الحادث المؤسف الذي تعرّض له قبل أيام الكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ، في القاهرة التي يخيّم طيفه النحيل الشامخ على كل زقاق من أزقتها، كان له وقع الصاعقة على الرأي العام، وعلى أهل الثقافة والفكر والابداع. ولعل محاولة الاغتيال الفاشلة التي طالت صاحب الثلاثية، هي بمثابة جرس انذار، أو ناقوس خطر تلقاه الكتاب والفنانون العرب، واستخلصوا منه الدروس والعبر، تشهد على ذلك المظاهرة الضخمة التي اخترقت قبل أيام شوارع العاصمة المصرية. وفي هذه الاثناء لم يفقد شيخ الادباء العرب هدوءه وصفاءه المعهودين. فالدم الكثير الذي نزفه لم يؤثر على اعتداله ولا على روح النكتة التي عرف بها. ومن على فراش المستشفى تحدّى المجرمين الذين اعتدوا عليه أن يكونوا قرأوا سطراً واحداً من احدى رواياته. لم يخطئ الكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ، حين ربط بين محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرّض لها الأسبوع الماضي وبين اغتيال كل من الشيخ حسين الذهبي وزير الأوقاف المصري الأسبق على أيدي أعضاء من جماعة التكفير والهجرة عام 1977، والدكتور فرج فودة على ايدي اثنين من اعضاء "الجماعة الاسلامية" يوم 8 حزيران يونيو 1992. وقال محفوظ الذي كان يتحدث من على سرير في حجرته في مستشفى الشرطة عقب إعلان القبض على الجناة: "من المؤسف ان يلقي هؤلاء الشباب بأنفسهم في احضان الجريمة من دون وعي ولو حاسبناهم لوجدنا انهم لم يقرأوا سطراً من كتابات الذين حاولوا اغتيالهم". وتابع: "كان يمكن لهؤلاء أن يصبحوا علماء من رجال الدين والدنيا وتستفيد منهم الدولة ويحفظوا أرواحهم وأرواح ضحاياهم". ولم يستغرب أحد، حين أعلنت التحقيقات الاولية أن مخطط وقائد المجموعة التي تولت تنفيذ محاولة الاغتيال هذه، ليس إلا المتهم الذي أدين في قضية محاولة اغتيال فرج فودة، وهو مطلوب من العدالة تنفيذاً لحكم صدر غيابياً ضده بالسجن ثلاث سنوات... وبينت اعترافات المتهمين أنهم لجأوا الى استخدام مدية لقتل نجيب محفوظ نظراً لكبر سنه وعدم قدرته على المقاومة، ولكونه معتاداً على اقتراب العامة منه لمصافحته خلال خروجه أو عودته الى منزله. هكذا تمكن أحد الجناة من الاقتراب منه بسهولة، أثناء جلوسه في سيارة صديق للتوجه الى كازينو "قصر النيل" حيث تقام ندوة اسبوعية اعتاد ان يعقدها مع محبيه. أعتقد محفوظ أنه يواجه أحد "المعجبين" فهمّ بمصافحته، لكن الجاني عاجله بطعنة في عنقه بمدية تركها مغروسة في عنق الكاتب المصري، قبل ان يتمكن من الفرار ليلتقي شركاء له كانوا ينتظرون فوق جسر اكتوبر القريب من مكان الحادث، ويبث لهم البُشرى بنجاحه في "الوصول الى عنق صاحب نوبل". وعلى الرغم من الارتياح الذي أعقب قيام أجهزة الامن بالقبض على الجناة في أقل من يومين، وتخطي نجيب محفوظ مرحلة الخطر واستقرار حالته الصحية، فإن الحادث الذي كان له وقع الصاعقة على المجتمع المصري، أثار ردود فعل لا تحصى في مختلف الاوساط، كان أبرزها المظاهرة الضخمة التي دعا اليها كتاب وفنانو مصر يوم الثلثاء الماضي وسارت من قلب القاهرة باتجاه منزل محفوظ في حي العجوزة، احتجاجاً على الاعتداء الذي تعرض له الأديب الحائز جائزة نوبل للآداب 1988، ورفضاً لأسلوب التحاور بالرصاص والسكاكين. الهضيبي يستنكر مأمون الهضيبي وصف الحادث بأنه "عمل اجرامي"، وقال ل "الوسط": "هالنا ما وقع للاديب نجيب محفوظ. ونحن نستنكر أي عدوان من أي مصدر أو جهة على الدماء والارواح الآمنة او على امن واستقرار مصر وابنائها". كما حذّر الهضيبي، وهو الناطق الرسمي بلسان جماعة الاخوان المسلمين المحظورة، من الانزلاق الى "الفتن والمخاطر التي تهدم وتخرّب وتقطع الطريق أمام الاصلاح الصحيح". واذا كان اغتيال الشيخ الذهبي في السبعينات متوقعاً، حيث قتل بعد أن قامت جماعة "التكفير والهجرة" بقيادة شكري مصطفى باختطافه للانتقام منه بعد قيامه بمهاجمة افكار الجماعة... إذا كان الدكتور فرج فودة الذي اغتاله اثنان من قادة الجماعة الاسلامية هما عبد الشافي رمضان واشرف سيد ابراهيم، يعرف أن حياته مستهدفة بعد المناظرة التي جرت بينه وبين الشيخ محمد الغزالي ومأمون الهضيبي والدكتور محمد عمارة في كانون الثاني يناير 1992، وتزايد التهديدات التي كانت تصله عبر الهاتف أو البريد... فإن محاولة اغتيال نجيب محفوظ هي أكثر من مفاجأة. فالرجل اعتاد خلال السنوات الماضية أن يمارس حياته بطريقة طبيعية، وكثيرا ما كان يتناول في التلفزيون وفي الصحف برنامجه اليومي وتجواله في شوارع القاهرة، غير آبه بتدهور الاوضاع الامنية بعد اندلاع المواجهات بين الشرطة والمتطرفين. وحتى بعد أن أدلى الدكتور عمر عبد الرحمن زعيم الجماعة الاسلامية عام 1989، بحديث صحافي أعلن فيه اهدار دم نجيب محفوظ، باعتباره كافراً طالما لم يعلن توبته وندمه على تأليف رواية "أولاد حارتنا" قبل أكثر من ثلاثين عاماً. ولم تؤخذ الفتوى على محمل الجد، إذ ان محفوظ لم يعترض على مصادرة الرواية وسحبها من الاسواق، ولم يناقش الامر كثيراً راجع الكادر حول الرواية في مكان آخر من هذا الملفّ. لا بل أن محفوظ سجّل اعتراضه على فتوى الخميني باهدار دم سلمان رشدي، فاذا كان كتابه مسيئاً للاسلام حسب صاحب "الثلاثية"، فهو لن يكون الكتاب الاوّل ولا الأخير من هذا النوع، وعلى المسلمين الرد بكتب مضادة وليس بالرصاص والمتفجرات. ولقي موقف محفوظ حينها ترحيباً لدى بعض أوساط التيار الاسلامي ممن ينبذون لغة العنف. لذا تبدو النتائج المترتبة على محاولة اغتيال نجيب محفوظ على درجة من الضخامة. كأن مواجهة حقيقية هي هذه المرّة في طريقها الى التبلور، بين المثقفين والمتطرفين. فالنجم الكوميدي عادل إمام الذي يعد من أبرز الفنانين المصريين المستهدفين من قبل المتطرّفين، قال ل "الوسط": "إن ما حدث لنجيب محفوظ يستحق وقفة من جانب المثقفين ضد هؤلاء المجرمين"، واضاف: "صحيح ان الشعب يحب مثقفيه وفنانيه ويقف الى جانبهم، إلا ان على الدولة ان تحمي رموزها ونجيب محفوظ اكثر من رمز. فهو صاحب نوبل وعميد المثقفين المصريين الذين يعتبرون ضمير الأمة". مطلوب مواجهة أكثر حسماً! أما الاديب ابراهيم أصلان، فطالب بأن تكون المواجهة مع المتطرفين أكثر حسماً: "لا يمكن أن يكون لمثل هؤلاء المجرمين فكر أو قيم! وكيف يسعون الى السلطة ورصيدهم مئات القتلى والجرحى من الأبرياء". ووصف المفكر لطفي الخولي الحادثة بأنها "جريمة ضد الفكر والادب والانسانية"، فيما اتهم الدكتور عبد العظيم رمضان "صحفاً مصرية تزعم لنفسها الوطنية، في حين أنها تهاجم الوطنيين وتتهمهم بالخيانة وتحرّض على ارتكاب مثل هذه الجرائم". الصحافي مكرم محمد أحمد، رئيس مجلس ادارة "دار الهلال" ورئيس تحرير مجلة "المصور"، أكد أن مصر لن تصبح الجزائر. "فالمتطرّفون هناك صاروا جزءاً من الدولة. أما في مصر فهم تيار شاذ يعيش من دون انتماء أو ولاء". ورأى الكاتب محمد سيد احمد ان محاولة اغتيال محفوظ "جاءت في اطار محاولة المتطرفين لاغتيال المفكرين والمبدعين الذين يمثلون خطراً على الفكر السلفي التقليدي". كما حذر الأديب والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي من أن المتطرفين قصدوا من المحاولة توصيل رسالة الى كل المثقفين المصريين، وقال "اختاروا أهم كاتب عربي لارهاب كل المثقفين والادباء ولكي يعرف الجميع أن لديهم القدرة على الوصول الى الآخرين". الا أن حجازي حمل أيضاً على "أصحاب الاقلام المحرضة مثل الكاتب الذي اعتبر أن الاتصال مع العالم الخارجي "التحاق" و"تبعية"، والنائب البرلماني الذي يرفض نشر صورة لفنان عالمي على غلاف مجلة". وتساءل: "أليس هذا ارهاباً وتطرفاً، لا بل تحريض للمتطرفين ودعم لهم؟". وفتحت محاولة الاغتيال التي تعرض لها الكاتب المصري الكبير، ملف حماية المثقفين وفرض حراسة دائمة لهم. وكان محفوظ رفض الحماية الأمنية بحجّة أنّها تقيد حركته، الا أن أكثر من مثقف اعتبر أن هذه الحراسة كان بوسعها أن تكون خفيّة وغير مباشرة. وليس سراً أن السلطات المصرية فرضت حراسة على عدد كبير من المثقفين والفنانين خصوصاً بعد حادثة اغتيال الدكتور فرج فودة، وضبط العديد من اللوائح السوداء التي تضمنت اسماء مسؤولين ورجال أمن ومثقفين وفنانين... كان يخطط المتطرفون لاغتيالهم. ولعل المفكر رجل القانون المستشار سعيد العشماوي هو أقدم من يعيش تحت الحراسة. فهو يتحرك منذ 15 عاماً برفقة حرّاس أياً كانت وجهته، فضلاً عن نقطة الحراسة التي تقبع أمام منزله، وذلك منذ صدور كتابه "أصول الشريعة". لكنه يؤكد أن أفكاره لم تتغير، وأن تعرضه للتهديد بالقتل لم يؤثر في اصراره على مواصلة الطريق الذي اختاره لنفسه. وفي اليوم الذي تم فيه اغتيال الدكتور فرج فودة، أصدر اللواء محمد عبد الحليم موسى وزير الداخلية آنذاك قراراً بفرض حراسة على الدكتور رفعت السعيد الامين العام لحزب التجمع اليساري المعارض، والمفكر السياسي المعروف باتجاهاته المعارضة لتيار الاسلام السياسي. فالسعيد كان تلقى عدداً كبيراً من خطابات التهديد أحدها جاء فيه: "سوف اقتلك بسكين كي لا تفسد في البلاد، واقطع لحمك وألقيه للكلاب كي لا تدفن في أرض مسلمة". لكن السعيد يؤكّد اليوم أنه لا يعيش حالة حصار على رغم الحراسة المفروضة عليه والحراس الذين يعسكرون على مدخل منزله: "المتطرفون هم الذين يضعون انفسهم تحت حصار الشعب المصري الذي يرفضهم ويرفض افكارهم ويشمئز من أعمالهم. إن المسألة تعد اهانة للمجتمع حيث صرنا في زمن تفرض فيه الحراسة علينا بمجرد أننا عبرنا عن رأينا وهذا ما يجعلني اشعر بالحزن والاسى. لكنني رغم ذلك سوف أعبر عن رأيي بالطريقة التي أحددها، وسأقول ما اعتقد واتحداهم ولا تهمني تهديداتهم". وفي الفترة نفسها فرضت الحراسة أيضاً على المؤرخ والكاتب السياسي الدكتور عبد العظيم رمضان، وكان الخطاب الوحيد الذي وصله من الجماعات المتطرفة، حمل دعوة الى فتح الحوار وطلب مساعدة المثقفين لتحقيق ذلك. وقام الدكتور رمضان بالتعليق على الخطاب في صحيفة الوفد. اما مكرم محمد احمد نقيب الصحافيين السابق، فبدأت حكايته مع الارهاب والحراسة منذ عام 1985 عندما تبنت مجلة "المصور" حملة صحافية للتصدي لافكار الجماعات الدينية المتطرفة: "لم اهتم بخطابات التهديد، لأنني كنت اعتقد ان اي جماعة مهما بلغ تطرفها لن تحاول ان تقتل كاتباً لا يحمل سوى قلمه. في ذلك الوقت كانت عندي حراسة شخصية وحراسة على المنزل، ولكنني كنت اصرف الحرس الشخصي قبل الموعد المحدد، فما أصعب أن يكتب المرء والبنادق الآلية تحمي ظهره. لوائح سوداء يوم وقوع محاولة اغتيال الصحافي مكرم محمد أحمد ضبطت سلطات الامن في احد اوكار المتطرفين لائحة ب 20 اسماً لمفكرين ومثقفين وفنانين كان المتطرفون يخططون لاغتيالهم. من بين هؤلاء الكاتب عبد الستار الطويلة الذي يعتبر أنه مستهدف "لأسباب كثيرة، أهمها أنني من أشرس الذين كتبوا ضد الارهاب والتطرف في مصر. فأنا علماني أواجه المتطرفين من خلال أفكاري لا من خلال أرضيتهم كما يفعل البعض". ويضيف: "الامر بات مزعجا حقاً لأن هؤلاء الصبية المنحرفين باتوا يعرقلون المسيرة الديموقراطية، ويعطون المبررات الكافية لاستمرار قانون الطوارئ الذي يقيّد حرية حركة أحزاب المعارضة. وأنا أحزن كثيراً لما يفعله هؤلاء الشبان الحمقى، فلو اعتمدوا الحوار كانوا ليكسبوا أكثر. وعلى الرغم من القلق الذي تعيش فيه اسرتي، أنا مصرّ على موقفي حتى النهاية ولن أغير أفكاري خوفاً من الموت. فلست أقل شجاعة من فرج فودة". والكل يعرف قصّة الدكتور نصر حامد ابو زيد الاستاذ المساعد في كلية الاداب جامعة القاهرة، مع الارهاب . فبعد أن رفضت "اللجنة العلمية" ترقيته الى درجة الأستاذية في قسم اللغة العربية لكلية الآداب في آذار مارس 9931، تعرّض الباحث البارز لحملة تجريح شرسة في الصحف والمجلات وعلى منابر المساجد. وانهالت عليه مكالمات وخطابات التهديد، ومنها مثلاً: "أتريد بالكفر ان تصبح طه حسين آخر؟ أتسعى الى الشهرة والدولارات عبر ترويج عفوناتك؟ ... لا جدال ولا حوار معك، ولن تبقى حياً في وطن كفرت به وأردت هدم اسلامه. ومهما حافظ عليك البوليس فلن يحفظك". ثم ازداد الموقف سخونة في تموز يوليو عام 1993 عندما رفع محمد حميده عبد الصمد المحامي والمستشار السابق في مجلس الدولة دعوى تفريق بين أبو زيد وزوجته الدكتورة ابتهال يونس استاذة مادة الحضارة في القسم الفرنسي لكلية الآداب جامعة القاهرة باعتبارها مسلمة وهو مرتد. "أثناء تلك الفترة الطويلة - يقول أبو زيد - لم تعين وزارة الداخلية أي حراسة لي فكنت أتبع أسلوباً شخصياً، وكان من يسير معي من الاصدقاء والطلاب يدققون في الوجوه خلال الندوات وعندما يقرع بابي. وكان الجنود في مخفر الشرطة المجاور لبيتي يتولون حراسة الشقة من دون أن يطلب منهم أحد ذلك. بعد ان حكمت المحكمة برفض دعوى التفريق رأت وزارة الداخلية ضرورة تعيين حراسة على منزلي. الا ان وجود الحراسة او عدمها لن يغير في موقفي شيئاً، لأن جزءاً من بنية عقل المفكر هو الايمان المطلق بالحقيقة. والمغامرة في حياتي ليست ترفاً، فأنا أقوم بدراسة الخطاب الديني بهدف فهم ثقافتنا العربية والاسلامية، وأنا مستمر رغم التهديدات".