سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بعد 31 عاماً على رحيل الجزائريين . أجواء نهايات في المحطة التونسية والفلسطينيون يستعدون لرحلة أريحا . تونس استضافت القضية وتضررت سياحياً وأصحاب الشقق يبحثون عن مستأجرين !
فور شيوع نبأ خيار "غزة - أريحا اولاً" خيمت على الاوساط الفلسطينية في تونس تلك الاجواء التي ترافق نهايات مرحلة كاملة. في البداية اظهر كثيرون ميلاً الى عدم التصديق ولكن حين بدأ البحث علانية في موعد التوقيع ساد شعور بأن المحطة التونسية تشارف نهايتها. في الحلقات الصغيرة التي توزعت في منازل المسؤولين الفلسطينيين استرجع بعضهم المحطات السابقة والظروف التي اختتمت فيها المرحلة الاردنية في 1970، وتلك التي رافقت انتهاء المرحلة اللبنانية بالجلاء عن بيروت في صيف 1982. وعلى رغم الاسئلة والمخاوف اتفق الجميع على ان المحطة الجديدة هي المحطة الاخيرة لأنها المحطة الفلسطينية. ففي السابق كانت المنظمة تبحث عن مقر جديد في منفى جديد وهذه المرة تتجه القيادة الفلسطينية للمرة الاولى الى ارض فلسطينية. اسئلة كثيرة لا تنتهي: من يذهب الى غزة وأريحا ومن يبقى؟ وأين ينتظر من يفضل الانتظار أو يتحتم عليه الانتظار في تونس أم في عمان أم في عاصمة اخرى؟ وعلى الجانب التونسي اسئلة أخرى عن انعكاسات رحيل المنظمة والقضية عن الاراضي التونسية ومعاني ذلك سياسياً من دون تناسي التفاصيل الاقتصادية والمالية. رحيل الجزائريين محمد الميلي الابراهيمي المدير العام للاليكسو المنظمة العربية للعلوم والتربية والثقافة ومقرها في تونس لا يزال يذكر ذلك اليوم من شهر أيار مايو 1962 الذي دعي فيه الى مغادرة تونس والالتحاق بالجزائر التي كان يعتبر فيها "خارجاً عن القانون" وارهابياً لينضم الى عضوية الحكومة التي شكلها عبدالرحمن فارس في مدينة بومرداس الجزائرية باتفاق الطرفين الجزائري والفرنسي للاشراف على ترتيبات نقل السلطة من الفرنسيين الى الجزائريين وتنظيم الاستفتاء الذي انتهى باعلان الاستقلال. كانت تلك بداية انتقال عشرات الالوف من الجزائريين من تونس الى الجزائر التي كانت تستعد لاعلان استقلالها في تموز يوليو من ذلك العام. ما حدث قبل 31 عاماً يبدو انه سيتجدد هذه المرة مع الفلسطينيين الذين يستعدون لمغادرة تونس الى بلادهم، وبعضهم اثر توقيع اتفاق "غزة - أريحا اولاً" كما تؤكد اوساط فلسطينية مطلعة. احد الذين عاشوا فترة انتقال الجزائريين يقول: "ان ظروف الانتقال واحدة وهي ككل فراق تترك حسرة في النفوس، نفوس المغادرين، ونفوس المودعين الباقين. ولكن ثمة فروقاً بين الحدثين عدا عامل الزمن: الجزائريون اقتصرت اقامتهم على 8 سنوات بينما مضى على وصول الفلسطينيين 11 عاماً. ثم ان الجزائريين اندمجوا في الحياة العامة التي بقي الفلسطينيون غالباً على هامشها بقرار سياسي من منظمة التحرير. كما ان عدد الفلسطينيين في تونس كان دوماً اقل من عدد الجزائريين اثناء فترة اقامتهم 5 الى 7 آلاف فلسطيني في مقابل عشرات الالوف من الجزائريين. الفلسطينيون سيغادرون وقال مصدر فلسطيني كبير ل "الوسط" ان معظم الفلسطينيين في تونس سيغادرها تباعاً قاصداً في الغالب اريحا حيث ستقام اجهزة الحكم الذاتي. لهم الدولة وهم رجالها وهم المكلفون تنفيذ الاتفاق الذي توصلوا اليه ومتابعة تطبيقه. مصدر آخر قال ان معظم الفلسطينيين الموجودين في تونس سيكون غادر البلاد قبل نهاية السنة او خلال الاسابيع الاولى من عام 1994 على ابعد تقدير اذا سارت الاوضاع وفق المنتظر والمخطط. عدد هؤلاء الفلسطينيين هو ما بين 5 الى 7 آلاف، فالرقم متغير ويشمل غالباً بين 1500 و1700 عائلة. ويضم الرقم القيادات الفلسطينية والاجهزة العاملة معها والموظفين الاداريين الذين هم في خدمتها. ويبدو ان هؤلاء ممن غادروا فلسطينالمحتلة في سنة 1948 وبعدها او بعد 1967 سيتمتعون بحق العودة على رغم ان الاتفاق مع اسرائيل لا ينص الا على عودة الفلسطينيين الذين غادروا بعد حرب 1967 وفق ما اعلنه عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة السيد ياسر عبد ربه. وكان عدد الفلسطينيين في تونس حتى منتصف الثمانينات اكبر مما هو الآن الا ان هذاالعدد تقلص بعد قرار نقل المقاتلين من تونس خصوصاً الى اليمن والسودان وانتقال آخرين الى الاردن ولبنان. ومنذ ذلك الوقت لم يبق في تونس من الفلسطينيين الا الجهاز السياسي والاداري وكبار القادة العسكريين واجهزة المؤسسات التعليمية والصحية والنقابية والطلابية والنسائية والاعلامية. ولا توجد في تونس سوى الرئاسة بقيادة ياسر عرفات، والقيادة العامة ومكتب "ابو عمار" والدائرة السياسية والدائرة الاقتصادية والدائرة الاعلامية والدائرة الثقافية والهلال الاحمر الفلسطيني ومدرسة القدس وبيت الصمود الذي يؤوي ابناء الشهداء. وينسق العلاقة بين هذه الاجهزة والحكومة التونسية ما يسمى مكتب منظمة التحرير، وهو اشبه بالسفارة ويتولاه منذ الستينات السيد حكم بلعاوي الذي يقال عنه في تونس انه "تونسي اكثر من التونسيين". وهو رجل استطاع ان يربط علاقات ود وصداقة احياناً مع كل رجال الحكم الذين تعاقبوا على تونس خلال كل هذه الفترة الطويلة. وهو الذي ينظم حياة الفلسطينيين في تونس ويمنع او يحجب حق دخولهم اليها او خروجهم منها. وتؤكد الاوساط القريبة من بلعاوي المعروف بعلاقته الوثيقة مع عرفات "ان كل هذه المؤسسات تعمل بحرية مطلقة في تونس وتتمتع بتسهيلات كبيرة توفرها السلطة التونسية التي فرضت على نفسها منذ قدوم الفلسطينيين الى اراضيها اواخر 1982 بعد خروجهم من بيروت، عدم التدخل في شؤونهم الداخلية أو وضع أي وصاية على قراراتهم أو الامتناع عن ادخال أي من ضيوفهم الى التراب التونسي حتى وان كان غير مرغوب فيه في تونس، وان كان القادة الفلسطينيون من الحكمة بحيث لم يحرجوا السلطات التونسية في اي مناسبة من المناسبات". ومن المؤسسات الفلسطينية لم يبق خارج تونس الا الصندوق القومي او ما يوازي وزارة المال ورئاسة المجلس الوطني والدائرة التعليمية والدائرة الاجتماعية، وكلها تتخذ مقرات لها في الاردن، وأيضاً القوات الفلسطينية المختلفة والمقاتلون الذين توزعوا في جهات عدة من العالم العربي. زيجات محدودة وقال ل "الوسط" استاذ جامعي في السوسيولوجيا "منذ ان بدأت الاتصالات لقدوم القيادة الفلسطينية الى تونس سنة 1982، وكانت تونس آنذاك مقراً للجامعة العربية، بدا ان هناك اتفاقاً على ان يكون الوجود الفلسطيني في تونس وجوداً سياسياً فقط، ومن هنا لم يحصل اندماج فعلي للفلسطينيين. وفي ما عدا عدد من الطلبة يدرسون في الجامعات او عدد من التلاميذ نجدهم في المعاهد التونسية فقلما نعثر على فلسطيني يشتغل في الدوائر التونسية او حتى في القطاع الخاص، بخلاف ما حصل مع الجزائريين قبل 30 سنة أو اكثر، اذ اندمج هؤلاء في الحياة الاجتماعية التونسية واشتغلوا وفتحوا المتاجر وتكاثرت الزيجات بينهم وبين التونسيين والتونسيات. وعلى مدى 11 سنة من الوجود الفلسطيني في تونس، لم تسجل الا حوالي 100 زيجة مختلطة تونسية -فلسطينية غالبها بين رجال فلسطينيين وسيدات تونسيات. ونادراً ما حصلت زيجات بين رجال تونسيين وسيدات فلسطينيات خلال هذه المدة". هذا لا يمنع من القول ان علاقات انسانية حميمة قامت بين عدد كبير من التونسيين وعدد كبير آخر من الفلسطينيين بحكم الجيرة او الصداقة، خصوصاً بحكم المعاملات مثل هذا التونسي الذي ذرف الدموع وهو يتحدث عن الصداقة التي ربطته بالعائلة الفلسطينية التي استأجرت بيته منذ اكثر من عشر سنوات اذ يقول: "لقد تبادلنا زيارات المجاملة في البداية ولكن سرعان ما توطدت العلاقة واخذنا نقضي اوقاتاً طويلة بعضنا مع بعض ونتبادل الزيارات ونأكل معاً. لقد دخلت مطبخنا عادات فلسطينية كما دخلت مطبخ الفلسطينيين عادات تونسية". وفي حديث ل "الوسط" مع مسؤول تونسي كبير قال: "لقد ادينا واجبنا فقد استضفنا الاخوة الفلسطينيين في بلادنا عندما لم يكن احد يريد استقبالهم بعد محنة بيروت سنة 1982. ووفرنا لهم امكانات العمل انطلاقاً من تونس ولم نتدخل قط في شؤونهم. ونشعر نحوهم بالعرفان بالجميل، لأنهم لم يحاولوا قط ان يتدخلوا في سياستنا الداخلية. واذا جاء الوقت ليعودوا الى بلادهم فاننا نحترم قرارهم ونتمنى لهم ان يحققوا مطامحهم وان يقيموا دولتهم. وتونس كانت وستبقى دوماً الدولة التي تستضيف من لا مكان لهم واصحاب القضايا العادلة كا فعلت ايضاً مع الاخوة الجزائريين قبل اربعين سنة". أضرار سياحية وما لا يقال في المستويات العليا عادة يقال في المستويات الشعبية. ففي هذه الايام تكرر التذكير باحداث بدت بعيدة عن الذاكرة، اذ اكد احد رجال السياحة الكبار ل "الوسط": "قد لا يفطن بعضهم للبعض ولكن الواقع هو ان قدوم الاخوة الفلسطينيين سنة 1982 اوقع سياحتنا التي هي المصدر الاول للعملة الصعبة في بلادنا في ازمة، اذ قاطعنا الكثير من مؤسسات السفر الاوروبية بتهمة ان تونس تؤوي الارهابيين. وعانينا من هذه المقاطعة، وساءت احوال السياحة خلال مواسم عدة متلاحقة وتقلص قدوم السياح ودخل البلاد من هذه الصناعة. وعلى رغم ذلك ولو كان للتاريخ ان يعيد نفسه واحداثه لما كان لنا الا اتخاذ قرار باستقبال الاخوة الفلسطينيين والترحيب بهم وتمكينهم من فرصة مواصلة ثورتهم وعملهم من اجل تعزيز بلادهم واقامة دولتهم وتقرير مصيرهم". ويتردد ايضاً هذه الايام بكثرة ان تونس مثلما عرفت اختلاط الدماء التونسيةوالجزائرية في واقعة العدوان الجوي الفرنسي على ساقية سيدي يوسف في 8 شباط فبراير 1958، فانها عرفت ايضاً عدواناً مماثلاً اختلطت فيه الدماء التونسيةوالفلسطينية في واقعة العدوان الجوي الاسرائيلي على حمام الشط في الاول من تشرين الاول اكتوبر 1985، وكل هذا وثق من علاقات الاخوة التقليدية والقائمة بين التونسيين من جهة والجزائريينوالفلسطينيين من جهة اخرى. الذهاب الى الدولة قرار الرحيل لم يتخذ بعد فلم تحدد مهل ولم تضبط قوائم علنية على الاقل لكن المراقبين في تونس يتوقعون ان يبدأ التحاق بعض افراد الصف الثاني في القيادة الفلسطينية بأريحا اثر توقيع الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي لاعداد العدة المادية لاستقبال القيادة وتوفير امكانات العمل لها. ويقول احد المسؤولين في مكتب منظمة التحرير في تونس السفارة ان المقيمين في تونس هم هيكل الحكم المقبل الذي سيعد العدة لتسلم السلطة الموقتة ثم النهائية. وهناك اقتناع كامل هنا بأن الانتخابات التي ستجري خلال فترة 9 اشهر من توقيع الاتفاق مع اسرائيل لا يمكن الا ان تفرز غالبية واضحة لمنظمة التحرير وبخاصة ل "فتح" الفصيل الابرز في الثورة الفلسطينية. وبالتالي فان الذين سيغادرون تونس هم الذين سيكونون على رأس هرم السلطة سواء غداً عند الانتقال او بعد تسعة اشهر واثر الانتخابات او بعد انتهاء الفترة الانتقالية، لأنهم كما يتردد في تونس هم جسم الدولة التي لا بد ان تستعين ايضاً بالمقيمين هناك الذين صمدوا وبقوا سنوات طويلة تحت الاحتلال. والرحيل في نظر كثيرين لا يعني اغلاق كل دوائر منظمة التحرير في تونس، فالواضح ان الحكم الانتقالي في اريحا لن تكون له صلاحيات ديبلوماسية، ولن تكون له علاقات خارجية وهذا ما يحتم استمرار العمل من تونس على الاقل في مرحلة اولى كما انه لا بد من جهاز آخر غير الحكم الذاتي الانتقالي ومصالحه وجهازه. ومن هنا يأتي السؤال الملح والمطروح في اوساط المراقبين في تونس: ماذا سيكون مصير منظمة التحرير؟ هل ستنحل ام تبقى؟ نهاية المحطة والمنظمة محمود درويش قال في اجتماعات اللجنة التنفيذية: "منظمة التحرير انتهت سواء ذهبتم بالتسوية السياسية حتى النهاية ام خرجتم من التسوية الآن". وبسام ابو شريف مستشار السيد ياسر عرفات ذكر ان المنظمة ستنحل. بينما كذب ياسر عبد ربه رئيس دائرة الاعلام ذلك ونفاه بشدة. عدد من المراقبين الديبلوماسيين في تونس يعتقد بأن مصير المنظمة سيكون النهاية بمجرد توقيع الاتفاق. فالفصائل ستتقدم للانتخابات الخاصة بالمجلس التشريعي متنافسة، ودور المنظمة كحركة تحرير يكون قد انتهى. وتجربة جبهة التحرير الجزائرية لا يمكن ان تتكرر في فلسطين، اذا افترضنا ان تجربة جبهة التحرير كانت ناجحة. جبهة التحرير انصهرت في بوتقتها الاحزاب كلها وذابت، والذين دخلوها من دون انتماء طوال حرب التحرير بين 1945 و1962 كانوا الاكثر، ولذلك بقيت ولكن في جو من غياب الديموقراطية. والظروف اليوم في منظمة التحرير مختلفة اذ ان لكل فصيل وجوده الذاتي، كما ان الفصائل لم تنصهر، والحس الديموقراطي قوي جداً داخل المنظمة ووسط كل فصيل، الاان هناك آخرين يعتقدون بأن الحاجة الى منظمة التحرير لا تزال قوية، وان المنظمة التي تقف وراء الاتفاق لا بد ان ترعاه وان تضمنه ولا بد ان تقوم بالمهمات التي لا يمكن ان توكل في الوقت الحاضر للحكم الذاتي الانتقالي، ولا سيما فيها تلك التي تهم العلاقات الخارجية وتصريف شؤون المقاتلين الفلسطينيين الموزعين على بلدان عربية عدة. وفي تقدير الكثير من المحللين السياسيين في تونس ان المنظمة ليست في حاجة الى شهادة وفاة، كما انها لم تكن في البداية في حاجة الى شهادة ولادة، وما دامت الحاجة اليها قائمة فانها ستبقى، اما اذا انتهت تلك الحاجة فانها ستنتهي تلقائياً. وفي هذه الاثناء يسيطر هاجس كبير على عدد من الفلسطينيين المقيمين في تونس في شأن احتمالات انتقالهم، متى وكيف ينظمون دراسة ابنائهم وهم على ابواب سنة دراسية جديدة، وكيف يتدبرون امورهم في حياتهم الجديدة، والكثيرون منهم بل الغالبية غادروا الاراضي التي ستستعاد قبل عشرات السنين او انهم لم يعرفوها قط. أسعار الشقق وهناك هاجس آخر بالنسبة الى بعض التونسيين الذين كان الوجود الفلسطيني يمثل مورد رزقهم او يمكنهم من دخل اضافي عال كأصحاب البيوت المؤجرة بأسعار مرتفعة وعددها بالمئات وربما وصلت الى الفي بيت من البيوت الفاخرة او أكثر. كما ان وجود ما بين 5 الى 6 آلاف فلسطيني يتمتعون بطاقة شرائية عالية كان ينشط السوق الداخلية، وان كان خبير اقتصادي يقلل من اهمية هذا الوجود مؤكداً انه لا يمثل ثقلاً كبيراً يؤدي نقصه الى التأثير في اقتصاد البلاد التي عرفت قبلاً انسحاب الجزائريين وعددهم بعشرات الالوف، ثم قبل عامين انسحاب الجامعة العربية وموظفيها. ويضيف هذا الخبير: "الا ان هذا لا يمنع من القول ان رحيل الفلسطينيين يمكن ان يؤثر في مداخيل بعض الافراد من التونسيين وربما ادى الى تحقيق انفراج في اسعار تأجير البيوت الذي ارتفع في بعض الاحياء الراقية في العاصمة تونس ارتفاعاً تجاوز كل منطق".