تنمّ البنايات المتلاصقة القائمة في شارع دي لاغرانج في المنطقة التاسعة من باريس عن تاريخ بنائها القديم. وبين البنايات التي تحمل مسحة القدم يقع مشغل فرانسوا لوساج للتطريز الذي انطلق مع والديه في بداية القرن الحالي. لكن تأسيسه يعود الى القرن التاسع عشر، وبالتحديد الى سنة 1868 مع ميشونة في عهد الامبراطورية الثانية، الذي ربط قدره بوورث، الاول في سلالة الخياطين الكبار الذين يعرفون اليوم بأصحاب الازياء الراقية. يومذاك، كان التطريز ترك مجال "الطقم" ليذهب صوب "الموضة". ومنذ ذلك الحين لم يعد التطريز يستطيع ان يتخلى عن الموضة كما ان الموضة الراقية بصورة خاصة لم تعد تتألق إلا بالتطريز. وفي تشرين الاول اكتوبر حقق فرانسوا لوساج "عبقري التطريز" نقلة نوعية في هذا المجال فأسس "مدرسة التطريز الاولى في العالم" وفتح ابوابها لكل الاعمار ولكل الجنسيات ممن يعكفون على الحرير بصبر وأناة ويخزونه بابرهم فتتفتح دماؤه ازهاراً سرقت الوانها من ألوان قوس الغمام. ومن اهداف هذه المدرسة نقل المعرفة الفنية التي تمتد جذورها الى عمق التاريخ، تاريخ الشرق بصورة خاصة، وبلاد ما بين النهرين على التحديد والمحافظة على خمسة وستين الف قطعة تطريز تحمل ارقاماً على غرار القطع في المتاحف وتشكل "وثائق التطريز" الاولى في العالم. لا يتكلم فرانسوا لوساج على تاريخ التطريز وهو يشير الى الكتاب "الالبوم" الضخم حجماً وجودة طباعة وأناقة تصوير ففي الكتاب عن "مهنته العائلية" ما يغني عن أي سؤال يتعلق بوثائقية التطريز الذي يعتبر رائده اليوم. لكنه يتكلم على ذكريات تتعلق بالبلاد العربية وبلبنان بصورة خاصة، حيث للتطريز شأن لا يستهان به. ومن مكتبه "الصغير" البسيط، الذي يقع في الطابق الرابع من مشغله المطل على فسحة البناية القديمة، يصدّر فرانسوا لوساج افكاره في التطريز الى المصممين الكبار. إرث عائلي رأى فرانسوا والده ألبرت لوساج يطرز مع أمه "يو" التي كانت تعمل عارضة ازياء عند الخياطة "مادلين"، ثوب عرس فريدة الزوجة الاولى للملك فاروق. وفي المغرب كانت السيدة جوست تخيط اثواب جميع نساء البلاط الملكي، مستعينة بدار لوساج لتطريزها. وهو يعتز بالثوب الذي طرزه العام الماضي لابنة امير قطر كي ترتديه يوم زفافها. وهو ثوب تولى فالنتينو خياطته وأمضى لوساج اشهراً عدة في تطريزه تساعده في ذلك اثنتا عشرة مطرزة بارعة. قماش الثوب من الحرير والساتان والدانتيل. وقد تداخلت اللآلئ الطبيعية والاصطناعية في تطريزه، الى جانب الخيوط الذهبية والخيوط الفضية. وبلغ طول ذيله كما محيط دائرته عدة امتار وتراوح لون الثوب الذي جاء آية من الفن والابداع بين الابيض والعاجي. كل نموذج تطريز لثوب يوقعه لوساج، هو فريد من نوعه، ويكلف احياناً ملايين الفرنكات الفرنسية. ومن الاثواب التي طرزها سنة 1959 ثوب خطوبة غراس كيلي التي اصبحت فيما بعد اميرة موناكو والثوب من الدانتيل والورد الاحمر وقد صممه بالانسياغا... ورث فرانسوا لوساج ثروة والديه التطريزية. وأقام لها ما يشبه المتحف المتجول في انحاء العالم. ولديه الآن خمسة وستون ألف قطعة تطريز محفوظة في علبها حسب السنين والتصاميم واسماء المصممين. وهو يستخدم احدث الاساليب لحمايتها من النور والرطوبة. وقد تجولت هذه القطع في طوكيو ولوس انجليس وكبريات العواصم العالمية. وتكمن قوة لوساج في هذه الثروة الفنية التطريزية التي توفر لدور الازياء الراقية الكبيرة المنتشرة في باريسوايطاليا وأماكن اخرى، فرصة التواصل مع التراث في هذا المجال. بعد تجاربه الطويلة في التطريز اراد لوساج ان يحمي فنه الفريد. فالفن يختفي برحيل صاحبه اذا لم يعمم. ولذا فكر بانشاء مدرسة للتطريز تكون الاولى من نوعها في العالم. وبعد مخاض عسير، فتحت المدرسة ابوابها. وقبل ذلك كان لوساج يقوم بتعليم مساعداته في العمل، مهنة التطريز الدقيقة. اما اليوم فقد تحولت المطرزات الماهرات استاذات في مدرسته التي تضم نسبة 90 في المئة من النساء و10 في المئة من الرجال. تحتل مدرسة لوساج الطابق الثالث من مشغله. وهي قاعة فسيحة تتوزع فيها طاولات كبيرة وصغيرة للعمل الفردي او الجماعي. الهدوء يسيطر على القاعة. وبين التلميذات سيدة في الثمانين وأخرى شابة قادمة من اليابان. تقول التلميذة العجوز انها تتعلم التطريز لتشغل وقتها وهي منذ زمن طويل تتمنى ان ترتدي ثوبا قامت بتطريزه وطالما ان عينيها وأناملها قادرة على الاستجابة فلماذا لا تشبع جوعها الفني الى التطريز ولو على أبواب الثمانين؟ وهي لا تأبه لكلفة الاقساط التي تبدأ بخمسة آلاف فرنك وتصل الى مئة الف فرنك تبعاً للمدة ونوع الفن الذي تختاره. اما اليابانية الشابة فهي تريد ان تفتح داراً للتطريز في اليابان. علماً ان مهنة التطريز في الهندوالصين هي مهنة رجال، بينما هي في فرنسا مهنة نسائية محض. تضم المدرسة التي لم يمض على افتتاحها اكثر من سنة، حوالي 250 تلميذة وتلميذاً. وهي تترك هامشاً من الحرية لاختيار البرامج والاوقات. وتتراوح مدة التعليم بين شهرين وخمس سنوات. وتقول الشابة ايزابيل كاغون المشرفة على ادارة المدرسة، التي تضم عدا القاعة المذكورة، غرفاً للوثائق ولعرض القطع التطريزية وسواها، ان هناك ازمة كبيرة في الاقتصاد العالمي. لكن مهنة الفن تعيش دائماً بتشجيع من وزارة الثقافة ونقابة الخياطين الكبار ومؤسسة احياء الفنون. وايزابيل، الحاصلة على شهادة من مدرسة التجارة العليا وأخرى في الدراسات الادبية، تحب فن التطريز عند لوساج وتقول عنه: "إنه مجنون التطريز. وهو عبقري حقاً يعشق فنه ويتعبد له. يحب الجمال والمرأة الانيقة. ويعمل كثيراً. فهو أول من يصل الى المشغل وآخر من يغادره. يتجاوز الستين، ومع ذلك فهو خلية نشاط لا تهدأ". فرانسوا لوساج متزوج من سيدة جميلة، يؤثر ان تظل بعيدة عن مهنة التطريز. بخلاف والدته "يو" التي سارت خطوة خطوة الى جانب والده ألبرت. وقد يكون مرد ذلك الى انه ملك لا يرغب في ان يكون له شريك او شريكة في التطريز. لكن ابنه جان الذي يبلغ من العمر سبعة وعشرين عاماً، يهتم بصورة خاصة بتطريزات قماش الاثاث. وقد جدد مشغل لوساج اخيراً غرفة ماري انطوانيت في قصر تريانون القريب من قصر فرساي. وكذلك طرز اغطية الاسرة والستائر لقصر ملكة انكلترا. إضافة الى اعماله في كثير من المتاحف والقصور. فتح فرانسوا لوساج عينيه على التطريز، وهو في الخامسة من عمره اذ كان يجلس في احضان المطرزات العاملات في مشغل ابيه. كان عدد الرجال آنذاك ثلاثة فقط: الأب والمصمم جيرار تريمولة والوسيط بين دور الازياء ومشغل التطريز. وحين بلغ فرانسوا العشرين من عمره، سافر الى هوليوود سنة 1949 لتحقيق احلامه الشخصية في التطريز. انشأ مصنعاً هناك، وبواسطته تعرفت نجمات هوليوود الكبيرات لوريت باكال، لانا تورنر، مارلين ديتريش، ريتا هيوارث وجون كروفورد الى التطريز. في سنة 1924 اشترى والده مشغل ميشونة، فأصبح رائد التطريز الفرنسي دون منازع. وعندما مرض الوالد رجع من هوليوود وتسلم مشغل والده بعد وفاته وراحت والدته تساعده في توطيد علاقاته مع دور الازياء الكبيرة. ميزة فرانسوا لوساج انه المبتكر الوحيد في مشغله. فهو يبتكر كل سنة ستمائة نموذج تطريز، نصفها للشتاء والنصف الآخر للصيف وهو يسافر الى جميع انحاء العالم فيزور المكتبات والمتاحف ويشاهد الافلام ويستوحي منها مواضيع مطرزاته. وقد يحدث ان يطلب منه احد المصممين موضوعاً معيناً كالسينما مثلاً كما فعل تيد لابيدوس مثلاً في العام الماضي. او كما فعل ايف سان لوران عندما طلب موضوع الزهر والفواكه. ويعرض فرانسوا لوساج مطرزاته على المصممين في كل موسم. وحين يختار المصمم منها ما يحتاج اليه تصبح ملكه. احياناً يكون التطريز ثوباً كاملاً واحياناً يكون اكسسواراً. وقد يحتاج احد الاثواب الى مطرزة واحدة، بينما يقتضي ثوب آخر عشر مطرزات يعملن على امتداد ستة اشهر. يقول المصمم الشهير كريستيان لاكروا عن فرانسوا لوساج ان تطريزه يرقى الى مستوى الروائع الفنية. وفي رأي لاغرفيلد ان لا خياطة راقية من دون تطريز، وكل قطعة تطريزية من لوساج هي لوحة بحد ذاتها. اما بالنسبة الى جان لوي شيرر فان لوساج يحوّل قطعة القماش الى تحفة. التطريز في التاريخ في العودة الى التاريخ السحيق، نجد ان الاوائل كانوا يعتبرون الزينة امراً لا بد منه. وقد ظهر الخيط الذهبي منذ فجر التاريخ. ولحقت به خيوط الصوف والكتان والقطن. في الصين استخدم خيط الحرير منذ زمن طويل، ولم يصل الى بلاد فارس الا في القرن الثاني قبل الميلاد. واكتشف الغرب خيط الحرير في عهد يوليوس قيصر. وكان التطريز في بلاد ما بين النهرين فناً له مكانة مرموقة. واشتهرت النساء الآشوريات باتقانه بين عهدي حمورابي ونبوخذ نصّر الثاني. وكانت بابل مركزاً للفنون الراقية. وفيما بعد شجعت الامبراطورة تيودورا الفنون ومن بينها فن التطريز. الشرق علّم الغرب التطريز. وإثر انحطاط الامبراطورية البيزنطية في العصور الوسطى لجأ المطرزون الى رافان في ايطاليا وهي مدينة تستقطب الفن. وكان التعليم يواجه صعوبات شتى إذ كان القماش سميكاً والخيوط ثقيلة والرسوم كبيرة والقطب خالية من التنوع، وقد عكس التطريز، اضافة الى ما ينطوي عليه من فخامة العصر وتقاليده. وفي القرن الخامس عشر، بلغ التطريز مستوى فنياً راقياً وصار الرسم يشكل مقدمة اساسية له. ويذكر ان كاترين دي مديتشي، زوجة الملك هنري الرابع، اوصت على ثوب مطرز يحمل 32 الف لؤلؤة وثلاثة آلاف ماسة، كي ترتديه في إحدى الحفلات. وجاء الثوب ثقيلاً جداً بحيث لم تستطع ارتداءه الا مرة واحدة. انتقل التطريز في عهد الملك الشمس، لويس الرابع عشر، الى الاثاث والجدران. وحملت جدران غرفة العرش تطريزاً رائعاً. وقد استقدمت الملكة زوجته اليتيمات من المؤسسات الخيرية ممن يتمتعن بمواهب فنية كي يعملن في التطريز. وصار هذا الفن بالنسبة الى السيدات الفرنسيات في القرنين الماضيين نوعاً من تمضية الوقت بصورة مفيدة. الازمة الاقتصادية التي تعاني منها فرنسا اليوم اصابت التطريز شظاياها فتنازلت الخياطة الراقية عن ابهتها التطريزية في الموسمين الماضيين. لكن فرانسوا لوساج قال بالمناسبة: "ان التطريز في مشغلي يشكل عنصراً اساسياً من الثروة الفرنسية الثقافية والفنية في الموضة وديكور المنزل. وتأسيس مدرستي لتعليم التطريز يهدف الى المحافظة على ديمومة تلك الثروة بنقل تقنيتها الى اكبر عدد ممكن من الناس.