اتخذت قضية اللاجئين البوسنيين منحى جديداً يستند على انتمائهم العرقي في التعامل مع مأساتهم، اثر المقررات الملزمة التي اعلنها المؤتمر الدولي الذي عقد في ساراييفو في 3 شباط فبراير الماضي، وأُرغمت السلطات المسلمة على ضمان عودة النازحين الصرب والكروات واليهود الى وضعهم السابق للحرب في العاصمة البوسنية، من دون الاستجابة لطلبات المسلمين الداعية الى معاملتهم بالمثل في انهاء محنة لاجئيهم من اماكن هيمنة الصرب والكروات. تجلّت الاهمية الكبيرة لمؤتمر العودة الى ساراييفو من خلال اشراف كبار المسؤولين الدوليين عليه، وفي مقدمتهم المنسق المدني لعملية السلام البوسنية كارلوس ويستندورب والمبعوث الاميركي الخاص الى منطقة البلقان روبرت غيلبارد اللذين واكبا الاستعدادات له باطلاق سلسلة من اشد عبارات التحذير والترهيب للمسلمين البوسنيين اذا حاولوا "التمرد على مشيئة المجتمع الدولي". كما اكد الامين العام لحلف شمال الاطلسي خافيير سولانا على اعضاء هيئة الرئاسة البوسنية الذين اجتمع بهم في 30 كانون الثاني يناير الماضي على وجوب توفير الاجواء المشجعة لعودة سكان ساراييفو من دون الربط المباشر بقضايا اخرى، ما جعل الرئيس علي عزت بيغوفيتش وارفع المسؤولين المسلمين يحضرون مناقشات المؤتمر، لكنهم اخفقوا في تقويم ما اعتبروه اجحافاً، ولم يجدوا مفراً من توقيع بيان مُعدّ مسبقاً، وصفته صحيفة "اوسلوبوجينيا" شبه الرسمية الصادرة في ساراييفو بأنه اشد ضربة سياسية ومعنوية وُجهت الى منطلقات حزب العمل الديموقراطي الاسلامي الحاكم في افكاره وقيادته لشؤون المسلمين. بيان دولي ركز المسؤولون الدوليون في بيانهم على ان هدفهم يتوخى "دعم وضع ساراييفو عاصمة للبوسنة - الهرسك والاتحاد الفيديرالي، ما يتطلب ان تكون نموذجاً مفتوحاً للتعايش العرقي والتسامح الاجتماعي، يقتدى به في مناطق البلاد الاخرى". ويبدو هذا الهدف حضارياً وسلمياً في شكله العام، لكنه بالنسبة للظروف البوسنية الراهنة لن يستوفي المطلوب منه ما لم يكن "منصفاً لكل مظلوم" كما اكد الرئيس بيغوفيتش، الذي دعا الى "جعل مشكلة اللاجئين قضية مترابطة في جميع شؤونها، وان يجري حلّها من خلال جداول تُنظّم العودة في اتجاهات مختلفة في آن واحد". وأوضح الرئيس بيغوفيتش، انه عندما يُطلب اخراج اللاجئين المسلمين من بيوت العائدين في أي مدينة، ينبغي في الوقت ذاته معالجة مشكلة هؤلاء المطرودين بحلّ دائم مماثل، هو عودتهم الى اماكنهم السابقة في مناطق الصرب والكروات. وفسّر المسؤولون الدوليون الامر بشكل آخر، يعتبر ساراييفو منطقة منفصلة، لتميزها بكونها العاصمة الوحيدة للجميع "ما يتطلّب ان يتوافر فيها ضمان المعاملة المتساوية لكل سكانها في مرافق الحياة المدنية والمجالات الاقتصادية وصيانة الحقوق الانسانية لكل فرد فيها". وازاء هذا التصور، أمر بيان المؤتمر ان تقوم سلطات ساراييفو بتعديل قوانين الاسكان والتملّك في المدينة خلال اسبوعين، حتى يتمكن 20 ألف نازح على الاقل من غير المسلمين العودة في العام الجاري الى اماكنهم السابقة فيها "ويشترط المجتمع الدولي ما سيقدمه من مساعدات الى ساراييفو بالتنفيذ الكامل لقرارات المؤتمر". وأشار البيان الى مشكلة اللاجئين والمشرّدين المسلمين بأن "المجتمع الدولي سيضاعف جهوده لترتيب العودة الى مناطق البوسنة - الهرسك الاخرى وزيادتها، وبما فيها بانيالوكا وموستار ووسط البوسنة وشرق الجمهورية الصربية، وسوف يربط تقديم المساعدات الاقتصادية لكل منطقة بالتقدم الذي تحرزه في عودة النازحين منها الى ديارهم قبل الحرب". مأساة عامة يبلغ عدد سكان البوسنة حسب الاحصاء الرسمي لعام 1991 حوالي 4 ملايين و355 الف نسمة، يشكلون حسب التقسيم العرقي 2 مليون و5 آلاف مسلم ومليون و480 الف صربي و870 الف كرواتي، وعلى رغم انه لا توجد احصاءات دقيقة عن عدد البوسنيين الذين لا يزالون خارج البلاد نتيجة ظروف الحرب، لكن التقديرات تشير الى ان 850 الف مسلم هم في الخارج وان نحو نصف مليون منهم لا يتوقع عودتهم ابداً بسبب حصولهم على اقامات دائمة في استراليا وكندا والولايات المتحدة وعدد من الدول الاوروبية. اما الصرب، فانه يوجد 200 ألف منهم في تنقّل دائم بين صربيا بصفة لاجئين لتلّقي المساعدات الدولية وبين الجمهورية الصربية، في حين يوجد نحو 150 الف كرواتي في تنقّل مماثل بين كرواتيا ومناطق الهرسك - بوسنة، وهذا يعني أن أي احصاء جديد سيأتي بأرقام مغايرة لما كان عليه الحال قبل الحال، من المؤكد انها ستشير الى انخفاض نسبة المسلمين مقابل ارتفاعها للصرب بسبب انتقال نحو 200 الف صربي من كرايينا كرواتيا إلى مناطق الكيان الصربي وحصلوا على الحقوق نفسها التي يتمتع بها سكان البوسنة، فيما لا يتوقع ان يطرأ تغيير مهم على نسبة الكروات في البوسنة. وازاء هذا الوضع، دعا الرئيس بيغوفيتش الى وجوب الضغط الدولي على سلطات زغرب كي تسمح بعودة صرب كرايينا الى ديارهم كحل واقعي وانساني لتأثيرهم على الشكل السكاني المتوارث في البوسنة، اضافة الى انهم يقيمون حالياً في اكثر من 20 ألف منزل يملكها لاجئون مسلمون خصوصاً في بانيالوكا وبرتشكو وبريدور، لا يمكنهم العودة اليها لانتفاء وسيلة اخلائها ما دام الرجوع الى كرايينا غير متوافر. وكان عدد سكان ساراييفو، حسب احصاء 1991، حوالى 526 الف نسمة، بينهم نحو 290 ألف مسلم و173 ألف صربي و63 ألف كرواتي، ووفق المعلومات الدولية، فإن زهاء 120 ألف صربي و25 ألف كرواتي غادروا المدنية، ما يعني أنه لا يزال فيها 53 الف صربي و38 الف كرواتي، لكن هذا العدد لا يعتبره المسؤولون الدوليون كافياً للتنوّع العرقي، ويدعون العودة الى صورة متقاربة لما كان الوضع عليه قبل الحرب. تطهير مشروع ساهم زعماء المسلمين البوسنيين، لأسباب لا تزال غير واضحة تماماً، في توفير اعداد كبيرة من الصرب الذين تولى قادتهم توزيعهم للسكنى في بيوت المسلمين وفق العدد الذي يناسب كل منطقة للحسابات المقبلة، خصوصاً وان اتفاق دايتون للسلام منح البوسنيين حرية الانتقال واختيار مكان الاقامة الدائم. وتتجلى هذه المساهمة في بلديات كوبريس ودرفار وغلاموتش وشيبوفو وغرانوفو وبيتروفاتس في غرب البوسنة التي كانت ذات غالبية من السكان الصرب، وشنّ الجيش البوسني المسلم بالتعاون مع الكروات هجوماً عليها في آخر ايام الحرب، ما ادى الى فرار سكانها وانتقالهم الى بيوت المسلمين في المناطق التي كانت تحت سيطرة الصرب، واللافت ان هذه المناطق التي شكّلت نزوحاً ضاراً على المسلمين، استفاد منها الكروات وحدهم لأنها رست تحت سيطرتهم فيما بعد. اما في ضواحي ساراييفو، التي يسميها الصرب "ساراييفو الصربية" وألحقها اتفاق دايتون بالاتحاد الفيديرالي بهدف ابقاء العاصمة البوسنية موحدة، ادى الانتقال الصربي الى مناطق المسلمين في شمال البوسنة وشرقها، بعد ان رفض المسلمون منح الصرب سلطات ذاتية في هذه الضواحي، الى تغيير التركيبة السكانية. مهما كانت مزايا هذه الاجراءات الآنية في توفير السكن لاعداد كبيرة من النازحين واللاجئين المسلمين، فإن الكثير من المسلمين لم يرض عنها، ومنهم القائد السابق للجيش البوسني المسلم الجنرال سفر خليلوفيتش الذي اتهم في كتاب اصدره بعنوان "الاستراتيجية الخبيثة" الرئيس بيغوفيتش والمقربين اليه ب "السعي الى اقامة دويلة عرقية مسلمة في البوسنة". ويشير المراقبون الى ان التقويمات ترجح بأن الخطط الدولية بخصوص قضية اللاجئين والنازحين ستفقد المسلمين الكثير من سلطاتهم على العاصمة ساراييفو، في الوقت الذي تبقي على التغييرات الديموغرافية التي اجراها الصرب والكروات من خلال عمليات التطهير العرقية، على شكلها الجديد الذي يلغي الصورة القديمة للبوسنة. ولا يتوقع ان يتمكن المسلمون من اعادة انتشارهم السابق ومكانتهم الغالبة قبل الحرب، نتيجة بقاء مئات الآلاف منهم خارج البوسنة، اضافة الى انهم كانوا الطرف الذي لحقت به اكثر الخسائر البشرية خلال الحرب، ولعله السبب الذي جعلهم يركزون على وجودهم في ساراييفو وعدد من المدن الاخرى مثل توزلا وزينيتسا وترافنيك وكونيتس، ضماناً لاستمرار بقائهم في البلاد.