لعله لم يعد سراً، مع كثافة التحركات الاميركية والمصرية - وربما الاردنية - في الفترة الأخيرة، بين اطراف الصراع في التفاوض الثنائي، ان البحث في اشكال التسوية المطروحة ومضامينها اصبح يجري على مستويين، وذلك منذ بداية العام 1993، وفق تقدير مصدر متابع لحركة الأحداث عن قرب. أو منذ نيسان ابريل 1993 طبقاً لرؤية مصدر آخر. المستوى الاول من التعامل، هو المستوى الظاهر للعيان. ويتحدد في ما بات يعرف بجولات المفاوضات الثنائية في واشنطن، والتي بلغت - حتى كتابة هذه السطور - عشر جولات. اما المستوى الثاني، فهو غير المرئي، والذي تجري من خلاله مفاوضات في العمق. وذلك في مكان ما عند بعض المصادر ثلاثة أمكنة بعيد ومحصن ضد الاعلام، حيث تتجاوز الاطراف، الشكليات والتصريحات السياسية المعلنة لكل طرف، الى ما يمكن ان يسمى النقاط الحرجة او المحرمات، مثل القدس والمستوطنات وحق العودة. ويبدو انه لم يكن ممكناً ارتقاء المفاوضات - اذا صح التعبير - الى المستوى الثاني، من دون المرور بمشاق المستوى الاول وصعوباته لفترة من الوقت، واختبار كل طرف لمصداقية الاطراف الأخرى وجديتها في السعي نحو تسوية سياسية سلمية يمكن تجربة التعايش في ظلها على امتداد المستقبل المنظور لخمسة وعشرين عاماً قادمة، وأيضاً التحول الوظيفي للعامل الاميركي، من مجرد "راع" الى ما صار يعرف بپ"الشريك الكامل". وذلك على غرار ما حدث في المفاوضات الاسرائيلية - المصرية في اواخر السبعينات، وانتقال الولاياتالمتحدة كراع، من مرحلة كامب ديفيد العلنية، الى وضع الشريك الكامل في مرحلة مفاوضات "بلير هاوس" المغلقة الابواب والتي انتهت بتوقيع ما اطلق عليه معاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية. قد لا تكون دقيقة المقارنة بين ما حدث في المفاوضات المصرية - الاسرائيلية بمراحلها المختلفة وما يحدث اليوم في المفاوضات الثنائية الاسرائيلية - الفلسطينية - السورية - الاردنية - اللبنانية، بمستوييها الحاليين الظاهر وغير المرئي. غير ان المراقب يلحظ اوجه تقارب، او بالاصح توجهات مشتركة من كل الاطراف والولاياتالمتحدة، شبيهة بما حدث في السبعينات بين مصر واسرائيل واميركا. على سبيل المثال، ذلك التكنيك الذي اتبعته كل من مصر واسرائيل واميركا بالاعلان المتكرر عن وجود عقبات وإثارة عراقيل، باشكال غائمة واحياناً غير محددة تماماً، من الصعب على المفاوضات تخطيها، وأن هذه المفاوضات على وشك التوقف والانهيار، غير ان الجانب الاميركي مصمم على التدخل لانقاذ الموقف، بعدما قرر ان ينتقل من موقع الراعي الى موقع الشريك الكامل. وتستأنف المفاوضات العلنية بين الطرفين المصري والاسرائيلي في جولة وجولات جديدة بعد انقطاع ملتهب بالتصريحات المتبادلة المزمجرة. ويكتشف بعد ذلك ان مفاوضات غير علنية يشارك فيها الاميركان بدور فاعل لم يحدث لها ان انقطعت. وانما واصلت بهدوء وبعيداً عن كل ضجيج اعلامي، نسج خيوط التسوية التي جاء الاعلان عنها في النهاية، كأنها مفاجأة غير متوقعة اعتبرها كل طرف انتصاراً خاصاً به، وفقاً لميزانه في حساب الارباح والخسائر. نلمح التكنيك نفسه يتكرر بصورة او بأخرى، في المفاوضات الثنائية الحالية بين كل من اسرائيل والاردنوفلسطين وسورية ولبنان: تتلبد الاجواء بالتصريحات والاتهامات المتبادلة عن التعقيدات والعقبات والعراقيل، وأنه لا جدوى من استمرار المفاوضات الثنائية التي تكاد تصل الى طريق مسدود. واذا بمصادر وثيقة الاتصال تفاجئنا بأن مفاوضات موازية خارج دائرة الاضواء الاعلامية، تتواصل من دون انقطاع بين الاطراف، لا يجري فيها الحديث عن العقبات والعراقيل والتعقيدات مجردة من اسلوب الاتهامات المتبادلة، وانما تناقش بعمق ابعادها واسبابها. وذلك بهدف استيعابها، وايجاد حلول واقعية لها، لا تضع كل طرف بشأنها، في موقف حرج مع جماعته او شعبه، قدر المستطاع. من هنا جاء سلوك المستوى الثاني غير المرئي من التفاوض. لكن هذا المستوى لم يكن ليتوافر اذا ظل هناك - مثلاً - الفيتو الاسرائيلي على التفاوض المباشر مع منظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وبالتالي فان "مفاوضات المكان البعيد عن الاضواء" تجري بين ممثلين مفوضين من الحكومة الاسرائيلية وممثلين مفوضين من منظمة التحرير الفلسطينية، رأساً برأس. واذا كان الامر كذلك، فان كلاً من الحكومة الاسرائيلية ومنظمة التحرير ملتزمة ازاء شعبها مواثيق وعهوداً ومواقف محددة. وهذه المواثيق والعهود والمواقف تتصادم بعضها مع بعض صداماً حاداً، حول عدد من القضايا. وهذا الصدام، هو الذي يحول - في العمق - دون الوصول التسوية السياسية. وبالتالي ليس من المستطاع القفز او تجاهل هذه البؤر الصدامية او تأجيل او تجميد التعامل معها. على سبيل المثال - مرة أخرى - قضية مصير القدس. بؤر الصدام هنا، بين قانون والتزام اسرائيليين ان القدس هي العاصمة الابدية لاسرائيل، وبين ميثاق والتزام فلسطينيين ان القدسالشرقية هي عاصمة فلسطين. وتشملها - في الضرورة - عملية الجلاء الاسرائيلية عن الاراضي التي احتلت عام 1967 طبقاً لقرار مجلس الامن الرقم 242. هناك - ايضاً - قضية الجلاء عن مرتفعات الجولان السورية. بؤرة الصدام هنا، بين قانون والتزام اسرائيليين ان الجولان بات ارضاً تقع تحت السيادة الاسرائيلية الكاملة وليس مجرد ارض محتلة، وان كان الموقف الاسرائيلي قد عدل - في ظل حكومة العمال الحالية بزعامة اسحق رابين - ان السيادة الاسرائيلية لا تشمل كل الجولان بمعنى يمكن الاحتفاظ بجزء والجلاء عن جزء آخر، وبين دستور والتزام سوريين ان الجولان كاملاً جزء لا يتجزأ من الجمهورية العربية السورية. وليس هناك من سبيل الى التنازل عن شبر منه والا عُدّ ذلك خيانة عظمى للوطن. هناك - كذلك - قضية الشريط الحدودي الذي تحتله اسرائيل في جنوبلبنان. بؤرة الصدام هنا، بين استراتيجية امنية والتزام سياسي اسرائيليين ان هذا الشريط يمثل منطقة دفاعية ضرورية للأمن الاسرائيلي خارج الحدود، ضد ما تسميه اسرائيل هجمات المخربين فصائل المقاومة الفلسطينية المتعددة واللبنانية وحزب الله المشايع لايران التي تنطلق من مناطق لبنانية لا سيادة للحكومة اللبنانية عليها، وأنه اذا بسطت الحكومة اللبنانية سيطرتها على هذه المناطق وعقدت اتفاقية سلام شاملة مع اسرائيل حدث الجلاء عن الشريط الحدودي… وبين ارادة الشعب اللبناني والتزام حكومته تحرير الشريط المحتل اولاً وقبل كل شيء. ثم يجري التفاوض على تسوية سياسية سلمية مع اسرائيل ضمن التسوية الشاملة للصراع العربي - الاسرائيلي. وهكذا فان المفاوضات الحقيقية او مفاوضات اللحم والعظم - اذا صح التعبير - هي تلك المستمرة بلا انقطاع على المستوى غير المرئي بين كل الاطراف، منذ بداية العام في قول، او منذ شهر نيسان ابريل من هذا العام، في قول آخر. وقد ساعد على شق هذا المستوى غير المرئي، في تقديري، ان ادارة الرئيس كلينتون انتهت الى الاقتناع بأمرين: الاول: هو ان المصلحة الاميركية الوطنية البحتة كما أوضحتها ادارة الرئيس بوش السابقة هي في ضرورة الوصول الى تسوية سلمية تحمل مقومات الثبات والاستقرار في الربع القرن القادم على الاقل، للصراع العربي - الاسرائيلي، وأن هذا يستلزم في الضرورة ابتلاع ادارة كلينتون بعض مواقفها الشديدة الانحياز الى اسرائيل خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة. اما الامر الثاني: فهو ان صياغة مؤتمر مدريد، وان كانت "نقطة انطلاق صحيحة" لمفاوضات التسوية، وما زالت تمثل اطاراً عاماً من الخطر انهياره، الا ان هذه الصياغة - في حساب ادارة كلينتون - لم تعد وحدها كافية لاستمرار قوة الدفع نحو التسوية، خصوصاً بعدما خف كثيراً وزن روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي، كراعية مشاركة للمؤتمر - وبالتالي انتقال عبء الرعاية كاملاً الى الولاياتالمتحدة الاميركية بمفردها. واذا كان الامر كذلك، فلا مفر من ان تمارس واشنطن هذا العبء بنوع جديد من الآلية. وحسب تحليلنا للمعلومات التي توافرت لدينا، فان البيت الابيض وافق على الآلية التي اقترحها وزير خارجيته وارن كريستوفر الذي كان شارك خلال عهد الرئيس كارتر في بلورة اتفاق كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية. وهي آلية تمزج بين الدور الاميركي "الراعي" للمفاوضات طبقاً لصياغة مدريد والدور الاميركي "كشريك كامل" في المفاوضات على الطريقة الديبلوماسية التي اتبعتها بنجاح ادارة كارتر في السبعينات. ولعل هذا ما يفسر استدعاء دنيس روس احد ابناء مدرسة بوش - بيكر ومهندس صياغة مؤتمر مدريد، للعمل كأركان حرب لقوة العمل الاميركية برئاسة وارن كريستوفر. وفي تقديرنا ايضاً ان من العوامل المساعدة على فتح قناة او قنوات المستوى الثاني من المفاوضات، الدور المصري الذي بات مقبولاً ومطلوباً بالحاح عربياً، وبالذات فلسطينياً وسورياً، واميركياً وأوروبياً، وكذلك اسرائيلياً الى حد ليس بالقليل. يضاف الى ذلك رفع الحظر او الحصار السياسي على دور الاردن في التسوية، والذي كان فرض على حركة عمان خلال ازمة الخليج وحربها الثانية وبعدهما، وايضاً الدعم العلني والمباشر للتسوية السياسية من السعودية وبلدان الخليج العربية. واخيراً، تصاعد المد في اسرائيل لمصلحة التسوية والتعامل المباشر مع منظمة التحرير الفلسطينية، سواء داخل الائتلاف الحاكم في اسرائيل من حول حزب العمل بزعامة رابين، او في قطاعات متزايدة، وبخاصة في مجال المؤسسة العسكرية باحتياطيها، على المستوى الشعبي. والذي يثير الانتباه، في مفاوضات المستوى غير المرئي في المكان البعيد، هو كسر حاجز الاتصالات بين الحكومة الاسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية. والتركيز العربي والدولي، والاسرائيلي ايضاً، على ان مفتاح التسوية العربية - الاسرائيلية الشاملة، لا يزال على رغم كل شيء، هو المفتاح الفلسطيني. ولعل هذا ما يفسر ان اكثر المفاوضات حركة ونشاطاً في اطار المستوى غير المرئي، هي المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية التي يبدو مرجحاً انها تتجه نحو التوقيع على اعلان مبادئ للتسوية قبل نهاية عام 1993، وربما في غضون شهر ايلول سبتمبر المقبل. وحسب ما رشح من معلومات - حتى كتابة هذه السطور - فان اعلان المبادئ يتعرض بصراحة لوضع القدس، سواء من حيث "مشاركة" شعبها الفلسطيني في كل اجراءات تنفيذ التسوية على الارض، وليس مجرد "التصويت" كسكان مقيمين. وكذلك من حيث ان القدسالشرقية هي جزء لا يتجزأ من الولاية الجغرافية الفلسطينية التي تعترف التسوية بحدودها كما كانت قبل 5 حزيران يونيو 1967. اما علاقة الوحدة بين القدسالشرقية والغربية من جانب وعلاقة القدس الموحدة بين اسرائيل وفلسطين فانها تظل مطروحة للنقاش في كل الصياغات المقترحة خلال المفاوضات المقبلة. ويؤكد اعلان المبادئ، اذا صحت معلومات المصادر، قيام السلطة الفلسطينية السياسية المستقلة في اطار الولاية الجغرافية التي تدخل في اتحاد كونفيديرالي مع الاردن. واذا تم اعلان مبادئ التسوية الفلسطينية - الاسرائيلية، فان ذلك من شأنه ان يعطي الضوء الاخضر لبلورة اعلانات مماثلة سورية - اسرائيلية ولبنانية - اسرائيلية. اما الاعلان الاردني - الاسرائيلي، فبات جاهزاً للتوقيع غير انه ينتظر الاعلان الفلسطيني - الاسرائيلي. تبقى نقطة، وهي احتمال تفجرات عسكرية او فدائية، هنا او هناك في منطقة الصراع. اغلب الظن ان هذا الاحتمال وارد ومتوقع في حسابات مفاوضات المكان البعيد غير المرئية. بل هذا الاحتمال هو احد الدوافع الرئيسية لترتيب مثل هذه المفاوضات التي تعتبر نفسها في سباق معه على الوقت والفعل معاً. * كاتب وسياسي مصري