قلّة هم الفرنسيون الشباب الذين يعرفون أم كلثوم وأغانيها التي تدوم اكثر من ساعة. كنت اخال انّهم سمعوا بها، او سمعوا صوتها الذي لا يمكن نسيانه عند سماعه. لكن حين اضع الاسطوانة، يسألونني من الذي يغنّي. أجيب أنّها اسطورة الموسيقى الشرقية، التي هي أيضاً أسطورة في أوروبا. يتعجبون لدى اكتشافهم انها امرأة، ويقولون لي إنّ صوتها كصوت الرجل. لا يعرف أصدقائي الفرنسيون الطرب، لكنّهم في المقابل يعرفون الراي. هكذا يجيبون لدى كلامي عن الطرب، كأنّهم يقولون لي انهم يعرفون الموسيقى الشرقية، لكن ليس تلك التي أتكلم عنها. يعرفون موسيقى الراي التي ليست شرقية، ولم تعد دارجة هنا. الشاب خالد الجزائري الأصل لم يعد يقيم حفلات ضخمة ولا يبيع اسطواناته بالملايين ولا نراه على التلفزيون في كل البرامج الموسيقية كما كان يحدث قبل بضع سنوات. هو اول من غنى الراي فلاقى نجاحاً واسعاً في اوروبا والعالم، خصوصاً في فرنسا. الراي الذي بدأ في فرنسا وانطلق منها، والذي لا يشبه الموسيقى الشرقية، يمثّلها هنا في الغرب. هي موسيقى تضيع ملامحها بين المغرب والغرب. موسيقى الفرنسيين ذوي الأصول المغاربية. هؤلاء الذين يمثلون العرب في فرنسا باكثريتهم الساحقة، الذين تُعتبر حضارتهم مزيجاً من الحضارة الشرقية والحضارة الافريقية. موسيقى الراي هي اذاً كل ما يعرفه الشباب الفرنسيون عن الموسيقى الشرقية. الشاب خالد الذي لحقه شباب كثر، لم يعد يبيع اسطوانات بالملايين. فقد حلت محل الراي موسيقى الراب و ال"ار ان بي"، التي لا شيء شرقياً فيها. حتى عندما يؤديها مغنون من أصل عربي او مغربي. الشاب مامي الذي لاقى هو ايضاً نجاحاً في ايام الراي المنقضية، بات يغني مع مغنين جدد موسيقى صارت على الموضة الآن. يغني معهم، خلفهم، بصوت يضيع بين الراي و ال"ار ان بي". انقضت موضة الراي، و لم يبقَ منها الا تأثيرها في الموسيقى الحديثة وذكرى نجاحها في ذهن الفرنسيين. الدربكة التي هي رمز الآلات الموسيقية الشرقية بالنسبة للاوروبيين، يعتمدها موسيقيون كثر في ايامنا هذه. موسيقيون لا شيء عربياً في موسيقاهم أحياناً، الا صوت الدربكة الذي يدخلونه إلى أصوات آلاتهم الغربية. حتى فرق الروك الفرنسي، الذي صار يشبه الروك الاميركي منذ سنتين او ثلاث، تدخل إيقاع الدربكة في موسيقاها الحديثة. يضعها احد الموسيقيين بين فخذيه ويطرق بأصابعه عليها ايقاعاً غربياً صوته شرقي. يطبلون عليها كانها احدى تلك الآلات الافريقية،"الطم طم"، التي انتشرت في الغرب قبل الدربكة بسنوات. نسمع احياناً نغمة شرقية في اغنية فرنسية، او صوت عود او ايقاعاً يشبه ايقاع الموسيقى العربية السريع في موسيقى الراب مثلاً، التي هي موسيقى الشارع. مغنو الراب في فرنسا اكثرهم من اصل افريقي او مغاربي. يتكلمون في موسيقاهم عن عدم اندماجهم في بلادهم المتحضرة، عن اصولهم البعيدة التي لا يعرفون عنها الكثير، لكن يرونها واضحة في ملامحهم ولون بشرتهم. الموسيقيون هؤلاء يضعون في موسيقاهم أحياناً اصواتاً ونغمات وإيقاعات تأتي من بلادهم الأصلية. كليشيهات موسيقية تحمل الى الغربيين نكهة من الشرق. كالراقصات الشرقيات اللواتي يحركن بطونهن خلف الموسيقيين على المسرح، فيضفين على الحفل جواً شرقياً يحمل الفرنسيين الى الف ليلة وليلة. الموسيقى الحديثة التي تأثرت بالعولمة وباتت مزيجاً من موسيقى العالم اجمع، التي فيها نغمة اوروبية، وايقاع افريقي، وصوت عربي، هي موسيقى اليوم التي كأنها تبحث عن نفسها بشكل مستمر، في كل مكان. هذه هي الموسيقى التي يعرفها الفرنسيون الشباب. لا يعرفون ام كلثوم ولا عبد الوهاب ولا اسمهان، ولا فيروز التي فضلت ألا اسألهم عنها. اغنية"ليلة حب"لأم كلثوم، ذكرت صديقتي سينتيا بالموسيقى الالكترونية التي سمعتها في احد المرابع الليلية الباريسية، التي هي اعادة للاغنية نفسها في اطار موسيقي مختلف. لا يعرفون الطرب، ولا اصوات مغني الشرق التي لا تشبه اصوات مغنيهم. تأثير الموسيقى العربية في موسيقاهم هي كل ما يعرفونه عن موسيقانا، كصوت الدربكة في ايقاع غربي، او جمل الشاب مامي العربية في اغنية فرنسية. موسيقى الراي التي رقص عليها الفرنسيون الشباب كلهم منذ سنوات، التي ادت الى تكاثر"الشباب"المغاربة على الساحة الموسيقية الغربية، لم تعد على الموضة. لكن يبقى بين اسطوانات كل شاب فرنسي، بضعة اسطوانات من هذا النوع، اسطوانات يخالونها صوت الشرق وموسيقاه.