على الاستقرار من الحكومة. فماذا ننتظر والى أي خطر داخلي نشير؟ واذا قال البعض إن الديموقراطية النيابية أقل قدرة على مواجهة المخاطر فليعيدوا قراءة التاريخ. لقد ثبتت الديموقراطية أمام المخاطر الخارجية والصعوبات الداخلية على السواء أكثر كثيراً من أي نظام سياسي آخر. وحققت الديموقراطية الرفاهية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي أكثر مما حققه أي نظام سياسي آخر. والواقع أن اللاديموقراطية هي أكثر التهديدات التي تواجه وطننا العربي، وليس العكس. واستعادة التلازم التاريخي بين الوطنية والديموقراطية هو الطريق الوحيد للتغلب على المخاطر الحقيقية والمزعومة. * نائب مدير مركز "الأهرام" للدراسات السياسية.