"العالم تخلى عن مسلمي البوسنة والهرسك". هكذا لخص مسؤول بوسني كبير الموقف بعدما اتفقت الولاياتالمتحدةوروسيا والدول الاوروبية الرئيسية ومنها فرنسا وبريطانيا على "خطة سلام جديدة" لوقف القتال في هذه الجمهورية المستقلة. والواقع ان هذه الخطة الجديدة لا تدعو الى استخدام القوة لوقف حملة التوسع التي مكنت القوات الصربية من السيطرة على 70 في المئة من اراضي البوسنة، ولا تنص على اعادة هذه الاراضي الى اصحابها، بل تدعو بشكل خاص الى حماية "المناطق الآمنة" التي لجأ اليها مسلمو البوسنة والمحاصرة من قبل الصرب، كما تهدف الى منع اتساع نطاق القتال. ولذلك رفض الرئيس البوسني علي عزت بيكوفيتش هذه الخطة واتهم العالم باسترضاء "العدوان والابادة" الصربيين، وقال ان "المناطق الآمنة" ستمنع المسلمين الذين طردوا في القتال من العودة الى ديارهم. وتعهد بمواصلة القتال قائلاً ان المفاوضات لا جدوى منها. وقال السناتور بوب دول زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ الاميركي ان هذه الخطة "تلغي عملياً البوسنة والهرسك من الوجود كدولة". هذا التحول الخطير في مسار الازمة البوسنية يطرح سؤالاً أساسياً: ما هي حقيقة اوضاع مسلمي البوسنة وما قصتهم؟ الصحافي الاميركي دون نورث زار البوسنة والهرسك وهو يروي في تحقيق خاص كتبه لپ"الوسط" من ساراييفو قصة مسلمي هذه الدولة ومأساتهم. دون نورث صحافي اميركي يتمتع بخبرة 30 سنة في عالم الصحافة المكتوبة والمرئية. قام بتغطية حروب ونزاعات عدة في العالم، منها حرب فيتنام وغزو اسرائيل للبنان وحرب تحرير الكويت. عمل سنوات مع شبكتي التلفزيون الاميركيتين "آي.بي.سي" و"ان.بي.سي"، ونال جائزة افضل تحقيق عن تغطيته حرب فيتنام عام 1967. تعاون مع كبريات الصحف والمجلات الاميركية، ومنها "نيوزويك" و"تايم" كما عمل مع وكالتي "الاسوشيتدبرس" و"اليونايتدبرس". دون نورث يروي في هذا التحقيق الخاص بپ"الوسط" من ساراييفو قصة مسلمي البوسنة والهرسك ومأساتهم. هناك شعب بأكمله مهدد بالخطر الشديد في البوسنة والهرسك. انه الشعب الاسلامي. وكان تعداد هذا الشعب يبلغ 3،4 مليون نسمة، ولكن التقديرات الموثوق بها تقول إن 140 الفاً من أبناء هذا الشعب قتلوا، كما أجبر 4،2 مليون نسمة منهم على الفرار كلاجئين، وتعرضت اكثر من 20 الف فتاة وسيدة للاغتصاب. والى جانب ذلك تعرضت المعالم والمواقع الدينية والثقافية للتدمير المنظم، خصوصاً في ثلاث مدن قديمة كانت تشتهر بجمالها، وهي ساراييفو وموستار وبانيالوكا، حيث كان هناك مزيج مثير للاعجاب من الاجناس والديانات والثقافات والتقاليد والنظم المعمارية التي تطورت على مدى القرون الخمسة التي انقضت منذ دخول البوسنة الى حيز الوجود. وإذا طبقنا نصوص معاهدة جنيف، سنجد ان الحرب الدائرة في البوسنة ضد المسلمين عبارة عن عملية إبادة جماعية. واذا كانت تلك الحرب بدأت للقضاء على شعب البوسنة بسبب هويته الاسلامية، فانها أدت في الوقت ذاته الى تحديد معالم تلك الهوية. ومن المفارقات القاسية في هذا الصدد ان شعب البوسنة يعاني من شيء لم يتحقق له قط، وهو ان تكون له دولته الخاصة. وكان المسلمون في البوسنة يعانون على مدى قرون عدة من تورطهم رغماً عن ارادتهم في النزاعات الصربية - الكرواتية التي أدت الى عواقب مخيفة كانت تتكرر باستمرار على مدى التاريخ الدموي لمنطقة البلقان. ومن بين اقدم الامثلة على ذلك في عهد الامبراطورية العثمانية معركة كوسوفو في 1389، التي اشتعلت فيها نيران عداوة الصرب الدائمة للمسلمين. ولا يزال اطفال الصرب حتى الآن يتعلمون الأغاني والاشعار عن "ابطال الصرب" الذين سقطوا في معركة كوسوفو. وليست هناك تفاصيل تاريخية كثيرة عن اصول مسلمي البوسنة، ويعترف العلماء المسلمون انفسهم بأن هناك الكثير من الغموض بشأن اعتناق اهالي البوسنة الاسلام. ويشير معظم هؤلاء العلماء الى ان اصول اهالي البوسنة تعود الى جماعة غامضة تسمى البوغوميل. وازدهرت تلك الجماعة في بداية القرن العاشر للميلاد في المنطقة التي تعرف الآن باسم البوسنة ومقدونيا. وعندما دخل محمد الفاتح البوسنة بجيوش الامبراطورية العثمانية حاملاً معه لواء الاسلام في 1482، تصرف العثمانيون بحكمة، وعرضوا على البوغوميل الحماية وحرية العقيدة، اذا اعتبروا انفسهم مسلمين. ولا بد ان هذا العرض العثماني كان مغرياً جداً في ذلك الوقت، لأن الحملات الصليبية كانت تهدف باستمرار الى حرق اعضاء جماعة البوغوميل. ولذلك ولّى البوغوميل ظهورهم للمسيحية واعتنقوا الدين الاسلامي، وأدى الفتح العثماني للبلقان الى اختلاط الامور فيها، ولكنه لم يقض على الطوائف المسيحية هناك. وكان الاتراك العثمانيون يعتبرون ان الاسلام هو الدين الحق، ولكنهم لم يعمدوا، مثل الغزاة الأوروبيين، الى اجبار المسيحيين او اليهود على اعتناق الاسلام. واعتنق معظم اهالي البوسنة الدين الاسلامي وأصبحت المنطقة معقلاً للامبراطورية العثمانية، وتمتعت بدرجة من الحكم الذاتي. وكان السلافيون المسيحيون يعتبرون المسلمين من اهالي البوسنة من "الاتراك"، وفي الوقت ذاته كان مسلمو البوسنة يحاولون تمييز انفسهم عن طريق التحدث باللغة البوسنية على سبيل المثال، وليس اللغة التركية. وعندما انسحب الاتراك العثمانيون من البوسنة امام جيش هابسبيرغ النمسوي الزاحف، حرق يوجين سافوي ساراييفو تماماً في 1697، جرياً على عادة الاوروبيين في عدم تحمل اتباع الاديان الاخرى. وبعد ذلك لم يتم السماح ببناء اي مسجد في المدينة. ولكن احتلال يوجين للمنطقة لم يدم طويلاً، وعندما عادت النمسا الى احتلال البوسنة مرة اخرى بعد مؤتمر برلين في 1878، كانت سياسة حرق المساجد و"التطهير الديني" انتهت، وذلك بفضل سياسة "التنوير" التي كانت تنتشر في اوروبا في ذلك الوقت. وعلى رغم ان مسلمي البوسنة كانوا يدينون بالولاء للدولة العثمانية، فانهم كانوا يعون دائماً انهم ليسوا من الاناضوليين. وبعد احتلال المنطقة من جانب جيوش هابسبيرغ النمسوية، كانت النزعات التحررية تسود اوساط مسلمي البوسنة، كما اصبحت اسرة هابسبيرغ المالكة تعامله مثل الديانات غير الكاثوليكية الاخرى. وأدى الاحتلال النمسوي الى حدوث تغييرات عميقة في المجتمع الاسلامي في البوسنة. فبعد ان كان هذا المجتمع جزءاً من العالم الاسلامي على مدى قرون، اصبح فجأة جزءاً من الحضارة الغربية. وفي ذلك الوقت هاجر ثلث مسلمي البوسنة الى تركيا او الى دول الشرق الاوسط. وكانت الامبراطورية النمسوية تدرك جيداً مدى خطورة الحركات الانفصالية والقومية والدينية، في صفوف الصرب والكرواتيين في البوسنة. وفي الوقت ذاته كان النمسويون يرغبون في ايقاف هجرة المسلمين الى خارج البوسنة. واتبعت السلطات النمسوية استراتيجية تشجع الهوية المتعددة الديانات في البوسنة. ولكن مع ازدياد التوتر بين الصرب والكرواتيين، نمت تلك الهوية بصورة قوية لدى المسلمين وحدهم الذين اعتبروها وسيلة تجنبهم ضرورة اعلان انفسهم من الصرب او الكرواتيين. وتعلم المسلمون كيفية اتباع نهج متوسط يتسم بالحذر في تلك المنطقة التي تتميز بالعداوات بين الاديان والنزاعات بين الجيران. وهكذا عمد بعض المسلمين الى عدم الانضمام الى جنسية معينة، كما انضم البعض الآخر الى احدى الجنسيات لأسباب سياسية او أسباب تتصل بكسب القوت. ولكن الاغلبية العظمى منهم رفضت الالتزام بهوية وطنية معينة. ذبح المسلمين واليوم لا يزال الوضع نفسه قائماً في البوسنة، ولكن مع بعض الاختلافات الأساسية. ان الحركات الصربية والكرواتية الوطنية تهدف اساساً الى الاستيلاء على الأراضي، بينما كانت الهوية الاسلامية في البوسنة تهدف اساساً الى البقاء في وجه القوى الخارجية المتفوقة عليها. والعامل الرئيسي الذي يميز هؤلاء السكان يتمثل في الديانة الاسلامية، وليس في اللغة او الموقع الجغرافي. وتولى عرش اسرة هابسبيرغ في النمسا الارشيدوق فرانس فيرديناند الكريه والمغرور، الذي اختار الذكرى السنوية لهزيمة الصرب في معركة كوسوفو، في يوم 28 حزيران يونيو 1914، لكي يستقل سيارته عبر شوارع ساراييفو حيث اغتاله قومي صربي شاب هو غافريلو برينسيب. وكان ذلك الاغتيال بمثابة الشرارة التي اشعلت نيران الحرب العالمية الأولى في البوسنة المتقلبة. وهكذا اعلنت النمسا الحرب على صربيا على رغم انه لم يثبت قط وجود اي صلة بين حادث الاغتيال والحكومة الصربية. ورفضت روسيا السماح بتوسع الامبراطورية النمسوية، كما ايدت المانياالنمسا لأنها كانت تطمح في الحصول على بعض الاراضي الروسية، وفي الهجوم على فرنسا. وبذلك بدأت وقائع اكبر مذبحة في تاريخ الانسانية. واليوم تتميز البقعة التي صوب فيها غافريلو برينسيب مسدسه الى امبراطور النمسا بآثار اقدام محفورة في الخرسانة المسلحة، بصورة ربما تبدو فكاهية لبعض الناس. وعندما يقف الانسان اليوم وسط اطلال ساراييفو مستمعاً الى قصف المدفعية الصربية وأزيز رصاص القناصة، فانه ليس من الصعب ان يتخيل ان احداث التاريخ تدفع اوروبا مرة اخرى الى حرب جديدة. وأدى ولاء المسلمين والكرواتيين للامبراطورية النمسوية خلال الحرب العالمية الأولى الى تكثيف عداوة الصرب لهم. وفي نهاية الحرب تم اعلان مملكة صربيا وكرواتيا وسلوفينيا، وأصبحت البوسنة من الناحية الواقعية اقليماً صربياً. وأدت قوانين الاصلاح الزراعي القاسية الى افلاس المسلمين في البوسنة، كما تم تقسيم الأراضي بصورة تهدف الى جعل المسلمين اقلية في معظم المجتمعات، وفي النهاية تم تقسيم البوسنة في عام 1939 بين الصرب والكرواتيين. وخلال الحرب العالمية الثانية نصّبت دول المحور حكومة فاشية في كرواتيا، وضمت اليها كل اراضي البوسنة. وذبح الكرواتيون حوالي 600 الف صربي في تلك الفترة، كما ان من المعتقد ان الصرب انفسهم ذبحوا مئة الف من المسلمين في تلك الاثناء. وكانت السياسة الرسمية لتلك الدولة الفاشية تعتمد على اضطهاد الصرب بقسوة، وتم تنفيذ تلك السياسة بصورة منتظمة في البوسنة، وفي بعض الاحيان كانت القوات الحكومية تتخفى في الازياء التي كان يلبسها المسلمون ويخاطب كل منهم الآخر باسماء اسلامية. وكان النازيون ايضاً يقضون على اليهود والغجر في معسكرات الاعتقال. وفي مقابل ذلك كان الصرب يعمدون الى قتل مسلمي البوسنة داخل منازلهم، وعلى الجسور، وعلى ضفاف الانهار، وفي بعض الاحيان كان الصربي يقتل جاره المسلم من دون اي سبب على الاطلاق سوى انه مسلم. وابتداء من صيف 1941 بدأ الصرب يسيطرون بصورة متزايدة على حركة المقاومة للاحتلال النازي، كما بدأوا يشنون حملة ارهاب ضد المسلمين في كل انحاء البوسنة. وعلى عكس ما حدث بالنسبة الى جرائم الحرب النازية، لم تحدث اية محاكمات للصرب بسبب جرائم الحرب التي ارتكبوها ضد المسلمين في البوسنة. وعندما ظهرت يوغوسلافيا كدولة شيوعية لم تتم فيها اية محاكمات مثل محاكمات نورمبيرغ لمجرمي الحرب النازيين. ومن المعروف انه عندما لا تأخذ العدالة مجراها لحل القضايا المعلقة، تظل الجراح تنزف وتؤدي الى العنف والانتقام الوحشي والبدائي في دائرة لا نهاية لها من الثأر الدموي. ماذا فعل تيتو بالمسلمين؟ وتم اخفاء تلك الجرائم تماماً في يوغوسلافيا الشيوعية. ولكن وزارة الاعلام في البوسنة اصدرت كتاباً تحت عنوان "الابادة الجماعية لمسلمي البوسنة". كشفت فيه بالوثائق عن المذابح التي حدثت ابان الحرب العالمية الثانية. وهناك تشابه كبير بين ما حدث في تلك الأيام وما تشهده البوسنة اليوم. ويضم الكتاب صورة لهيكل عظمي معلق من حبل وتحتها تعليق يقول: "في مدينة فوكا في كانون الأول ديسمبر 1941 وضع الصرب صانع الساعات موفتيتش في ماء مغلي في مرجل، ثم شنقوه امام مسجد". ويصف تقرير كتبه لطيف موسيفيتش في آذار مارس 1943 عمليات ابادة المسلمين في بوكوفيتشا قائلاً: "كان الرجال يصلبون على الاشجار وتدق اطرافهم بالمسامير عليها. وكان يتم جمع النساء والاطفال وإجبارهم على الدخول الى منازل معينة ثم يتم حرق تلك المنازل وهم بداخلها. وتم اقتياد عدد كبير من الشابات المسلمات الى خارج المدينة، ولا يعلم احد ما حدث لهن بعد ذلك. وتم العثور على جسد حاجي طاهروفيتش وجلد ساقيه مسلوخاً تحت الركبتين، وكذلك جلد ظهره، وجلد صدره". وليست هناك اي علامة تدل على المواقع التي جرت فيها تلك المذابح. ومن المفارقات القاسية ان الكثير من المدن التي شهدت تلك الجرائم مثل فوكا وغورشدا وسيربريكا، هي نفسها المدن التي تشهد جرائم مماثلة اليوم. وأدت الحرب الى تولي الماريشال تيتو الحكم في يوغوسلافيا، وهو صربي من كرواتيا نجح في تعبئة قوات المقاومة من اصول عرقية متعددة. وسعى تيتو الى تهدئة المشاعر القومية المتوترة في بلاده عن طريق انشاء ست جمهوريات منفصلة، كما سعى الى تهدئة مخاوف الصرب عن طريق اعطاء الحكم الذاتي لمنطقتين صربيتين. وكان من الضروري انشاء جمهورية في البوسنة للموازنة بين الصرب والكرواتيين. قامت يوغوسلافيا في عهد تيتو على اساس سياسة توحيد الشعب تحت شعار القومية اليوغوسلافيا. وكان تيتو يعتقد ان البوسنة بتنوعها الكبير، وبقوتها العسكرية والصناعية، ستصبح اساس يوغوسلافيا الجديدة، كما ان مسلمي البوسنة المتسامحين سيتقلدون دور الريادة في هذا السبيل. وشجع تيتو ايضاً مسلمي البوسنة على تقوية اواصر علاقاتهم مع الدول العربية على أمل الحصول على امدادات النفط بأسعار زهيدة. ولكن سياسة يوغوسلافيا تحولت في بداية الستينات الى مفهوم اقل طموحاً يعتمد على وجود قوميات مختلفة تتعايش داخل الدولة الواحدة. وسمح هذا التغيير للمسلمين للمرة الاولى بتسجيل انفسهم كأصل عرقي منفصل. وفي الاحصاء السكاني الذي اجري في 1971 تم تسجيل المسلمين كجنسية منفصلة ومتساوية مع الجنسيات الاخرى في يوغوسلافيا. وفي تعداد 1991 سجل 9،1 مليون شخص انفسهم كمسلمين في البوسنة، اي بنسبة 44 في المئة من اجمالي عدد السكان. وفي مقابل ذلك كان الصرب يشكلون 31 في المئة والكرواتيون 17 في المئة كما ذكرت نسبة 7 في المئة من السكان بأنهم من اليوغوسلافيين. واتسمت المناقشات بشأن هذا التعداد السكاني بالمرارة، وأدعى سكان الصرب انه ليس هناك اي طائل من اعتبار المسلمين قومية منفصلة. كما قال الكرواتيون ان المسلمين هم في الواقع من الكرواتيين. وفي مقدونيا قالت صحيفة الحزب: "ان المسلمين الذين يتحدثون اللغة المقدونية عبارة عن مقدونيين". "الاعلان الاسلامي" وخلال تلك المناقشات بشأن التعداد السكاني كتب احد المتحدثين باسم مسلمي البوسنة وثيقة اصبحت اكثر النصوص اثارة للخلاف في منطقة البلقان، وكان عنوان تلك الوثيقة هو "الاعلان الاسلامي"، اما مؤلفها فهو علي عزت بيكوفيتش الرئيس الحالي للبوسنة والهرسك. وقد اعتبر الحزب الشيوعي، وبعده القيادات الصربية والكرواتية هذه الوثيقة دليلاً على ان المسلمين ينوون اقامة جمهورية اسلامية في البوسنة. وفي 1983 تم تقديم عزت بيكوفيتش الى المحاكمة، وحكم عليه بالسجن لمدة 14 عاماً. وعلى اساس هذا الاعلان يتهم الزعماء الصرب والكرواتيون بيكوفيتش بپ"التطرف الاسلامي". ويدعو هذا الاعلان اساساً الى التوفيق بين التقاليد الاسلامية والتقدم، ويقول انه لا يمكن اتباع مزايا الحضارة الغربية في حد ذاتها من دون الدعم الروحي الكامن في تقاليد المجتمعات غير الغربية. وتستمر الوثيقة قائلة: "ان هناك اصلاحات تعكس حكمة الامة، كما ان هناك اجراءات اخرى تنطوي على خيانة الامة. واليابانوتركيا عبارة عن مثالين نمطيين لذلك في التاريخ المعاصر. لقد حاولت اليابان الجمع بين التقاليد والتقدم، وذلك حتى تعيش حياتها الخاصة لا حياة غريبة عنها. وفي مقابل ذلك اختار دعاة الحداثة في تركيا سبيلاً معاكساً. واليوم لم تعد هناك امية في اليابان، اما في تركيا، وبعد انقضاء 40 عاماً على الكتابة بالحروف اللاتينية، لا يزال اكثر من نصف السكان من الاميين. ان تركيا فقدت ذاكرتها، وماضيها". وتحدث بيكوفيتش ايضاً عن الهوة الواسعة التي تفصل بين المثقفين والجماهير في الدول الاسلامية. وعلى رغم انه يدعو الى نظام اسلامي جديد، فانه يؤكد التزام هذا النظام بحرية الضمير وحقوق الانسان. ولا يشير "الاعلان الاسلامي" الى البوسنة على الاطلاق، كما قال بيكوفيتش انه "لا يمكن تحقيق هذا النظام الاسلامي الا في الدول التي يمثل المسلمون اغلبية السكان فيها". والنقطة الاساسية التي يشير اليها بيكوفيتش هي ان التحديث لا يمكن ان ينجح في العالم الاسلامي الا اذا كانت جذوره ممتدة داخل الاسلام نفسه. ومن المهم ان نلاحظ هنا ان بيكوفيتش كان يدعو باستمرار الى اقامة دولة متعددة القوميات في البوسنة، يتم فيها كفالة وحماية حقوق طوائف السكان الثلاث. ويتميز بيكوفيتش بالتدين الشديد، وهو رجل يتسم بالانسانية والتحرر، ولكنه لا يشتهر ببراعته السياسية في البوسنة. وعندما بدأت يوغوسلافيا في التفسخ في 1991، اجتمع عاملان على دفع البوسنة للعودة الى ماضيها الدموي. فعندما بدأت سيطرة الحزب الشيوعي تتلاشى في البوسنة، ظهرت ثلاثة احزاب وطنية اخرى حلت محل الحزب الشيوعي، وهي الحزب الديموقراطي الصربي بزعامة رادوفان كاراديتش والحزب الاسلامي للعمل الديموقراطي بزعامة علي عزت بيكوفيتش والحزب الديموقراطي الكرواتي بزعامة استيبان كليووش. وتشكلت اول حكومة ديموقراطية في البوسنة من تآلف بين الاحزاب الثلاثة، وكانت تهدف الى العمل على عدم تدهور العلاقات المتوترة بالفعل بين الطوائف الثلاث في البوسنة. الاستقلال... والحرب كان الصرب اول من رفض وحدة اراضي البوسنة عن طريق اقامة منطقتين تتمتعان بالحكم الذاتي في كرايينا وشرق البوسنة. وفي 17 آذار مارس 1991 اجتمع الرئيس الكرواتي تودجمان والرئيس الصربي ميلوسيفيتش لعقد اتفاق على تقسيم البوسنة بينهما، مع "ترك مجرد جزء بسيط من البوسنة للمسلمين" على حد تعبير تودجمان. وبدأت في بلغراد وزغرب حملة كراهية قاسية في كل وسائل الاعلام لإذكاء نيران العداوات القومية القديمة وإشاعة الخوف على نطاق واسع. وعندما اعترفت المجموعة الأوروبية في وقت مبكر بكرواتيا وسلوفينيا، قبل كفالة حقوق الأقليات الصربية فيهما، أجبر ذلك البوسنة على اجراء استفتاء على الاستقلال في شباط فبراير 1992، لأنه لم يعد في مقدورها البقاء تحت سيطرة الصرب في يوغوسلافيا القديمة. وصوت المسلمون والكرواتيون في البوسنة لصالح الاستقلال، بينما قاطع الصرب ذلك الاستفتاء. وهكذا صوتت نسبة 67 في المئة من السكان لصالح الاستقلال، ولكن مقاطعة الصرب أدت من الناحية الواقعية الى إسقاط حكومة الائتلاف. وألقى رادوفان كاراديتش زعيم الصرب من سكان البوسنة خطاباً أمام البرلمان قال فيه: "إنكم تقودون البوسنة الى الجحيم مباشرة، وربما تقودون الأمة الاسلامية فيها الى الاختفاء، لأن المسلمين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم في حالة وقوع حرب هنا". وفي 6 نيسان ابريل فتح القناصة الصربيون النيران من الطابق الثالث في فندق الهوليداي إن وسط ساراييفو على جمهور المتظاهرين للمطالبة باستقلال البوسنة... وبدأت الحرب. وعلى رغم الحرب لا يزال الناس يترددون بكثرة على المساجد في البوسنة. وأدى احتمال الموت الفوري الى تقريب سكان ساراييفو ومدن البوسنة الأخرى من الدين. ويتدافع الآن الى المساجد الآلاف من سكان البوسنة، على رغم ان تلك المساجد تعرضت لدمار كبير بنيران المدفعية الصربية. وتمتلىء تلك المساجد تماماً عند أداء صلاة الجمعة. ويرى أنيس كاريتش استاذ الدراسات الاسلامية في جامعة ساراييفو، الذي ترجم في الآونة الأخيرة القرآن الكريم من العربية الى البوسنية "ان مسلمي البوسنة سفراء للاسلام في أوروبا، كما أنهم أوروبيون يقع على كاهلهم دور تفسير أوروبا للعالم الاسلامي". التأثير الأساسي للاسلام في البوسنة يتمثل في القيم. وانتشرت في مجتمع البوسنة الصفات الحميدة التي يدعو اليها الاسلام، ومنها الكرم وحب الضيافة والاهتمام بالآخرين، والأمانة، والنظافة. وربما يساعد فهمنا لذلك في تفسير العقلية التي تسود بين سكان البوسنة، حيث لا يعتبرون خلافاتهم مع جيرانهم تهديداً لهم، وإنما حقيقة من حقائق الحياة لا بد أن يتركها المرء وشأنها. موجة جديدة من اللاجئين ولا يبدو أن الخلافات السائدة في العالم الاسلامي تنعكس في البوسنة. وربما يكون ذلك راجعاً الى حد كبير الى حساسية سكان البوسنة إزاء حملة الدعاية الصربية التي تصورهم كطليعة من طلائع الجهاد الذي يهدف الى نشر "التطرف الاسلامي" في قلب أوروبا. ويقول محمد ساكربي سفير البوسنة في الأممالمتحدة: "نحن لا نرغب في حرب دينية. ونحن لا نخجل من مناشدة أي طرف تقديم المساعدة إلينا. إن الأمر يتعلق في المرحلة الحالية بالمحافظة على بقائنا". ومع ذلك يضيف السفير البوسني قائلاً إن البوسنة لا ترغب في استقبال متطوعين مسلمين أجانب. وربما يفسر ذلك السبب الذي جعل سلطات البوسنة تخصص 500 من المجاهدين الأفغان الذين وصلوا اليها، بتسليح سيىء وتنظيم ضعيف، لحماية قمة جبل مجهول ليس له أية أهمية استراتيجية. بعض الدول العربية قدم المساعدات بسخاء الى البوسنة. والمملكة العربية السعودية وحدها قدمت الى البوسنة أكثر من 80 مليون دولار خلال العام الماضي، الى جانب أطنان المواد الغذائية والطبية. وعبر عدد كبير من أهالي ساراييفو عن اعتقاده بأن المعونات والمساعدات الخارجية تتعرض للسرقة عند نقاط المراقبة الصربية أو الكرواتية على الطرق التي يتعين المرور من خلالها للوصول الى ساراييفو، أو أن تلك المعونات وزعت في مناطق من البوسنة يسهل الوصول اليها بالمقارنة الى ساراييفو. وفي شهر كانون الأول ديسمبر الماضي فتشت سلطات مطار زغرب طائرة تحمل مساعدات انسانية من ايران الى البوسنة، ووجدت على متنها كمية صغيرة من الأسلحة. وعلى رغم ذلك فليس هناك أي دليل على أن ايران قدمت معونات كبيرة، أو ان لها أي نفوذ هنا. وقد حدث صدام بيني وبين مجموعة من المسلمين المتعاطفين مع إيران. فقد دعاني إمام المسجد الكبير في ساراييفو الى تصوير المسجد والمصلين بعد خروجهم منه، إلا أن مجموعة من خمسة أو ستة شبان منعوني من التصوير على رغم احتجاجات الإمام وعدد كبير من المصلين. وقال هؤلاء الشبان لمندوب "الوسط" إنهم "لا يرحبون إلا بالصحافيين الايرانيين في هذا المسجد، ثم دفعوني بالقوة الى الخارج. وفي الشارع استل شخص آخر سكيناً طويلة ووضعها على عنقي، وطلب مني تسليم شريط الفيديو الذي صورته. وعند ذلك وصل رجال الشرطة وطلبوا من ذلك الشخص عدم التعرض للصحافيين الأجانب. وفي مرحلة لاحقة شرح الأشخاص الذين يعرفون ذلك المسجد جيداً ان عدداً كبيراً من المسلمين اللاجئين من مناطق أخرى انتقلوا الى ساراييفو، وأنهم يشعرون بالشك نحو الأجانب، ولكنهم غير خاضعين بكل تأكيد لنفوذ إيران. وقالوا أيضاً ان هؤلاء اللاجئين ضحايا عملية التطهير العرقي. قال لي كمال كورسباهيتش رئيس التحرير المسلم للصحيفة اليومية التي لا تزال تصدر في ساراييفو، على رغم الحرب، واسمها "اوسلوبودينجيه" "انهم يرغبون في اسكاتنا لأننا نمثل الفكرة الأساسية التي يرغبون في قتلها، وهي ان يعيش ويعمل سوياً الناس الذين هم من أصول عرقية ودينية وثقافية مختلفة. انهم يرغبون في تقسيم البلاد على أساس عرقي، ولكن لدينا هنا في الصحيفة صورة تكاد تكون كاملة يعمل من خلالها المسلمون والصرب والكرواتيون سوياً. وهكذا يرغب الصرب في تدمير هذا المبنى وقتلنا، وعلاوة على ذلك يرغبون أساساً في قتل فكرة ان بإمكان الناس من أصول مختلفة العيش سوياً". وبينما ينظر الصرب في البوسنة الى بلغراد، والكرواتيون في البوسنة الى زغرب، بحثاً عن التأييد والمعونة، يشعر المسلمون في البوسنة بخيبة الأمل، وعدم التأكد من الجهة التي يمكن أن تقدم لهم الدعم والمعونة. وهناك صحيفة اسبوعية اسمها "صوت الاسلام" استمرت في الصدور من دون انقطاع طوال فترة الحرب، ويعبر رئيس تحرير تلك الصحيفة عن خيبة أمله من مستوى الدعم الدولي لمسلمي البوسنة قائلاً: "إن العالم الاسلامي يمثل وهماً كبيراً بالنسبة الى المسلمين هنا. إن العالم الاسلامي غير موجود كوحدة متجانسة. ونحن على ثقة الآن من أن أوروبا عبارة عن وهم كبير أيضاً. إن مسلمي البوسنة هم من الأوروبيين، ولكن أوروبا تتصرف مثل المرأة الساقطة التي لا تريد الاعتراف بطفلها. إن البلقان تمثل بالنسبة الى أوروبا متحفاً تاريخياً للمشاكل". وتعبر الكاتبة الكرواتية سلافينكا دراكوليتش عن عواطف مشابهة في كتابها الجديد "قطار البلقان السريع"، الذي تقول فيه: "لقد تحطمت اسطورة أوروبا، وأسطورة انتمائنا الى الأسرة والثقافة الأوروبية، حتى باعتبارنا من أعضاء المستويات الدنيا. لقد خلفونا وحدنا بالاستقلال الذي حصلنا عليه حديثاً، وبدولتنا الجديدة، وبرموزنا الجديدة، وبزعمائنا المستبدين. لقد تركونا واقفين على أرض منزلقة بالدماء، وتكتنفنا الحرب التي ستستمر الى أمد لا يعلمه إلا الله". وتضيف سلافينكا دراكوليتش إن الجانب غير الظاهر من الحرب يتمثل في أنها تؤدي الى تغيير نفسية الناس. وهي تقول إن الرسالة التي تلقاها سكان يوغوسلافيا سابقاً تخبرهم بأنهم ليسوا من الأوروبيين، وليسوا حتى من سكان أوروبا الشرقية، وانما هم من سكان البلقان، الذين عفا عليهم الزمن، وهم طائفة خطرة تفتقر الى التنظيم. وتقول لهم هذه الرسالة ببساطة: "اقتلوا أنفسكم، إذا كان ذلك ما ترغبون فيه". ويقول الصحافي جيم هوغلاند من "الواشنطن بوست" معلقاً على تلك الكلمات التي كتبتها سلافينكا دراكوليتش قائلاً: "لقد تخلت أسرة الدول الأوروبية عن دولة عضو في تلك الأسرة في غابة مليئة بالذئاب. ونظر الأميركيون الى ذلك برعب شديد. وكانت هناك أسباب قوية لذلك بالطبع. ولكن الأميركيين ينظرون دائماً برعب شديد عندما يقاسي الآخرون، ويكتفون بذلك. ولا يتخيل الأميركيون أن معاناة الآخرين يمكن أن تؤدي الى تغيير الأميركيين أنفسهم ببطء من الداخل". وحتى إذا تم تنفيذ خطة فانس - أوين، فليس هناك في ساراييفو من يعتقد بجدية أنها ستؤدي الى السلم في البوسنة. وستفشل هذه الخطة في النهاية، لأنها حل مفروض من الخارج، ولأنها لا تعتمد على تقليد مسلمي البوسنة في التعايش. ومع ذلك ربما تكون وحشية الحرب التي دارت خلال العام الحالي في البوسنة دمرت النسيج الدقيق للثقافة الاسلامية في أوروبا وقضت على عادات وتقاليد يعود تاريخها الى قرن ونصف قرن من الزمان. إن مسلمي البوسنة يفرون من مجتمعاتهم الريفية التي "تم تطهيرها عرقياً"، وسينتشرون في أوروبا كموجة جديدة من اللاجئين. وربما تعود ساراييفو نفسها الى الظهور من الرماد ولكنها ستعاني الى الأبد من الجراح التي خلفتها الحرب في العام الحالي. وربما تصبح ساراييفو آخر ملجأ لسكان البوسنة الذين يؤمنون بمبدأ المجتمع المتناسق والمتعدد الأجناس. ويقول زدرافكو غريبو أستاذ القانون في جامعة ساراييفو بمرارة ان "الصرب والكروات مصممون على جعل ساراييفو آخر مكان يقيم فيه المسلمون في وسط البوسنة، حتى يفد عليها السائحون الغربيون في المستقبل".