الاشتراكية أفسدت الفن والفرق بين الشيوعية والرأسمالية كالفرق بين المستشفى والمنزل في لبنان تفوق الفن الجماعي وفي مصر تفوق الفن الفردي كل سنة تمرّ من عمري هي بمثابة طابق جديد في عمارة ايامي محمد عبدالوهاب بقلم محمد عبدالوهاب. هكذا يمكن اختصار مضمون الاوراق الخاصة للفنان الراحل محمد عبدالوهاب التي تنشرها "الوسط" على حلقات. هذه الاوراق لم تنشر من قبل اذ لم يكن عبدالوهاب راغباً في ان يطلع عليها احد طوال حياته، وهي بخط يده. وقد اوصى عبدالوهاب زوجته السيدة نهلة القدسي بتسليم هذه الاوراق الى الكاتب والشاعر المصري المعروف فاروق جويدة الذي امضى اشهراً طويلة في قراءتها وجمعها وترتيبها واعدادها للنشر. وتكتسب هذه الاوراق اهمية خاصة اذ انها تكشف جوانب حميمة وغير معروفة من حياة عبدالوهاب كما تكشف آراءه في الناس والمشاهير والحياة ومصر والعالم العربي والفن والمرأة والحب وأمور اخرى ستفاجئ الكثيرين من محبي فنه. "الوسط" اتفقت مع الكاتب فاروق جويدة على نشر جزء كبير من هذه الاوراق على حلقات. وفي ما يأتي الحلقة الثامنة: لو امكن للأب ان يختار اولاده قبل ولادتهم فلا شك انه يتصور ان في ذلك راحة له. ولسوف يختار من وجهة نظره الابن المثالي خلقاً وسلوكاً وشخصية ويختار الشكل الذي يريده له، الى آخره... والاب يعتبر الابن امتداداً له ويهمه ان يكون هذا الامتداد مثالياً في كل شيء. وسيختار لابنه ما يتصوره من محاسن فيه ويبعد عنه ما فيه من عيوب، ولكن هل في هذا مثالية للحياة وهل هذه حكمة الدنيا؟ ابداً، ان الله سبحانه وتعالى له حكمة في الاختلاف، الذي خلق عليه الانسان، وهذا التباين بين الناس والامم له حكمته، فالحياة لا تستقيم ولا تحقق حكمة وجودها الا في هذا الاختلاف.، واذا استطاع الانسان ان يختار ابنه او اولاده قبل خروجهم الى الحياة لأصبحت الحياة متشابهة رتيبة لا معنى لها فلا صراع بين خير وشر. حياة لا طعم لها. ولن يكون هناك امتحان بين الانسان والشيطان، للجزاء بالجنة والعقاب بالنار وهي حكمة الدنيا، حكمة الأرض، حكمة الله. الاشتراكية أفسدت الفن منذ ان اصبحت السياسة جماهيرية وظهرت كلمة اشتراكية فسد الفن، ففي السابق كان الذي يعاون الفن الملوك والامراء والصفوة، اي من عندهم حسن استماع. وكان يوجد فن رفيع. فالاغلبية والجماهيرية لا تدفع فناً الى الرقي والقرآن الكريم جرح الاكثرية فما من آية تشير الى الاغلبية الا وكان اكثر الناس لا يفقهون ولا يبصرون لا يعلمون. اين المستمع المتأمل الواعي من العامل والسباك والنجار وما شابه ذلك حتى اكرة الباب كان فيها فن. والفرق بين الشيوعية والرأسمالية كالفرق بين المستشفى والمنزل. فربما كانت المستشفى ادق نظاماً واكثر راحة، وأكلها اكثر فائدة للصحة، والنوم مبكراً والاستيقاظ مبكراً. كل هذا لا شك في انه يفيد ومع ذلك فالمنزل هو المكان الطبيعي للانسان وطبيعة الانسان التي خلقه الله عليها، هذه الطبيعة الذي انزل الله لها الاديان ليحررها من العبودية حتى لو كانت هذه العبودية اكثر فائدة. تساؤلات تشغلني حول الموسيقى العربية الاغنية الفردية "جزء" من "كل" و"الكل" هو المسرح الغنائي، او الاوبريت والاوبرا. والاغنية الفردية مجالها الحفلات والافراح وليالي الانس، فلا يمكن الا ان تكون في حب. ونوع محدود من الحب... الهجر او السعادة او حول هذه الموضوعات فقط. حتى الألوان الاخرى في الحب كالغضب مثلاً لا يمكن ان يغنيها مطرب في حفلة. اما المسرح الغنائي او الاوبريت والاوبرا فانها تحتوي على كل شيء خاص بالفن الغنائي والموسيقى. فهي تحتوي على الاغنية الفردية والدويتو والحوار بين المطربين والكورال رجالاً ونساء، والموسيقى الراقصة والرقص ذاته، والألوان المختلفة من الغناء اغنية في الحب بكل الوانه من هجر وسعادة وغضب. اغنية من عامل في مصنعه. اغنية من طائفة معينة. اغنية وطنية، اغنية اجتماعية. وفوق ذلك كله تجد فيها القصة المعبرة حيث المضمون، والحدوتة، والاسلوب انها تحوي كل شيء انها "الكل". اما الاغنية الفردية فهي تبدو امامي امرأة جميلة لا يظهر منها سوى عينيها، او فمها او شعرها. في هذه الحالة يمكن ان استمتع بما ظهر لي منها، ولكن اين هي ككل؟ ان الاستمتاع بالنظر الى المرأة كلها بكل مفاتنها ومظاهر الجمال فيها هو المسرح الغنائي او الاوبريت او الاوبرا. اما الاغنية الفردية فهي مجرد جزء من مفاتن امرأة جميلة نسميها الفن. ومن أسباب عدم وجود الغناء الجماعي والرقص الجماعي في مصر هو عدم اختلاط الجنسين من زمن سحيق، بعكس لبنان مثلاً. ان الاختلاط عند اللبنانيين من طبيعة الحياة الاجتماعية منذ زمان بعيد، ولهذا كان الغناء الجماعي، والرقص الجماعي. فلا يكفي الشباب ان يجلسوا مع الفتيات يتحدثون معاً، بل ينهضون جميعاً وتتشابك الايدي في حلقة منسقة وتتحرك ارجلهم وتنقر الارض بنقر له ايقاع موسيقي علمي بسيط يمكن لأي شخص ان يؤديه بمجرد سماعه ومشاهدته، وما دام وجد ايقاعاً موسيقياً لهذه الخطوات وهذا النقر، فلا بد وان يكون هناك غناء لضمان الانضباط، ولا بد للغناء من رقصة جماعية تصاحب الموسيقى لتتم الوحدة الفنية. يضاف الى ان الغناء والموسيقى ذات الطابع الايقاعي يساعدن الاجسام والايدي والارجل ان تعبر تعبيراً رشيقاً لا يتأتى لها من دون غناء او موسيقى. وهكذا نبع الغناء الجماعي والرقص الجماعي من واقع حياتهم. ولهذا اصبح لهم غناء جماعي يمكنهم من ان يغنوه حتى من دون ان يرقصوا. وأصبح لهم رصيد كبير من الغناء الجماعي الذي يجري على الرقصات الجماعية، وأصبح لهم رقص جماعي بحكم الاختلاط. اما نحن في مصر فقد عوضنا هذا بالتفوق الفردي سواء كان ذلك في الغناء او الرقص. وكثيراً ما اتساءل: هل الربع مقام في موسيقانا موضع لاعتزازنا بأنه يوجد عندنا شيء ليس موجوداً في الموسيقى الاوروبية ام انه عقبة في طريق تطورنا الموسيقي؟ ان الهارموني لم يستطع حتى الآن تغطية جميع النغمات العربية، فالموسيقى العربية تتقابل مع الموسيقى الغربية في نغمات كثيرة كالنهوند والحجاز، وتختلف في بعض المقامات الاخرى في انغام الموسيقى الأوروبية كالبياتي والراست والصبا والسيكاه والحجاز. فنحن نتقابل مع الغرب في بعض مقامات من هذه الانغام، ثم نفاجأ بمقامات في النغمة نفسها فيها ربع مقام ومن غير المعقول ان نضع هارموني لبعض مقامات من النغمة ثم يتوقف الهارموني عند المقام الذي فيه الربع مقام، فنصبح امام اسلوبين مختلفين. اذاً ماذا نفعل؟ ان الهارموني علم رياضي يقوم على اسس السلامة والتوافق السليم، ولا يمكن لسليم ان يتفق مع غير سليم. ماذا نفعل؟ هل نضع هارموني بصرف النظر عن الناحية الرياضية العلمية والجمالية ايضاً، ونترك الاستساغة "للالحاح"، لأن نصف الاستساغة تقوم على "الاعتياد". فهل نترك هذا للاعتياد؟ ام نلغي الربع مقام من موسيقانا الرسمية ونحرم انفسنا وموسيقانا من جمال حسي، ونحرم انفسنا من القافلة "الحراقة" التي ستختفي بدخول الهارموني اختفاء خفيفاً لانه لا يمكن وضع هارموني للقافلة التي تخضع لنبرات واحساس وكفاءة كل مطرب على حدة. فهل نقدم على هذا وفي سبيل اكتسابنا لشيء نترك شيئاً، وتصبح المقامات التي فيها ربع مقام موسيقي محلية موروثة من تاريخ سحيق وتصبح كالبطل "الشعبي". لا ادري انها مشكلة، ومشكلة جديرة بالبحث والحوار، مع العلم والذوق والتاريخ والجمال. كما انني الاحظ ان الاغاني والموسيقى المعبرة التي نلحنها كلها بلا استثناء تصاحبها الايقاعات التقليدية الرق والطبلة وفي بعض الاحيان ينضم الى هذه الايقاعات البنادير، والتساؤل هو لماذا ادخلنا الكنترباس والغيتار والاورغ؟ كل هذه الآلات يمكن لها ان تعزف الايقاع بمقامات مختلفة حسب لحن الجملة الموسيقية الملحنة. اي انها ذات ايقاع مغنى بعكس الايقاعات التي ذكرتها كالرق والطبلة الى آخر، فانها ايقاعات خرساء لا تعطي مقاماً واحداً من الجملة الملحنة التي تصاحبها هذه الايقاعات. والسؤال: "ألا يمكن لنا ان نخصص لهذه الايقاعات مكاناً محدداً نلتزم به، ثم نترك الفرصة للايقاعات التي تغنى كالغيتار والكنترباس، لكي تقوم بهذه المهمة على ان يكتب لها ما يجب ان تعزفه من ايقاعات، وحينما يحين الموضع الذي يمكن للايقاعات التقليدية العزف فيه تقوم بمهمتها، وعلى هذا يكون العمل الفني اكثر دراسة، واكثر جمالاً بدلاً من هذا الملل الذي يصحب الايقاعات وعزفها المرتجل. يتصور البعض ان التراث العربي واحد في كل انحاء البلاد العربية من موشحات وادوار وفولكلور وطقاطيق الى آخره. وأنا اقول ان هذا غير صحيح، لأن التأثر بالجوار امر محتوم. فالتأثر واقع والاخذ والعطاء في الفن محتوم. فمثلاً بلد كالمغرب بجوار اسبانيا لا بد وان الحانها تأثرت بالالحان الاوروبية. كما تأثر الاسبان ببعض الالحان العربية. ومثلاً بلد كالعراق بجوار ايران لا بد ان موسيقاه تأثرت بالالحان الايرانية كما تأثرت الجزيرة العربية ببعض الايقاعات الافريقية. وعلى هذا لا يمكن ان تكون الألوان التلحينية متشابهة في كل انحاء البلاد العربية بسبب تأثر كل بلد بجارتها، ولذلك نجد اننا في مصر نجاور بلاد الشام اي الاردنولبنان وسورية فنحن نتفق كثيراً في "توناتنا" وحتى في تطور الاغنية عندهم يأخذون عنا لهجتنا التلحينية ونحن ينساب فينا شيء من لهجتهم التلحينية. وأنا دائماً اقول ان للعرب كنزين هما: كنز البترول وكنز الموسيقى. او بمعنى ادق الالحان العربية. وقد تنبه الغرب الى كنز البترول فاستثمروه وعصروه وسيعصروه، وسيظل الغرب يعصر هذا الكنز الى ما شاء الله. وللآن لم ينتبه الغرب الى كنز الالحان العربية، لكنه تنبه الى الايقاعات الافريقية والالحان الآسيوية، والرومانسية في الحان اميركا اللاتينية وعصروها واستثمروها. وهم الآن يبحثون عن كنوز موسيقية اخرى وسوف يجيء دورنا. ويتنبه الغرب الى كنز الموسيقى العربية وسيتثمرونها ويعصرونها. فتنبه ايها الفنان العربي واستثمرها انت قبل الغرب وهذا لن يكون الا بالفن والحس العربي الصافي الطروب، الذي تشبع وعاش البيئة العربية وفي الوقت ذاته تعلم الموسيقى الأوروبية ليستخلص منها ما يثري هذا الكنز. تنبه ايها الفنان العربي. وتنبهي ايتها الدول تنبهوا قبل ان يتنبه الغرب ويستثمر موسيقانا كما استثمر بترولنا. فضل عبدالحليم نويرة في انه بسط "القافلة" من اجل الا يصعب على المجموعة التي تغني تأديتها، فالغناء العربي عبارة عن جملة تلحينية تنتهي "بقافلة" يحس المستمع عندها بأن الجملة انتهت هنا. و"القافلة" لكل مغنٍ له احساسه الخاص بها في تأديتها ولا يمكن لمغن ان يقفل قافلة باحساس مغن آخر. لأن القافلة يستعمل فيها المطرب الاهتزازات او النبرات التي خصها الله لكل مغن بما يختلف عن الآخر. مثلها كبصمة الاصبع لا توجد بصمة اصبع انسان كبصمة الآخر. هكذا "القافلة" على رغم ان حدودها واحدة وايقاعها واحد الا ان كل مطرب له ادارته الخاصة في تحريك نبراته في القافلة. ولذلك فطن نويره الى انه لا يستطيع ان يجعل مجموعة من الاصوات تقفل قفلة متساوية صحيحة، فأخضعها لخطوط واضحة تتقابل فيها الاصوات وحذف من "القفلة" الاماكن التي تحتم على المطرب ان يستعمل فيها نبراته الخاصة، وبذلك نجح في ان يجعل الاصوات وكأنها صوت واحد لأن الوضوح جعلهم في قالب واحد لا لبس فيه. وكما قلت ان القافلة على رغم ان لها حدوداً وزمناً ولحناً فهي تشبه البصمة، فالاصبع كشكل هو واحد في كل يد، وربما تجد اصبعاً في طوله وعرضه كأصبع آخر ولكن مع ذلك كل اصبع له بصمة تختلف عن اي اصبع آخر. عمر الانسان عندما يولد الانسان وتجده في صحة وعافية يضرب الارض برجليه في حيوية وصحة فأكتب له رقم واحد... فاذا ما صار طفلاً ودخل المدرسة ضع امام الواحد صفراً فاذا ما نجح وتخرج ضع صفراً ثانياً ليصير الرقم مئة. فاذا ما تخرج من الاعدادية ضع صفراً آخر ليصير الرقم ألفاً، فاذا ما نجح وتخرج من الجامعة ضع صفراً آخر ليصير الرقم عشرة آلاف، فاذا ما نجح في الحياة العملية ضع له اصفاراً بقدر نجاحاته وعندما تعتل صحته ويمرض احذف الواحد الذي بدأت به، ثم بعد ذلك سترى امامك اصفاراً لا قيمة لها. يقول بعض الناس ان كل سنة تمر من عمر الانسان فهو قد خسرها، ولهذا يجب ان يبكي الانسان على السنة التي تنتهي من حياته لا ان يحتفل بعيد ميلاده. اما أنا فأحس بأن السنة التي تمر من عمري هي بمثابة طابق اضيفه على عمارة عمري. وكل سنة اضيف طابقاً جديداً افرح به وآمل ان أرى هذا البناء قد علا كناطحات السحاب. الاسبوع المقبل: الحلقة التاسعة