شمس الأصيل تصبغ وجه الماء في خليج باكو بلون قرمزي فتبدو أبراج النفط السوداء العائمة وسط البحر نصلاً يتقطر منها ويلتم حولها دم قانٍ. في زمن آخر قد يكون المشهد باعثاً لايحاءات أكثر إشراقاً، بيد أنه اليوم رمز لحال اذربيجان المبتلاة بحرب طاحنة ومزمنة مع الأرمن على قره باخ، وبمعارك داخلية ضارية ومشاكل اقتصادية لم تجد لها حلاً على رغم أو بسبب ثرواتها الطبيعية وفي مقدمها النفط. والأراضي المعروفة حالياً باسم اذربيجان كانت منذ سقوط مملكة ميديا على يد قورش الذي الحقها بالامبراطورية الفارسية، وحتى يومنا هذا، مسرحاً لصراعات دامية وتعاقب على حكمها ملوك الفرس والألبان، وبعد الفتح اعتنق سكان المنطقة الاسلام. وشهدت اذربيجان صراعات دموية محلية أثناء الحركات الخرمية والمزدكية وضمها السلجوقيون الى دولتهم ثم غزاها المغول وأصبحت في ما بعد جزءاً من الدولة الصفوية، ثم غدت واحدة من أسباب الحرب المديدة بين الفرس والأتراك قبل ضمها الى الامبراطورية الروسية عام 1828. وبعد الثورة البلشفية أقام المساواتيون سنة 1918 دولة مستقلة في اذربيجان بدعم من حلفائهم الأتراك واسناد عسكري من البريطانيين الذين حاولوا الحفاظ على مصدر نفطي بالغ الأهمية. لكن الامبراطورية السوفياتية الجديدة جعلت من "جوهرة بحر قزوين" جمهورية اشتراكية تدين بالولاء لموسكو وتزودها الذهب الأسود. الأممية سلّم للوثوب وعلى رغم التقاليد "الأممية البروليتارية" في العاصمة باكو التي استقطبت صناعاتها النفطية الاذريين والروس والأرمن واليهود وغيرهم، فإن الشيوعية كعقيدة لم تترسخ على امتداد سبعين عاماً، وكان الانتساب الى الحزب الحاكم مجرد سلم للوثوب وليس انتماء فكرياً. لكن مزاوجة النظام التوتاليتاري وروح الاستبداد الفردي أفرزت في اذربيجان كما في جمهوريات آسيا الوسطى ظاهرة الزعيم الذي يعقد التحالف أو يناصب العداء على أساس الولاء الشخصي أو الفئوي وهذا مفتاح مهم، وان لم يكن وحيداً، لفهم الصراعات الحالية في هذا البلد. وتكرست هذه الظاهرة عندما أصبح حيدر علييف الوافد من ناخيتشيفان زعيماً للحزب الشيوعي عام 1969. فقد أسند الى أبناء هذه المنطقة، وهي جمهورية تتمتع بحكم ذاتي وتحيط بها أراضي ارمينيا وايران، مناصب مهمة في الدولة والحزب، وكاد البلد ان ينقسم الى موال وخصم لهم غير ان الحزازات الداخلية لم تتخذ طابعاً دموياً إلا بعد تفاقم مشكلة قره باخ التي كانت القاسم المشترك الوحيد تقريباً بين الاذربيجانيين ثم صارت سبب احترابهم. وفي عهد بيريسترويكا استغل الأرمن ضعف المركز الموحد في موسكو وانكفاءه على مشاكله ليطالبوا بانفصال قره باخ عن اذربيجان، فرد الاذربيجانيون بمذابح سومغاييت ثم باكو التي كانت ذريعة لإرسال القوات السوفياتية الى العاصمة الاذربيجانية في كانون الثاني يناير 1990. وبدلاً من حل الصراع وتهدئة الأوضاع كان الغزو دافعاً الى تعزيز النزاعات الانفصالية داخل اذربيجان وبرزت "الجبهة الشعبية" التي اتحدت فيها أحزاب مختلفة الاتجاهات قوة فعلية من دون انتماء فئوي ظاهر لتطالب أولاً بتنحي الحزب الشيوعي ثم بالانفصال عن موسكو. وتحقق لها ما أرادت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي اذ أرغمت اياز مطلبوف رئيس الدولة وزعيم الحزب الشيوعي في اذربيجان على الاستقالة، وانتخب بدلاً منه أبو الفضل التشي بيه قائد الجبهة الشعبية... والوافد ايضاً من ناخيتشيفان. تجربة فاشلة لكن هذا الائتلاف الذي جاء الى الحكم راكباً موجة الاستقلال لم يطرح برنامجاً واضحاً لحل مشاكل البلد ولم يحقق وعوده الى حسم مشكلة قره باخ وتحسين الأوضاع الاقتصادية "في غضون مئة يوم". وكانت حصيلة حكمه خلال سنة توسيع رقعة الأراضي التي يحتلها الأرمن لتشمل منطقة كلبجار وممر لاتشين، ما يشكل 10 في المئة من مساحة اذربيجان. وانضم 530 ألف مهاجر من مناطق القتال الى جيش العاطلين الذي أصبح يضم 1.3 مليون. وتفاقمت الصراعات داخل الجبهة حيث كان الكثيرون من مؤسسيها وانصارها يأملون بمناصب حجبت عنهم، وانضم عدد منهم الى حزب الاستقلال المعارض القوي الذي تزعمه اعتبار محمدوف، أحد رفاق التشي بيه في الكفاح، وهو من ابناء ناخيتشيفان ايضاً. ومن موقعه رئيساً لجمهورية ناخيتشيفان كان حيدر علييف يرصد الأحداث ويتحين فرصة العودة... ولكن ك "منقذ" للأمة. وأزفت ساعته حينما بدأ سورت حسينوف قائد الفيلق المتمرد في مدينة غنجة زحفه على باكو بعد معارك كبّد القوات الحكومية فيها خسائر فادحة. وليست واضحة ارتباطات هذا الرجل الذي حصل على لقب "البطل القومي" بعد قيادته الفيلق الشمالي في قره باخ، ولكن من المؤكد ان حركته كانت لمصلحة علييف، اذ اضعفت مواقع التشي بيه ولم تعزز مركز الرئيس السابق اياز مطلبوف الذي يشار الى تحالفه السري مع سورت حسينوف. أبعاد دولية وعلى رغم الطابع المحلي للصراع على السلطة فإن المراقبين يشيرون الى ابعاده الدولية حيث وقفت موسكو منذ اللحظة الأولى الى جانب علييف الذي تعرّف الى كل دهاليز الكرملين ودسائسه حينما كان عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي ونائباً أول لرئيس الحكومة السوفياتية. ولروسيا مصلحة في اعادة اذربيجان الى "الحظيرة" وتحجيم نفوذ أنقرة الذي تعاظم بعد اعلان قيادة الجبهة الشعبية اللغة "التيوركية" لغة رسمية للدولة ومجاهرتها بنياتها الطورانية. ولسبب مماثل تؤيد طهران تنحية التشي بيه الذي لم يكن يخفي نفوره من إيران وطموحه الى إثارة المشاعر القومية لدى زهاء 10 ملايين اذري يقيمون فيها. واثر هرب التشي بيه من باكو أعلن الغرب رفضه "التطاول على الشرعية" وتأييده الرئيس المنتخب على رغم انه أي الغرب كان أيد حركة انقلابية في جورجيا المجاورة تسلم السلطة اثرها ادوارد شيفاردنادزه. وإذا أهملنا "اللوازم الكلامية" فإن موقف الدول الكبرى يحكمه عاملان أساسيان أولهما وجود النفط الذي أصبح محوراً لصراع بين الشركات العالمية والثاني هو مستقبل هذه المنطقة الحساسة في التوازنات الجيوسياسية المستجدة. فالولايات المتحدة تشارك تركيا ارتيابها من العلاقات التي أقامها علييف مع إيران أثناء حكمه في ناخيتشيفان، كما يحاول البلدان التصدي لطموح موسكو الى انشاء جبهة عسكرية سياسية قوية الى جنوبروسيا بعد انسحاب قواتها من أوروبا. إلا ان تنفيذ هذه المشاريع يبقى مرهوناً بإيجاد حل لمشكلة قره باخ ويوحي دخول موسكو اللعبة القوقازية انها قد تحاول ان تصنع هذا الحل ولو بالقوة والانقلابات. وإذا تمكن علييف من احتواء الأزمة الداخلية فإن علاقاته مع موسكو ويريفان تجعله الرجل المؤهل لايجاد حل لهذه المعادلة الصعبة. لكن السؤال الذي يؤرق الاذربيجانيين اليوم هو: هل تبقى صفحة الخليج في باكو هادئة أم أنها ستصطبغ باللون القرمزي؟