شنت السلطات الجزائرية في الاسبوعين الماضيين هجوماً مضاداً واسعاً على "الجماعات الاسلامية المسلحة"، شمل مبادرات سياسية محلية وخارجية، ومبادرات قضائية وأخرى عسكرية ما زالت مستمرة. ويهدف هذا الهجوم الى تشديد الطوق والعزلة على الاسلاميين الذين ردوا باغتيال شخصيات ثقافية وقضائية مؤيدة للدولة، من بينها الطاهر جعوت ومحفوظ بوسبسي، وباتوا أمام خيارين لا ثالث لهما هما الموت أو القتل لرفع هذا التحدي وفك الطوق. على الصعيد الداخلي توصل المجلس الأعلى للدولة الى فتح نافذة أمام المجتمع السياسي الجزائري من خلال "الحوار الوطني" وخرج بصيغة سياسية تمثيلية سماها "الندوة الوطنية" وهي مفتوحة لجميع المنظمات والأحزاب والجمعيات التي شاركت في الحوار وقدمت مقترحات لوثيقة عمل تعرض على استفتاء شعبي. وإذا تمت المصادقة عليها تتحول خطة عمل رسمية للفترة الانتقالية التي يعتقد بأنها ستمتد خمس سنوات بدءاً من العام 1994. ومن المتوقع ان تبدأ "الندوة الوطنية" مناقشاتها هذا الصيف أو مطلع الخريف المقبل على أبعد تقدير لإقرار الوثيقة المذكورة. ويُستفاد من المشاورات الرسمية في هذا الصدد أن الدولة عازمة على اعتماد ثلاث مؤسسات قيادية في المرحلة الانتقالية هي: 1- المجلس الاستشاري الوطني القائم حالياً وهو يحل محل البرلمان. ومن المقرر أن يوسع بضم ممثلين عن الأحزاب والمنظمات والجمعيات الموافقة على وثيقة العمل. وينتظر ان يصل عدد اعضائه من 120 الى 300 وسيكون قاعدة للسلطات الأساسية في البلد إذ ستنبثق منه المؤسستان الأخريان الرئاسية والحكومية. 2- المؤسسة الرئاسية التي ستحل محل المجلس الأعلى للدولة ينتظر أن تحمل اسم "المجلس الرئاسي" أو "المجلس الجمهوري" أو "مجلس الدولة". وسيعين اعضاء هذا المجلس جزئياً على الأقل، من بين اعضاء المجلس الاستشاري. ولن يزيد عددهم عن ثلاثة أعضاء يراعى في تعيينهم تمثيل الجيش أساساً. وتسود قناعة لدى مراجع عليا أن تضم هذه المؤسسة رئيس الحكومة ورئيس المجلس الاستشاري البرلمان الموقت فضلاً عن رئيس الجمهورية. 3- الحكومة الانتقالية، أو الائتلافية، وهذه ينتظر أن تنبثق أيضاً من المجلس الاستشاري ويتوقع ان يعهد بتشكيلها الى شخصية أخرى غير السيد بلعيد عبدالسلام الذي أصبح مثار تحفظات في أوساط رجال الأعمال وامتداداتهم في وسائل الاعلام المحلية. ويذكر هنا أن السيد عبدالسلام كان أدلى في مناسبات عدة بتصريحات سياسية مخالفة لتوجه المجلس الأعلى للدولة، وآخرها ما ورد في خطاب ألقاه في افتتاح "المؤتمر الوطني لابناء الشهداء" ودعا فيه الى الحوار مع اعضاء "الجبهة الاسلامية للانقاذ" الذين لم يحملوا السلاح ضد الدولة، ومما قال: "ان ثلاثة ملايين جزائري صوتوا للجبهة الاسلامية للانقاذ ليسوا أعداء وانما هم مواطنون قاموا عن حسن نية بخيار كان ضاراً بمصلحة البلاد"، واعتبر ان من واجب الحكم الاتصال بهم. وكان عبدالسلام حمل في مناسبات سابقة على الفرانكوفونيين واتهمهم ب "الاندماج" مع فرنسا، وهؤلاء يشكلون وزناً مهماً في الصحافة والاعلام وادارات الدولة. كما حمل على القادة الحزبيين وطالب اعضاء الأحزاب بالتمرد على قياداتها في وقت كان المجلس الأعلى للدولة يدعو الى الحوار مع احزاب المعارضة. وبادر ايضاً باستعادة مكاتب حزبية كانت الدولة منحتها لبعض الأحزاب الأمر الذي أثار استياء عاماً ضده خصوصاً في أوساط الحكم والادارة والنقابات. ولعل توسيع دائرة خصومه ودعوته الى الحوار مع "الانقاذيين" تعزز احتمالات ابعاده عن رئاسة الحكومة في المرحلة الانتقالية المقبلة. حملة عسكرية بموازة المبادرة السياسية التي يراد منها وضع حد للالتباس القائم حول شرعية النظام الجزائري واشراك القوى السياسية المناهضة للعنف المسلح في المؤسسات المزمع اقامتها، واصلت السلطات العسكرية هجماتها المضادة على الاسلاميين المسلحين، وقد تمكنت حتى الآن من تحييد أو ضرب عشرات المجموعات المسلحة التي كانت تنشط في مربع الجزائر - البويرة - المدّية - عين الدفلى الذي يخضع لمنع التجول ليلاً منذ اعلان حال الطوارئ في 9 شباط فبراير من العام الماضي. وفي الاطار نفسه حيّدت السلطات العسكرية عناصر قيادية اسلامية بارزة، مثل حسين عبدالرحيم مدبر عملية مطار العاصمة الجزائر 26 آب اغسطس 1992، والمنصوري الملياني الذي حمل السلاح للمرة الثانية بعدما تمرد مع جماعة مصطفى بويعلي مطلع الثمانينات وقبض عليه، وكان بين الذين شملهم "العفو الشاذلي" عام 1989 بناء على تدخل "الجبهة الاسلامية للانقاذ". وقبل الملياني وعبدالرحيم، سقط الطيب الأفغاني بطل عملية أقمار التي هاجم فيها مخفراً قرب مدينة الوادي عند الحدود الشرقية مع تونس. وعلى الصعيد القضائي نشطت الحكومة الجزائرية نشاطاً كان من ثماره توقيف كل من رابح كبير رئيس لجنة الشؤون السياسية في جبهة الانقاذ المنحلة واسامة مدني نجل الشيخ عباسي مدني، في المانيا، وكذلك توقيف أحد قادة العمل المسلح وهو عبدالحق العيايدة الذي اعتقل في المغرب، وثمة اتصالات لامكان تسليمه الى الجزائر، كما قال السيد محمد طلبة الوزير المكلف شؤون الأمن. وتقدم القضاء الجزائري رسمياً بطلب تسليمه كبير وأسامة مدني، وتدرس السلطات الألمانية الطلب على المستويين السياسي والقضائي. فعلى المستوى السياسي صرحت وزيرة العدل الألمانية السيدة لوترماز بأن حكومة بلادها لا يمكن أن تسلم الأشخاص المهددين بالاعدام الا بضمانات كافية لعدم تنفيذ مثل هذا الحكم. ويذكر هنا ان المحكمة الخاصة في الجزائر كانت أصدرت حكماً بالاعدام على كل من كبير وثلاثة من أبناء الشيخ مدني هم سلمان واقبال وأسامة بتهمة التورط في تفجير المطار. ويعتقد المراقبون في العاصمة الجزائرية ان الحكومة يمكن أن تستجيب الشرط الألماني وتفي به. أما على المستوى القضائي فتبدو المسألة أكثر تعقيداً، فالأمر بين أيدي محكمة ميونيخ التي يمكنها ان تطعن في شرعية قرار التسليم، اذ ليس هناك اتفاق بين البلدين في هذا المجال. وكان القضاء الجزائري أصدر مذكرة دولية للقبض على كبير وأبناء مدني الثلاثة المقيمين في المانيا، ويتنقلون بجوازات سفر ايرانية. ويعتقد ريمون كاندل الأمين العام للانتربول الذي استضافته الجزائر أخيراً، بأن قرار التسليم مرتبط بنتائج الاتصالات الجارية بين قضاءي البلدين، أي الجزائروالمانيا. تشديد الحصار هكذا تبدو السلطات الجزائرية ماضية اذن في تشديد الحصار على العناصر الاسلامية المسلحة التي لم يبق في الميدان من قادتها المعروفين سوى عبدالقادر شبوطي وعبدالله مخلوفي أول رئيس تحرير لصحيفة "المنقذ" وصاحب كتيب "العصيان المدني" الشهير. ولذلك تجد هذه العناصر نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما "القتل أو الموت"، وهذا ما جعلها تلجأ الى تنفيذ عمليات سهلة، لكنها ذات صدى دعائي كبير مثل اغتيال الكاتب الطاهر جعوت والأستاذ محفوظ بوسبسي. التحرك الدولي وشمل الهجوم الجزائري المضاد الساحة الدولية، فقد قام السيد رضا مالك عضو المجلس الأعلى للدولة ووزير الخارجية الجزائري، بزيارة عمل لباريس 17 - 18 حزيران - يونيو التقى خلالها كبار المسؤولين الفرنسيين ودعا على هامشها الى عشاء خاص مع عدد من ممثلي وسائل الاعلام المحلية حضرته "الوسط". ويستفاد من ردود السيد مالك على اسئلة الصحافيين الذين حضروا العشاء، أن الجزائر تشعر بارتياح كبير الى مبادرة الحكومة الفرنسية باتخاذ اجراءات مشددة حيال ممثلي المعارضة الجزائرية المسلحة والمتعاطفين معها في فرنسا، ومن بين هذه الاجراءات اقفال صحيفة "المعيار" الاسبوعية المؤيدة ل "الجبهة الاسلامية للانقاذ". وعلى رغم ان الأصوليين قرروا اصدار المجلة تحت اسم جديد هو "المقاومة" فإن ذلك لم يمنع مالك من التأكيد ان فرنسا تتفهم الآن أكثر من السابق "برنامجنا" ولديها "إرادة واضحة" لتدعيم العلاقات مع الجزائر. ومعروف هنا أن سوء تفاهم كان يسود بين الحكومات الاشتراكية السابقة والسلطات الجزائرية، من مظاهره البارزة تأخير تقديم أوراق اعتماد سيد أحمد غزالي سفيراً لبلاده في باريس لبضعة أشهر، ولم يكن المسؤولون في الجزائر يخفون رغبتهم وتفضيلهم التعامل مع الديغوليين لدى وصولهم الى الحكم. وأثمرت زيارة مالك لفرنسا، وهي الأولى منذ تعيينه وزيراً للخارجية في شباط فبراير الماضي، عن دعوة وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه رجال الأعمال الفرنسيين الى العمل في الجزائر. وليس معروفاً بعد هل يتخلى هؤلاء عن تحفظاتهم السابقة عن الاستثمار في بلد مضطرب كالجزائر أم لا. ولكن على رغم ذلك يشكل الموقف الرسمي الفرنسي الايجابي من الحكومة الجزائرية مصدر دعم لا يستهان به للسلطات الجزائرية في صراعها مع التيار الاسلامي المسلح. في السياق نفسه أوضح مالك الخطوط العامة لسياسة حكومته الخارجية في مواجهة الأصوليين المسلحين. فأكد ان الجزائر تعتبر أن الجماعات الأصولية تتحرك في اطار تنظيم دولي، خصوصاً "الأفغان العرب"، لذلك يفترض قيام تعاون دولي لمواجهتهم. وقال انه تحدث الى الأميركيين في هذا الموضوع ولمس منهم "تفهماً" ورغبة في مساعدة الجزائر والدول الأخرى التي تعاني من "الارهاب" على حد تعبيره. وكرر ما كان معروفاً من قبل عن التعاون والتنسيق بين مصر والجزائروتونس في مواجهة التيارات الأصولية، خصوصاً في ميدان "الاستعلامات" وأكد ان هذا التعاون الثلاثي قطع شوطاً كبيراً سرعان ما ستظهر آثاره الايجابية. وكشف ان حكومة بلاده تتعاون مع المغرب في مجال "ملاحقة الارهابيين" الذين يتخذون من منطقة الحدود المغربية مع الجزائر ملجأ لهم. وأضاف ان توقيف الشيخ العيايدة الذي يتزعم التيار "السلفي المسلح" في المعارضة الأصولية، هو "البرهان" الأكيد على التعاون بين البلدين في هذا الميدان. وعن الدول التي تدعم الأصوليين في الجزائر خصوصاً إيران والسودان، لم يؤكد وزير الخارجية الجزائري ان الدولتين تزودان المسلحين الجزائريين الوسائل العسكرية، وحصر في حديثه هذا الدعم بالمواقف السياسية، وذلك بخلاف ما تذكره عادة البيانات الرسمية الجزائرية. وميز بين إيران والسودان، وقال ان ايران ترغب في تصدير ثورتها الى الجزائر وان المسؤولين الجزائريين حذروها مراراً من مغبة هذا الطرح وان طهران لم تذعن للتحذيرات الأمر الذي حمل الجزائر على قطع العلاقات الديبلوماسية معها. أما السودان فلم "نقطع علاقتنا معه، استدعينا فقط سفيرنا في الخرطوم على سبيل التحذير". وقال ان حكومته أبلغت السلطات السودانية ضرورة وقف التصريحات السياسية المؤيدة للأصوليين الجزائريين وبخاصة "خطب الدكتور حسن الترابي". ولم يصل في حديثه الى حد اتهام الخرطوم بإيواء الارهابيين وتدريبهم وتسليحهم وتصديرهم الى الخارج وفقاً للتصريحات المصرية المعروفة في هذا المجال. ولم يجب مالك عن سؤال يتعلق باحتمال دعم بلاده حركة جون قرنق من خلال الأراضي الأوغندية حيث أكدت مصادر سودانية رفيعة المستوى ان الجزائر تحتفظ بضباط ووحدة عسكرية في أوغندا. خلاصة القول ان الحكومة الجزائرية ماضية في هجومها المضاد على الجماعات الاسلامية المسلحة، على الصعيدين الداخلي والخارجي وفي مجالات الأمن والقضاء والسياسة الخارجية، وهي تحقق نجاحات لا يستهان بها في هذه المجالات. ولكن من الصعب القول ان هذه النجاحات تبشّر بنهاية التيار الاسلامي المسلح الذي ما زال قادراً على الرد بعمليات دموية كما برهن على ذلك في أكثر من مناسبة.