ثمة حيرة دائمة ترافق تجوالك في مدن القطاع وترسم علامات استفهام متواصلة حول مواقع الاطراف المتنازعة في تلك المنطقة، وهي على كل حال ليست حركة"حماس"وإسرائيل بمفردهما، انما هناك ايضاً حركة"فتح"والسلطة الوطنية في رام الله ومصر على الحدود الجنوبية. ولعل"فترة الذروة"في صعود هذه الحيرة وفي تقدمها على أي اعتبار آخر هي عندما تزور منطقة الأنفاق في رفح، هناك حيث تشكل مجتمع المهربين على طرفي الحدود المصرية - الفلسطينية على مرأى من حرس الحدود المصريين، ولكن ايضاً ليس بعيداً على الإطلاق من الأعين الإسرائيلية، وبرعاية مباشرة أو غير مباشرة من"حماس". فالجندي المصري الواقف على برج معدني يرتفع من فوق الجدار الذي يفصل بين قطاع غزة ومصر في رفح، يشرف عن مسافة لا تتعدى العشرين متراً على تلك الخيم التي تضلل"الأعين"الفلسطينية للأنفاق، اما"الأعين"المصرية التي من المفترض ان تكون اقرب الى ذلك الجندي فهي بحسب"أمناء الأنفاق"الفلسطينيين اقل إعلاناً عن نفسها، ومعظمها في داخل المنازل حيث يتطلب الموقع المصري في معادلة الأنفاق قدراً من الخفر. المسافة التي تنتشر عليها الأنفاق في رفح لا تتجاوز ثلاثة كيلومترات من اصل 13 كيلومتراً هي مسافة الحدود المصرية مع القطاع. العشرة كيلومترات المتبقية لا تصلح لحفر الأنفاق بسبب طبيعتها الرملية. أما الإسرائيليون بدورهم فلا تبعد مواقعهم عن هذه المنطقة إلا كيلومترات قليلة، علماً ان سماء المنطقة مفتوحة لطائرات الاستطلاع التي تنقل صوراً يومية عن وقائع تجرى في الأنفاق. ترتسم معادلة الأنفاق أثناء معاينتك الميدانية لها على النحو الآتي: الأنفاق ضرورة للقطاع في ظل الحصار الإسرائيلي المحكم، فكل متاجر القطاع ودكاكينه ومنازله لا تعرض سلعاً الا من تلك"المستوردة"عبر هذه الأنفاق. الأنفاق هي البديل المصري الوحيد لحقيقة إقفال المعابر التجارية في وجه سكان القطاع. القناعة الإسرائيلية مطلقة بأن ثمة سلاحاً يتم تهريبه عبر هذه الأنفاق. المراقبة الإسرائيلية لما يجرى في الأنفاق غير مستحيلة، بل اكثر من ممكنة سواء من البر ام من الجو، ناهيك باحتمالات مراقبة من الداخل في ظل إمكان وصول عمال وتجار ومهربين من كل حدب وصوب. قصف الأنفاق لا يخل بهذه المعادلة خصوصاً ان أصحابها باشروا بترميمها فور إعلان إسرائيل وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد، ولا يبدو للمراقب هنا ان القصف الذي تعرضت له هذه الأنفاق يهدف الى الإخلال بتلك المعادلة. فما يخل فعلاً بها ويُصدع بنودها الأربعة تلك هو فتح معبر واحد من المعابر السبعة التي من المفترض ان تشكل معابر قطاع غزة الى العالم. علماً ان الخيار اذا ما ترك للسكان الفلسطينيين، فهم يفضلون معبر كارني الإسرائيلي على معبر رفح المصري، وليس سبب ذلك موقفاً من مصر، انما لأسباب عملية اولاً ولرغبتهم في أنواع من السلع ومن العلاقة التي تتيح ايضاً اتصالاً بالضفة الغربية التي من المفترض ان تكون امتداداً للقطاع. اما من الجهة الإسرائيلية فيشكل فتح معبر كارني في شمال القطاع فرصة لمراقبة كل ما يدخل الى غزة، ناهيك بأن ذلك يشكل إغراءً للاقتصاد الإسرائيلي الذي سيجد في قطاع غزة سوقاً لتصريف منتجاته يتعدى حجمه ثلث حجم السوق الإسرائيلي. وبإمكان إسرائيل والحال هذه سحب الحجة المصرية المتمثلة في ان إقفال الأنفاق يعني مساهمة مصر في تجويع نحو مليون ونصف مليون فلسطيني، وهي حجة وجيهة وصحيحة على كل حال. ولا يشكك احد هنا في قدرة إسرائيل الميدانية على إقفال كل الانفاق المنتشرة على مسافة قصيرة من الحدود، في حال فتحت معبراً تجارياً واحداً في وجه سكان القطاع. اذاً ثمة"قطبة مخفية"تحول دون فتح المعابر وخصوصاً الإسرائيلية منها، اذا اعتبرنا ان ثمة مصلحة فلسطينية وإسرائيلية ومصرية في فتحها، وإذا كانت هذه المصلحة هي ما هو معلن من مواقف. فإعادة ترميم الأنفاق بعد قصفها في الحملة الإسرائيلية الإخيرة على القطاع تتم تحت انظار الجميع ولا يبدو ان ذلك شكل تحدياً للرغبة الإسرائيلية، ولا يبدو ان اسرائيل معنية في حماية"انجازها"تدمير تلك القنوات، ناهيك بأن عمليات الترميم تحصل تحت أنظار الجنود المصريين. وربما اختصر هذه اللوحة الكاريكاتورية فتى فلسطيني من العاملين في الأنفاق عندما وقف تحت تلك الخيمة البيضاء في رفح وقال ضاحكاً:"سنعيد بناءها فوراً"، بالإضافة الى حكايات يتداولها سكان القطاع عن إقدام ناشطين في الأنفاق بعمليات قصف للمعابر في فترات الهدوء في الأشهر الفائتة خوفاً من ان يشمل الهدوء فتحاً للمعابر. في رفح لا تبدو حكاية الأنفاق مسبورة على نحو ما تقدمها الروايات الإسرائيلية والمصرية والحمساوية. لم يزر أحد هذه المنطقة وخرج مقتنعاً بالروايات الثلاث. وحدها رواية المدنيين الفلسطينيين لها تبدو مقنعة، اذ انها بالنسبة لهؤلاء ليست سوى رواية عيشهم وتمكنهم من الحصول على مواد وسلع ما كان بإمكانهم ان يحصلوا عليها لولا هذه الأنفاق. في غزة كما في كل مناطق النزاع العربي - الإسرائيلي يبدو ان عليك ان تبحث خلف ما تدعيه الأطراف المتنازعة. فهنا التساؤل عن مدى رغبة أي حكومة في إسرائيل بأن ينعم القطاع بوضع يساعده على التواصل مع الضفة الغربية يبدو وجيهاً ويحتمل مضامين غير سجالية. وهل حسم الإسرائيليون أمرهم لجهة قبولهم بدولة فلسطينية في الضفة وغزة، أم ان ثمة تعديلاً يقتضي إجراؤه الإبقاء على وضع غير طبيعي في علاقتهم بقطاع غزة؟ وماذا لو ان الأنفاق تلبي هذا التطلب ولا تشكل خطراً فعلياً على إسرائيل، وهذا ما ثبت في الحرب الأخيرة على غزة؟ التساؤل نفسه يشمل موقع حركة حماس من هذه المعادلة، فحماس لم تبد يوماً حماسة تذكر لمشروع الدولة الفلسطينية بصيغتها الأوسلوية، وهي اذ انخرطت في البداية في مشروع هذه الدولة وفي مؤسساتها، أبقت على خطوط تراجع عدة، وغاب عن خطابها وأدائها ميلاً الى التسليم بنتائج أوسلو. ناهيك بأنها جزء من تحالف إقليمي خارج خطوط التسوية ويراهن على إنتاج شروط مختلفة لها. والأنفاق تلبي الكثير من تحفظات حماس على دولة أوسلو الفلسطينية، إذ انها تقطع العلاقة مع الإسرائيليين وتقيم صلات مع مصر أو مع شرائح واتجاهات فيها، فتدير ضاهر القطاع لإسرائيل وتوصله بمصر، ومصر هنا هي"الشعب"وليس النظام. لكن الموقع الأكثر التباساً في معادلة انفاق رفح هو الموقع المصري، اذ ان ما يجرى يدفع باحتمال سعي إسرائيل الى إلحاق القطاع بمصر الى الواجهة، وهو امر لن تقبل به مصر، فهو يرتب عليها من جهة أعباء استقبال مليون ونصف مليون لاجئ جديد، ومن جهة أخرى يتيح لحماس الاتصال بعمقها"الإخواني"في القاهرة، وما ينجم عن تأثيرها فيهم. ناهيك بأن ذلك ربط القطاع بمصر يمثل قتلاً فعلياً لعملية سلام باشرتها مصر قبل غيرها، وانخرطت بمساراتها كلها بدءاً بمدريد ووصولاً الى أوسلو. مقاومة هذه الاحتمالات تبدو في قطاع غزة ملقاة على عاتق السكان هنا دون غيرهم من قوى سياسية حاكمة وغير حاكمة، ومن دول تدعي تمسكها بخيار أوسلو، إذ ان مصلحة هؤلاء السكان وحدهم تتمثل في إنتاج ظروف طبيعية تمكنهم من التواصل مع عمقهم في الضفة الغربية، من خلال علاقات لا تشوبها على الأقل مستويات من التوتر مع الإسرائيليين. هذه حقيقة يدركها معظم سكان القطاع ويمكنك سماعها يومياً عشرات المرات هنا، بدءاً بالتاجر الواقف أمام باب النفق منتظراً وصول بضاعته التي كان يفضل لو انها تصل من معبر كارني ومروراً بالسائق الذي كان يعمل في مناطق ال48 قبل اوسلو وبعدها بقليل وكان معدل دخله حينها خمسة أضعاف معدله اليوم، ووصولاً الى الصحافي الذي يقول انه حان الوقت ليعيش أبناؤه حياة تمكنهم من مجاراة أقرانهم في دول أخرى مجاورة. لكن الفلسطينيين هنا في غزة مقنعين تماماً بأن إسرائيل قبل غيرها هي الطرف الذي يعيق تطلعهم الى وجود عادي وحياة طبيعية. زائر القطاع سيلمس ان الفلسطينيين هم الخيار الأسهل للسلام في حال كان السلام العربي - الإسرائيلي رغبة إسرائيلية، على رغم ان الفلسطينيين كانوا اكثر عرضة لفداحة الاحتلال. فالمواطن في أي دولة عربية أخرى تمثل إسرائيل له فكرة عن العداء وليس العداء نفسه، وان يبقى العداء فكرة، هو أمر متاح وممكن اكثر من كونه نمط حياة فعلية، ومرارة عيش يومي. هذا ما يفسر اختلاط معاني الصراع هنا في غزة وافتراقه عن معانيه في بقية الدول العربية. ذروة المرارة من شراسة الآلة الحربية الإسرائيلية مترافقة مع قناعة بأن المصلحة تقتضي قدراً من العلاقة مع هؤلاء"الأعداء". حماس نفسها تستبطن قدراً من هذه القناعة في صراعها مع إسرائيل، فما بالك بالمواطن الفلسطيني العادي. فالتاجر الفلسطيني الملتحي والذي قال انه انتخب لائحة"التغيير والإصلاح"الحمساوية في الانتخابات النيابية الأخيرة التي فازت حماس بها، أجاب عند سؤاله لمن سيقترع في الانتخابات المقبلة بأنه سينتخب من يفتح له معبر كارني معبر البضائع من الجهة الإسرائيلية، وهذه الإجابة لا تعني هنا في غزة تخلياً عن الخيارات الحمساوية لهذا الرجل، وطبعاً هي لا تؤشر في الوعي العام الى"تواطؤه مع الاحتلال"انما هي إجابة عادية وخالية من أي جرأة أو شجاعة، وهو مقتنع كما قال بأن في إمكان حماس فتح المعبر إذا ما رغب الإسرائيليون في ذلك. وفقاً لهذه الحقائق يمكن تحديد القواعد الاجتماعية للقوى الفلسطينية في قطاع غزة، وربما مثلت حركة فتح، على رغم إقصائها في الانتخابات النيابية اولاً وفي حملة حماس العسكرية عليها ثانياً، نقطة افتراق المشاعر عن المصالح وعقدة التقائهما. فبقدر الابتعاد عن البيئة الاجتماعية والنفسية لقاعدة التفكير هذه يصعد نفوذ حماس، وبقدر الاقتراب منه يتعزز موقع فتح، من دون ان يعني ان ذلك قاعدة ثابتة. في أوساط التجار في مدينة غزة يرتفع النفوذ الفتحاوي الى حد ملموس، أما في رفح، وهي المدينة الوحيدة في القطاع التي فاز فيها مرشحو فتح في الانتخابات النيابية السابقة، فيبدو ان حماس تعزز نفوذها في اوساط مجتمع الأنفاق ومنه تتغلغل الى شرايين مستفيدين آخرين من هذه الظاهرة. في شمال القطاع، أي بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا حيث منطقة التماس الأعنف مع الإسرائيليين يبلغ النفوذ الحمساوي ذروته. وتقطع هذه الولاءآت انماطاً أخرى من الاصطفافات العائلية، كعائلتي دغمش وحلس، ويبدو القول بانتماء هذه العائلات الى أحد طرفي معادلة الإنقسام الفلسطيني فتح وحماس لا قيمة له في ظل تمكن هذه العائلات من مد جسور مع كلا الطرفين بحسب ما تقتضي الحاجة، أو بتوزيع أبنائها على أطراف تتيح إقامة توازن يحفظ استقلالية مصالح العائلة ويؤمن مصالحها. ثم ان هذه العائلات قوية الى حد يدفع القوى الى التعامل معها كوحدات سياسية مستقلة، فعائلة دغمش مثلاً التي يقيم معظم أفرادها في حي الصبرا في غزة شاركت كفصيل مستقل في عملية اسر الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليط الى جانب حماس وكتائب الناصر صلاح الدين، وجاءت مشاركتها عبر ما سمي بجيش الإسلام الذي اعلن لاحقاً خطف مراسل"بي بي سي"آلن جونستون الذي تولت حماس الإفراج عنه بعد اقصائها فتح، وآل حلس القريبون من حركة فتح والذين اتهمت حماس عناصر منهم بتفجير الشاطئ الذي أودى بحياة خمسة من نشطائها فهاجمت إحياءهم في منطقة الشجاعية في وسط غزة. ويبدو الانقسام الحاد في القطاع معيقاً التئاماً ضرورياً لا يمكن للفلسطينيين تجاوز محنة دمار دولتهم من دون إنهائه. فبقدر ما تشكل فتح حقيقة في القطاع لن تتمكن حماس من إلغائها على رغم سعيها الحثيث الى ذلك، تشكل حماس أيضاً قناعة غزاوية وان تفاوتت القناعتان. وبينما فشلت فتح في إدارتها القطاع على نحو لا ينكره مناصروها أنفسهم يبدو ان حماس في طريقها الى تحقيق فشل مشابه. فشل أمني في مقابل فشل اقتصادي، وإنجاز أمني في مقابل إنجاز اقتصادي، ناهيك بمتوازيات أخرى يتحدث عنها مناصرو الطرفين. فما دمرته إسرائيل في حربها الأخيرة هو مؤسسات الدولة الفلسطينية التي أنشأتها السلطة الوطنية ولم تضف حماس عليها مؤسسة واحدة، وإعادة بناء هذه المؤسسات لن يتم إلا إذا تم إشراك فتح بعملية البناء. أما الإمساك بالوضع الأمني وهو ما عجزت فتح عن القيام به، فما زالت حماس تتمتع بثقة الغزاويين لجهة تمكنها منه على رغم الكلام عن تجاوزات يقوم بها عناصرها وأجهزتها بحق الناشطين الفتحاويين. ومثلما هو فشل فتح بنيوي وغير قائم على سوء إدارة مباشر، يبدو ان فشل حماس مشابه أيضاً، إذ أننا نتحدث عن أطراف خارج المعادلة الداخلية الفلسطينية عجزت حماس عن أحداث اختراق في جدران اعتراضها على دورها. لا يمكن لحكومة فلسطينية ان تدير قطاع غزة من دون حد ادنى من العلاقة مع كل من إسرائيل ومصر، وهذه مهمة لا يبدو ان حماس مؤهلة للقيام بها، ناهيك بأنها لا تريدها لنفسها أصلاً خصوصاً في الحالة الإسرائيلية. المدقق في العلاقات الفلسطينية الفلسطينية في غزة يشعر باستحالة التسوية بين فتح وحماس، فمسؤولو الفصيلين في غزة لا يخفون حجم الانقسام في احلك الظروف، وما يحكى مثلاً عن مستويات مختلفة من العلاقة بين الأجنحة العسكرية، أو ما يسمى هنا"الأجنحة المقاومة"لا يبدو انه صحيح أو يبدو على الأقل مبالغاً فيه، ناهيك بالمستويات الأخرى من العلاقة. فرام الله ما زالت تملك قدرة على التحرك في القطاع تسعى حماس للحد منها، وفي المقابل تحاول الأخيرة التعامل مع الحقيقة الفتحاوية في القطاع وفق معادلة"رد الصفعات"التي تتعرض لها في الضفة. وثمة قضايا عالقة بين رام اللهوغزة يتحمل سكان القطاع تبعاتها من دون ان تشكل ضائقتهم هماً حمساوياً او فتحاوياً. هكذا مثلاً فصلت حماس ثلاثة آلاف مدرس من اصل تسعة آلاف هو عدد مدرسي القطاع من وزارة التعليم كانوا بدأوا إضراباً مطلبياً تقول حماس انه تم بتحريك من رام الله، وفي وزارة الصحة ثمة مشكلة مشابهة في أوساط الأطباء والممرضين، وأضيفت أخيراً الى هذه القضايا العالقة قضية إعادة إعمار القطاع بعد الحرب الأخيرة والتي ستكون مادة انقسام جديد. ففتح اعتبرت منذ البداية ان حماس احتكرت عمليات الإغاثة وتسعى لاحتكار الإعمار، وما دعوتها الفصائل للمشاركة في أعمال لجنة برئاسة وزير منها سوى لكسب"شرعية احتكار الإعمار"ولن تكون فتح بحسب ما قال أمين سرها في القطاع لپ"الحياة"، غطاء لهذا المسعى. المفارقات كثيرة في قطاع غزة في أعقاب الحرب الإسرائيلية عليه، الحديث مثلاً عن جرحى هذه الحرب بدأ يأخذ منحى مختلفاً، فمعظم الإصابات بليغة وفقدان الأطراف شمل اكثر من 1500 من اصل عدد الجرحى الذي فاق الخمسة آلاف، وبحسب امرأة غزاوية، فإن"من مات دفناه وسننهي بعد قليل من الوقت فترة حزننا عليه، لكن من فقد أحد أطرافه أو تسببت إصابته بإعاقة دائمة له، فسنعيش مع إعاقته مدى الحياة، وهؤلاء عددهم ليس قليلاً". لا يبدو ان ما ينتظر السكان هنا في القطاع على مستوى ما أصابهم. أيتام "فتح" ... "لبنانيوغزة" للبنان مع غزة حكاية، او حكايات. صحيح ان لا حدود تربط بينهما، وربما شعر اللبناني بقرب جغرافي واجتماعي مع فلسطينيي الضفة الغربية اكثر من شعوره بذلك حيال الغزاويين، لكنك في شوارع غزة ستلمس ان ثمة ما هو مشترك وقائم. انهم الفلسطينيون الذين قدموا مع ابو عمار بعد توقيع اتفاق اوسلو، مئات وربما آلاف ممن وصلوا الى غزة وانخرطوا في نسيجها الاجتماعي. منهم من التحق بالنخب الحاكمة ومنهم من تقاعد وآخرون انضموا الى اقارب في مخيمات القطاع او في مدنه وقصباته، وهؤلاء يسميهم اهل غزة"اللبنانيين". لكن يبدو ان"الحركة التصحيحية"التي اقدمت عليها حماس في عام 2007 والتي استولت خلالها على السلطة في قطاع غزة افضت الى مغادرة جزء كبير من هؤلاء اما الى الضفة الغربية او الى مصر مخلفين وراءهم نساء وأطفالاً ومنازل، فاضيفوا الى نساء كن وصلن الى المدينة بوصفهن ارامل منظمة التحرير او بوصفهن"بنات ابو عمار"، وألَّف هؤلاء مع بقية مناصري حركة فتح في غزة وقطاعها مجتمع المقصيين. ان يعرف احد في الشارع انك لبناني، فذلك ليس عادياً بالنسبة للغزاوي. انت لبناني اذاً انت آت من مكان بعيد جداً، على رغم ان المسافة بين القطاع ولبنان لا تتجاوز الثلاثمئة كيلومتر، ومرة اخرى المسافات هنا لا تقاس بالأمتار انما بالوقائع والمآسي. لكن ان يعرف احد في غزة انك لبناني فذلك يعني مزيداً من الاحتفاء بك ومحاولة لوصلك بجاره"اللبناني"وانك انت اليوم ضيفه بعد ان حل عليك"ضيفاً"لأكثر من خمسة عقود. العائدون الى غزة من لبنان يشعرونك اليوم بأنهم ايتام منظمة التحرير الفلسطينية التي عادت وغادرت المدينة بعد استيلاء حماس عليها. نساء غاضبات ورجال أخلوا المناصب الأمنية التي كانوا يشغلونها، وهم اليوم يشعرون في ظل سلطة حماس ان رحلتهم الى غزة ليست اكثر من مسلسل رحلات لا امل لهم بإنهائه بإقامة دائمة. نشر في العدد: 16740 ت.م: 02-02-2009 ص: 19 ط: الرياض