تتردّد الدول الأعضاء في منطقة العملة الأوروبية الموحدّة (يورو) في تقديم مساعدة مالية إلى العضو الغارق في ديون تفوق 400 بليون يورو، أي اليونان. لكن في المقابل تسعى إلى إيجاد هيئةٍ ما، قد تكون في شكل «صندوق نقد أوروبي»، يقدّم العون إلى الأعضاء المتعثرين في المستقبل. وذلك كنتيجةٍ للإعاقة التي تتسبب بها شروط معاهدة «ماستريخت» عام 1992، فلم تلحظ جهازاً يساند أي عضوٍ يقع في عجز. وغالباً ما تقود أزمات المال والاقتصاد الحادة، الأنظمةَ العالمية نحو التخطيط لنظمٍ وآلياتٍ تتفادى بموجبها أزماتٍ محتملة. وقد تتطوّر أسباب الأزمات، بحيث يصعب تفادي تكرارها، في ما يُشبه أمراضاً تقوى على مضادات حيوية، فتسعى العلوم الصيدلانية إلى اختبار عقاقير جديدة لها. فالنتائجُ الحميدة للأزمات أنها تدفع الأنظمة السياسية إلى صياغة آليات مراقبة متشدّدة للعوامل الاقتصادية، وتسعى إلى سدِّ ثغراتٍ أمكن من خلالها إحداثُ أعطابٍ قاتلة في النظم المالية والاقتصادية تالياً. فبعد الأزمة العالمية، التي استطاعت مجموعةُ دول العشرين ضبط تداعياتها، وسعي مجموعات ودول إلى تحصين اقتصاداتها لتنأى بها عن الانهيار مستقبلاً، برزت أزمة منطقة اليورو التي أنهت العقد الأول من تكاملها. فالمنطقة الفتيّة تجتاز حالياً تجربةً لم تتوقع إمكان حدوثها لتلحظ لها حلولاً مسبقة. فمعاهدة «ماستريخت» التي أرست ضوابط منطقة اليورو وآليات تداول عملة أوروبية موحّدة والتعاطي بها، لم تلحظ احتمال تقصير دولة عضو فيها وتهديدها العملة الجديدة. وعلى رغم المستويات الاقتصادية المختلفة والمتباعدة بين الدول الأعضاء، قادت ضوابط «ماستريخت» تقارباً بينها من ضمن شروطٍ قد تتأمن خلال فترات النمو الاقتصادي، ولكن ليس خلال الأزمات القويّة. فشروطها واضحة، أوجبت على الدول الأعضاء ألا يتخطى التضخم لدى كلٍ منها 1.5 في المئة، عن أدنى معدل له في ثلاث دول أعضاء. ويجب أن ينضبط عجز الموازنة العامة لكل عضو بأدنى من 3 في المئة من الناتج المحلي، وألا يتجاوز الدين العام لديه 60 في المئة من الناتج أيضاً، وألا تتعدى معدلات الفوائد 2 في المئة عن أدناها في ثلاث دول أعضاء. كما أوجبت على الدول الراغبة في الانضمام ألا تخفض قيمة عملتها خلال السنتين السابقتين لانضمامها. ويندرج ما لحظته «ماستريخت» من ضوابط في فضاء «التعايش الاقتصادي»، أكثر مما يفرضه اعتمادُ عملةٍ واحدة في التعامل الاقتصادي والعمليات المالية التي تختلفُ بين الأعضاء. فاستخدام عملةٍ أوروبية موحدة أوجب تقارباً بين معدلات التضخم لدى الأعضاء، والتأكد من أن ارتفاع عجز الموازنة العامة لدى أي عضو يمكن أن يضر بقيمة العملة الموحدة وبالسلامة الاقتصادية لمنطقتها. لكن التقيّدَ بمثل هذه الشروط عسيرٌ في الأزمات القاسية. ففي دورات الانكماش الاقتصادي، يحتم دعم الاقتصاد التغاضي عن العجز العام، لكن ضوابط «ماستريخت»، دفعت الدول الأوروبية في منطقة اليورو خلال انكماش 1993، إلى سياسات اقتصادية عاجزة ومقيّدة، حالت دون أن ينطلق تطورها الاقتصادي قبل نهاية تسعينات القرن الماضي. وإلى ضوابط «ماستريخت»، لم يكن اختيار الدول الأعضاء سليماً. فدول جنوب أوروبا كانت لديها رغبة شديدة في الانضمام لتحقق من خلاله مصلحة اقتصادية بالاستفادة من معدل الفائدة المتدني، ومصلحة سياسية، تقضي بانخراط دولٍ كانت مهمّشة، في البناء الأوروبي وبتثبيت «الديموقراطية» لدول خرجت حديثاً من أنظمة ديكتاتورية (مجلة ألترناتيف - آذار/ مارس 2010). ولعب عنصر الفائدة المتدنية دوراً أساساً جاذباً لانخراط دولٍ في منطقة اليورو، مستجديةً الضغط من أعضاء أساسيين. وكانت تهدف إلى أن يستفيد عملاؤها الاقتصاديون (حكومة، مؤسسات وعائلات) من فوائد لا يمكن أن تعتمدها محلياً، كما تستفيد هي من معدلات تضخم متقاربةً، وتوجيه الأسعار نحو الانخفاض. وأظهرت المفارقات ان مستوى الأسعار في اليونان انطلاقاً من 1997 كسنة أساس توازي 100 في المئة، بلغ 146 في 2009، و139 في أسبانيا بينما كان في فرنسا 122 وألمانيا 119. ولم تكن ممكنة معالجة ارتفاع الأسعار بتعديل الفوائد، نظراً لكون المركزي الأوروبي يحدد معدل فائدةٍ واحداً. وللمقارنة، كانت ألمانيا قبل اليورو تتمتع بمعدل الفائدة الأدنى في المنطقة على نقيض اليونان وأرلندا وأسبانيا، لأن معدلات التضخم فيها كانت أعلى منها في ألمانياوفرنسا، على رغم أن هذه الدول عرفت في سنوات معدلات فائدة سلبية. وتكمن إيجابيات التضخم في أنه يذوّب ديون الدول ومؤسساتها وعائلاتها، ويدفع السلطات النقدية إلى أن تحدد معدلات الفوائد قياساً إلى تحولات معدلات التضخم، أحياناً لدوافع اقتصادية. لكن مع اتباع معدل فائدة واحد ضمن كيانات اقتصادية مختلفة، وفي ظل أزمة فرضت حتمية تجاوز شروط «ماستريخت»، حصل الانحراف الذي أوصل إلى الحالة الراهنة. فاليونان توسعت في ديون، أخفت حقيقتها عن بروكسيل بواسطة «غولدمان ساتش» الأميركي، وفي أسبانيا وأرلندا والبرتغال كدّست الأسر والمنشآت والعملاء الخاصون القروض، فباتت متخمة بالديون. قياساً إلى السهولة في الحصول على قروض، لم يعد مواطنو هذه البلدان يدخرون. صاروا يستهلكون أكثر مما ينتجون. ومع اتساع الهوة للعجز الخارجي المفرغ القعر، 12 في المئة من الناتج المحلي في اليونان، 10 في البرتغال و9 في أسبانيا، حصلت الأزمة. وفي شكل عام يؤدي الدين المفرط إلى خسارة التنافسية في بلدان كثيرة. لكن من الصعب ضمن منطقة اليورو الخروج منها. قبلها كان يكفي خفض قيمة العملة لتصحيح الوضع، فيجد السكان أنفسهم فقراء فجأة، لكنهم أكثر تنافسية تجاه الآخرين، فخفض قيمة العملة قاس لكن ليس موجعاً، ويساوي بين الجميع. من هنا الرهان على قدرة صمود العملة الأوروبية. فأزمة اليونان أيقظت الأعضاء على أخطار كامنة، قد يتفادونها بصندوق نقدٍ إقليمي.