الهزّة الثالثة التي ضربت الاسبوع الماضي نظام النقد الاوروبي، واستهدفت بصفة خاصة الفرنك الفرنسي، دفعت مرة اخرى الاوساط النقدية في بروكسيل، الى التساؤل عن مدى قدرة هذا النظام، على احتواء هجمات متتالية، اذا بقي الركود الاقتصادي على حاله، ولم يقدم المصرف المركزي الالماني البندسبنك على خفض ملحوظ لمعدلات الفوائد. وكما في ايلول سبتمبر 1992 وكانون الثاني يناير 1993 دعم "البندسبنك" بقوة العملة الفرنسية، مع ان الهزة الاخيرة كانت الاخف من حيث حجم المضاربات، وحتى من لندن اتت التصريحات المشتركة لميتران ومايجور وبلادور لتؤكد ضرورة التماسك داخل نظام النقد الاوروبي. نائب رئيس المفوضية الاوروبية كريستوفريسن، دعا بدوره الى تسريع الاتحاد الاقتصادي، والنقدي الذي اقرته معاهدة ماستريخت، وفي العواصم التي تعرضت للمضاربات، من باريس الى كوبنهاغن مروراً ببروكسيل ولشبونة ومدريد، حدث نوع من الاجماع على اعتبار ان اي خفض في قيمة الفرنك، يعني بصورة تلقائية بداية تدمير مشروع البناء الاوروبي. ومن هنا، اكتسبت معركة الفرنك، كما قال خبير في بروكسيل، حجماً يتجاوز الحدود الجغرافية والاقتصادية لفرنسا. بين 1987 و1992، بقيت سلة العملات الاوروبية داخل الاطار الذي حدده نظام النقد، لا بل اكتسب هذا النظام تماسكاً اضافياً مع انخراط الجنيه الاسترليني عام 1990. ولعبت الوحدة الالمانية يومها دوراً ايجابياً في تحفيز الانتاج ودفع النمو، ثم في هذا الجو التفاؤلي العام أقرت معاهدة ماستريخت، على اساس ان الاتحاد الاقتصادي والنقدي هو تطور طبيعي لنظام النقد المؤسس عام 1979 ومرحلة اضافية بعد تحقيق السوق الموحدة. غير ان المشكلة، مع الهزات المتتابعة التي ضربت نظام النقد الاوروبي، ليست فقط ذات طابع اقتصادي، بل سياسي. فالعلامة الاولى، جاءت في حزيران يونيو 1992، حين استفاقت المجموعة الاوروبية مذهولة على الاستفتاء السلبي للرأي العام الدانماركي في التصديق على معاهدة ماستريخت. ثم، ازداد الارتباك تدريجياً، ليبلغ ذروته قبل أيام من الاستفتاء الفرنسي على المعاهدة نفسها في ايلول سبتمبر، ووقتها، تحت ضغط المضاربات، خرج الجنيه الاسترليني من نظام النقد، وكذلك فعل اللير الايطالي. وقيل كذلك ان الوضع الاقتصادي العام في بريطانيا وايطاليا شكّل بدوره عاملاً لخفض قيمة العملتين، وان دعم "البندسبنك" المعتدل يتفق مع "المعطيات الموضوعية" للاقتصاد. في المقابل انقذ الدعم المكثف من جانب "البندسبنك" الفرنك الفرنسي، غير ان كسب الجولة الاولى، لا يعني بالضرورة، كسب المعركة الاخيرة. المشكلة الآن، على ما يبدو، تختلف عمّا كانت عليه خريف العام لماضي ومطلع 1993، فالمانيا دخلت بدورها مرحلة الركود، كما ان المعدل النسبي للتضخم اخذ في الارتفاع، وضاق بالتالي هامش المناورة امام "البندسبنك"، فاما يخفض معدلات الفوائد على حساب تزايد الكمية النقدية، واما يترك الامور على حالها على حساب المخاطرة بخفض قيمة الفرنك الفرنسي وكذلك الفرنك البلجيكي والكورون الدانماركي، اي تفجير نظام النقد الاوروبي من الداخل. ان المطلوب، في اية حال، انقاذ ماستريخت بأقل قدر من الخسائر. ومن هذه الزاوية، جاءت ردود الفعل ايجابية في بروكسيل، بعد التصويت الاخير في مجلس العموم البريطاني على معاهدة الاتحاد الاوروبي، ومنذ الآن يراهنون في بروكسيل على اتخاذ مبادرات اقتصادية ونقدية خلال انعقاد القمة الاستثنائية للمجلس الاوروبي في تشرين الاول اكتوبر المقبل. وهناك سيناريو، يجري التحضير له الآن، بأقل ما يمكن من الضجيج الاعلامي، وهو تسريع وتيرة الاتحاد الاقتصادي والنقدي داخل "النواة الصلبة" في نظام النقد الاوروبي، التي تضم المارك والفرنك وعملات البينيلوكس، اي عملياً، تأسيس اتحاد اوروبي ذي سرعات متعددة وتسليم الدفة النقدية ل "البندسبنك". في المقابل، تعبر مداخلات اوساط سياسية واقتصادية نافذة في فرنسا، عن اتجاه معاكس، اي اتباع المثل البريطاني، من خلال خفض قيمة العملة والانسحاب "موقتاً" من نظام النقد الاوروبي، تمهيداً لخفض المعدلات على الفوائد وانعاش الدورة الاقتصادية ومواجهة الارتفاع المتواصل في نسبة البطالة. ان النقاش الدائر في فرنسا الآن، يذكر الى حد ما، مع اختلاف في الدرجة، بنقاش مماثل جرى قبل عشر سنوات، مع فارق اساسي ان الحرب الباردة يومذاك كانت في الذروة، ومشروع الاتحاد الاوروبي غير وارد، والمانيا منشطرة الى نصفين. واكثر من أي وقت مضى يعبر قطار ماستريخت في فرانكفورت.