تجدد الحديث في كواليس السياسة الجزائرية عن دور مهم قد يسند الى السيد عبدالعزيز بوتفليقة خلال المرحلة الانتقالية التي ستتبع الندوة الوطنية المقرر عقدها يومي 25 و26 كانون الثاني يناير الجاري. ويتراوح هذا الدور ما بين رئاسة الحكومة ورئاسة الدولة، مروراً بعضوية هذه الهيئة الاخيرة التي من المتوقع ان تتكون من رئيس ونائبين للرئيس. اسم بوتفليقة سبق ان تردّد في خريف 1992 عقب تدشين المرحلة الاستطلاعية من الحوار الوطني، وبداية الحديث عن اجماع مرحلي يمهد سبيل العودة الى المسار الانتخابي والاجماع الذي يخرج من صناديق الاقتراع. في سياق البحث عن اجماع مرحلي، ورد ذكر بوتفليقة بعد الدكتور احمد طالب الابراهيمي مباشرة، حسب اهمية الاجماع المرغوب. فاذا كانت نية السلطة الحالية تتجه نحو اجماع يرضي الجبهة الاسلامية للانقاذ فالدكتور طالب الابراهيمي هو الشخصية المناسبة، اما اذا كانت النية تتجه الى استبعاد الجبهة الاسلامية فشخصية مثل بوتفليقة ستكون الأنسب. وتصاعد حظوظ بوتفليقة اخيراً يشير باتجاه "اجماع مرحلي" قائم اساساً على "الوطنيين والتقدميين" كما جاء في حديث وزير الدفاع الامين زروالي للصحافة المحلية في تشرين الأول اكتوبر الماضي. "مجموعة وجدة" وعبدالعزيز بوتفليقة شخصية سياسية مرموقة، ادارت دفة الديبلوماسية الجزائرية منذ الاستقلال تقريباً * والى حين وفاة الرئيس هواري بومدين في اواخر 1978. وهو ينتمي الى "مجموعة وجدة" التي استطاعت ان تبني اهم حلقات الهرم السلطوي في الدولة الجزائرية المستقلة. وتضم من الشخصيات البارزة: بومدين، بالقاسم الشريف، احمد المدغري، احمد قايد، عبدالغني، الطيبي العربي... الخ. هذه المجموعة هي التي جاءت ببن بيلا الى رئاسة الجمهورية وهي التي انقلبت عليه بعد ذلك، وأطاحت به في 19 حزيران يونيو 1965. معركة "الرجل الثاني" ويؤكد بعض المصادر ان بوتفليقة كان بمثابة القطرة التي افاضت كأس غضب بومدين ورفاقه. وتفسير ذلك ان الرئيس بن بيلا وأنصاره تنبهوا الى اهمية المواقع التي بين أيدي "مجموعة وجدة" مثل الدفاع والداخلية والخارجية والتربية والاعلام والامن... الخ. فأخذوا يعملون على الاطاحة بهذه المواقع الواحد تلو الآخر، انتظاراً للوصول الى بومدين الرابض في وزارة الدفاع! الضحية الأولى في هذا المسلسل كان احمد قايد وزير السياحة، تلاه احمد المدغري وزير الداخلية، وجاء دور بوتفليقة بعدهما. عندئذٍ أحس بومدين بأن حليفه السابق بن بيلا يريد رأسه! فسارع الى تنفيذ انقلابه الشهير الذي اطال في عمر بوتفليقة على رأس الديبلوماسية الجزائرية 13 سنة اخرى. فترة حكم الرئيس بومدين عرفت معارك خفية شرسة داخل صفوف "مجموعة وجدة"، من اهمها "معركة الرجل الثاني". وكان موضوعها وسببها تطاحن "البارونات" على احتلال موقع الرجل الثاني في هرم السلطة الذي كان على رأسه بومدين، وكل ذلك طمعاً بأوراق الخلافة. في اواخر الستينات انبرى احمد قايد "مسؤول الحزب" والنائب السابق لبومدين في الهيئة العامة لأركان "جيش التحرير الوطني"، لاحتلال هذا الموقع، وكان هذا الطموح المعلن سبباً في تألب بقية "البارونات" عليه والمشاركة في تحييده بعد مواقفه المتحفظة على سياسة "الثورة الزراعية" بدءاً من 1972. وتلى تحييد احمد قايد تنافس حاد بين وزير الدولة المكلف بالتخطيط بالقاسم الشريف ووزير الداخلية احمد المدغري. وقد انتهت المنافسة بپ"استقالة" الأول و"انتحار" الثاني في تشرين الثاني من العام 1974. هذه الاحداث الخفية كانت بمثابة بداية نهاية "مجموعة وجدة"، وقد تركت بصماتها على وضع وزير الخارجية بوتفليقة... رغم أنه إنشغل في تلك الفترة عن "هموم الداخل" برئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة. ابتداء من صيف 1975 أخذ بوتفليقة يتبوأ تدريجاً منصب الرجل الثاني الفعلي. وغداة المصادقة على دستور 19 تشرين الثاني نوفمبر 1976، راجت اشاعات قوية ترشح وزير الخارجية لمنصب نائب رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة على أساس ان الدستور الجديد يسمح بذلك. ورغم ان بومدين لم يحسم هذه المسألة قبل مرضه ووفاته، فقد أصبح بوتفليقة يتصرف فعلاً، وكأنّه النائب الأول الوحيد الأمر الذي مكنه من تعزيز مواقعه ونفوذه في الجهاز الاداري. حالة بومدين وجاء مرض بومدين المفاجئ والقاتل في خريف 1978، فأتاح لبوتفليقة فرصة تمثيل الجزائر في قمة بغداد العربية التي انعقدت في مستهل تشرين الثاني من السنة نفسها. ومن بغداد طار بوتفليقة الى موسكو لعيادة الرئيس بومدين المريض، وابلاغه بنتائج القمة العربية. في العاصمة السوفياتية استطاع بوتفليقة الاطلاع على سر مهم وهو أن مرض بومدين خطير جداً، وربما لا أمل من علاجه، وبناء على ذلك حاول ان يسبق بأشواط منافسيه المحتملين على خلافة الرئيس المريض. الورقة... الفرنسية في هذا السياق تندرج برقية غريبة، أرسلت باسم بومدين الى الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، اثناء عبور لا يقل غرابة للطائرة الرئاسية بالاجواء الفرنسية وهي في طريق العودة من موسكو يوم 14 تشرين الثاني. بعض المراقبين رأوا آنذاك في هذه البرقية اشارة ضمنية بطلب الدعم الفرنسي في السباق المفتوح من اجل خلافة بومدين الذي لا أمل بشفائه! ولم يتريث خصوم بوتفليقة في استغلال هذه "المبادرة"، اذ سارعوا بسببها الى تنصيبه على رأس "حزب فرنسا" في الجزائر! وليس مستبعداً ان تكون هذه "المبادرة" كذلك، سببا في فقدان مساندة شخصية محورية مثل السيد بلعيد عبدالسلام وزير الصناعة الخفيفة يومئذ والذي كان لا يزال يحتفظ ببعض النفوذ على الجهاز الاداري والاقتصادي بحكم المدة الطويلة التي قضاها وزيراً للصناعة والطاقة. بوتفليقة وبلعيد عبدالسلام وقد سعت بعض الاطراف للتقارب بين الرجلين، أملاً في حسم مسألة الخلافة لصالح بوتفليقة، لكن بدون جدوى. وحسب شهود عيان ان الحساسية بين الرجلين بلغت حد انفجار وزير الخارجية قائلاً: "كيف تريدونني أن أتفاهم مع رجل يشكك حتى في جزائريتي!" رواسب من هذه الحساسية، التي ساهمت ربّما في تفويت الفرصة على وزير خارجية بومدين، نلمسها في كتاب "أحاديث مع بلعيد عبدالسلام" 1 الذي قال "أن بوتفليقة أكثر من التردد على جيسكار ديستان في صيف 1978، حتى ان الرئيس الراحل قال له: لم أعد أدري ان كنت وزير بومدين لدى جيسكار، أم أنك أصبحت وزير جيسكار لدى بومدين"! المنافس الظاهر لبوتفليقة على خلافة بومدين يومئذ، كان السيّد محمد الصالح يحياوي العقيد الذي جيء به من تخوم الصحراء الغربية الى قصر زيغود يوسف، منسقاً لجبهة التحرير الوطني ومكلفاً بتحضير "مؤتمر التطهير والفصل" بخط احمر بين الثورة والثروة"! لم يكن للمنافس تأثير يذكر على جهاز الدولة، لكنه استطاع ان يكسب تأييد قاعدة جبهة التحرير والمنظمات التابعة لها مثل اتحاد العمال واتحاد الفلاحين ومنظمة المجاهدين وإتحاد الشبيبة. وبفضل هذا التأييد كان يحياوي يشكل منافساً جدياً على الصعيد الشعبي خاصة. التنافس بين الرجلين، استمر على هذا الصعيد، وتجلى بوضوح على أعتاب الضريح المعد لاحتضان جثمان الرئيس بومدين. وكان موضوع التنافس: من يؤبّن الفقيد؟ أعدّ يحياوي كلمة رشح لالقائها مولود قاسم وزير الشؤون الدينية، وأعدّ بوتفليقة من جهته كلمة تهيأ لالقائها بنفسه… وفي الوقت المحدد بعد ظهر 29 كانون الاول ديسمبر 1978 سبق بوتفليقة مولود قاسم الى المنصة المقامة مقابل الضريح، فأبَّن صديقه الراحل تأبيناً مؤثراً. فقد بكى بوتفليقة وأبكى! ولو كان في الجزائر انذاك مراكز لسبر الآراء، لسجلت بعد هذا التأبين الموفق ارتفاعاً لا مثيل له في شعبية الرجل الذي أصبح المرشح الأوّل لخلافة بومدين دون منازع. لكن مجلس الثورة المؤلف من 8 أعضاء 2، كان يخبئ مفاجأة غير سارة لبوتفليقة ومنافسه يحياوي. فبعد سلسلة من المناورات طلع مجلس الثورة بورقة الشاذلي بن جديد بصفته "المرشح الذي لا يغضب أحداً"! وحسب آخر المعلومات فإن اخراج ورقة بن جديد كان لحاجة في نفس يعقوب! فالسيد قاصدي مرباح الذي اغتيل في 21 آب اغسطس الماضي في ظروف غامضة، كان يبيّت الاستيلاء على الحكم بعد 6 أشهر، انطلاقاً من مواقعه كرجل قوي على رأس مصالح الأمن العسكرية والمدنية! ومع مرور الزمن يكتشف المراقب ان هذه المناورات الخطيرة أضاعت على الجزائر فرصاً ثمينة لبناء نفسها، واحتلال المكان المناسب على الصعيدين المغاربي والعربي. فقد كان بوتفليقة مرشحاً مثالياً لخلافة بومدين، لأنه كان يحمل مشروعاً قوامه الانفتاح في ظل الاستمرارية. ولو أتيح لهذا المشروع ان ينفذ ابتداء من مطلع الثمانينات، لما انتهت أوضاع البلاد الى المأزق السياسي والاقتصادي الخطير الذي تعيشه الآن. نكبة "البارونات" لكن بوتفليقة لم يخسر ورقة الترشيح للخلافة فحسب، بل كان عليه كذلك ان يدفع ثمن طموحه! لقد نكب ضمن حملة تطهير شاملة، استهدفت "بارونات" مرحلة بومدين وبلا استثناء ووجد البارونات انفسهم متهمين "بالاختلاس والتبذير وسوء التسيير"، ومعرضين لاهانات لجنة الانضباط الحزبية بصفتهم أعضاء قياديين في "الحزب الحاكم" قبل إحالة ملفاتهم على مجلس المحاسبة! ذهب ضحية هذه التصفية السياسية خمسة من أعضاء مجلس الثورة الثمانية هم: بوتفليقة، يحياوي، أحمد بن شريف، أحمد دراية، العربي الطيبي، بالاضافة الى بلعيد عبدالسلام وصديقه أحمد غزالي! نكبة بوتفليقة استغرقت عشر سنوات تقريباً، كانت عبارة عن كابوس مثقل بالمضايقات والمزعجات والمظالم، بلغت حد السطو على سكنه الشخصي! هذا الكابوس بدأ يتراجع منذ احداث تشرين الاول اكتوبر 1988 التي سمحت ابو تفليقة بالظهور من جديد على مسرح الأحداث… فقد ظهر إسمه ضمن قائمة 18 شخصية سياسية من العهد البومديني، خرجت عن صمتها لتدين عملية إطلاق الرصاص على المتظاهرين التي أودت حسب التقديرات الرسمية بأكثر من 150 شخصاً. هذه العودة الخجولة الى النشاط السياسي، تأكدت في اطار ندوة كوادر ثورة التحرير خلال صيف 1989، وهي الندوة التي فتحت أمامه باب العودة الى قيادة جبهة التحرير الوطني بمناسبة المؤتمر الاستثنائي المنعقد في تشرين الثاني من السنة نفسها. كان بوتفليقة من أبرز خطباء هذا المؤتمر، الى جانب كل من طالب الابراهيمي ويحياوي وعبدالسلام... وأشار الى الاهانات التي تعرض لها وإلى "الوأد السياسي" الذي استهدفه واعتبر هذا النوع من التصفية "أشد من القتل"! سكوت... من ذهب ويسجل المراقبون ان بوتفليقة ظل منذ خطابه أمام المؤتمر الاستثنائي يلتزم الصمت.. ويتردد في هذا الصدد أن صحافياً قال لبوتفليقة ذات يوم "لست صحافياً إذا لم أجبرك على الكلام"! فرد عليه: "وأنا لست سياسياً إذا تكلمت"! هذا الصمت الطويل يفسر في السياق الجزائري "بتحفظ الطامحين". أي تحفظ أولئك الذين يعتقدون في قرارة أنفسهم أن دورهم لم ينته، وهكذا يتجنبون الإدلاء بتصريحات قد تسيء إليهم، وتهدر حظوظهم في العودة الى سدة الحكم! لكن بوتفليقة لا يتحرج من المناقشة والحوار في الأطر النظامية وحتى في الحفلات والاستقبالات. غداة إغتيال الرئيس بوضياف وتشكيل حكومة بلعيد عبدالسلام، كانت تعليقات بوتفليقة تتمحور حول النقاط الثلاث التالية: 1- "دعم وحدة السلطة ومحاربة الشعور بتعدد مراكزها سواء أكان حقيقياً أو وهمياً". 2- "وضع مخطط إنقاذ وطني" انطلاقاً من برنامج حكومة عبدالسلام. 3- تشكيل "حكومة سياسية"، وكان بوتفليقة يرى ان حكومة عبدالسلام يغلب عليها الطابع التكنوقراطي الذي يتنافى مع طبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد. في خريف 1992 رفض بوتفليقة منصبين عرضا عليه: 1- ممثل الجزائر لدى الأممالمتحدة. وقد برر رفضه لهذا المنصب بحجة ان الديبلوماسية الجزائرية الجديدة لم تتبلور بعد بالقدر الذي يسمح له بأداء مهمته على الوجه المطلوب. 2- وزير مستشار لدى المجلس الأعلى للدولة... وقد رفض هذا المنصب لأن جهات عسكرية طلبت إليه ان يلتزم الحياد، لأنه قد يستدعى لمسؤوليات أهم! فهل آن أوان الوفاء بهذا الوعد؟! الاشاعات الجارية في الكواليس ترشح بوتفليقة لمناصب رفيعة خلال المرحلة الانتقالية كما سبقت الإشارة. لكن أغلب المراقبين يعتقدون بناء على تطورات الأوضاع السياسية والامنية ان أسهم بوتفليقة، بل أسهم كل شخصية يرشحها النظام القائم كانت أحسن السنة الماضية! وهناك مؤشرات أساسية لا مفر من أخذها في الاعتبار في هذا الصدد أهمها: التنسيق المتزايد بين قوات المعارضة الأساسية المتمثلة في الجبهات الثلاث الانقاذ، التحرير، القوى الاشتراكية وفي ثلاثة أحزاب أخرى قريبة منها هي: حماس، النهضة، حركة الرئيس بن بيلا. فشل السلطة الفعلية القائمة في توسيع قاعدتها الاجتماعية والسياسية، هذه القاعدة التي ما تزال منحصرة في التحالف العلماني الشيوعي المبني أساساً على "تجمع" سعيد سعدي البربري و"تحدي" الهاشمي الشريف الشيوعي. فهذا التحالف يظل هو المستفيد الأول من الوضعية الحالية. اتساع نطاق النفوذ السياسي والأمني للحركة الاسلامية المسلحة، هذا الاتساع الذي ما انفك يهدد السلطة الحالية، وربما السلطة المعنوية لقادة الجبهة الاسلامية أنفسهم! مثل هذه المؤشرات تؤكد مقولة صدرت عن وزير سابق: بوتفليقة قد يكون الرجل المناسب في المكان المناسب لكن في وقت غير مناسب! * كان أول وزير خارجية بالجزائر المستقلة هو محمد خميستي الذي اغتيل في نيسان 1963. 1- الكتاب من تأليف الدكتور علي الكنز والدكتور محفوظ بالنون. صدر سنة 1990. 2- في البداية كان مجلس الثورة يضم 26 عضواً. الثمانية الباقون هم: بوتفليقة، يحياوي، عبدالغني، العربي الطيبي، احمد دراية، احمد بن شريف، عبدالله بالهوشات، الشاذلي بن جديد.