من بين أصناف القصة القصيرة الذي شاع في السنوات الاخيرة، يتميز في شكله بالقصر البالغ حتى لا تكاد القصة تتجاوز احياناً بضعة أسطر، ومع ذلك يتحقق لها كل مقومات القصة القصيرة ذات الطول المألوف، وما تتركه من اثر نفسي وفكري وجمالي لدى القارئ. وقد سمى بعض الدارسين هذا الشكل الجديد "القصة القصيرة جداً" وسماه آخرون "الأقصوصة". والتسمية الاولى لا تصلح في تركيبها اللغوي الركيك لكي تكون مصطلحاً، اذ تشير الى صفة الشكل وحده دون ان تتضمن اشارة الى طبيعته الفنية، على حين يبدو مصطلح "الاقصوصة" متضمناً طبيعة الشكل وصورته الفنية معاً. ويغلب على ظن الكثيرين ان هذا الشكل الجديد قد ظهر استجابة لحاجة الصحيفة اليومية الى قصة لا تتطلب حيزاً كبيراً، ولا ترهق القارئ المتعجل او غير المتخصص في قراءتها وتأمل فنها ودلالتها. وقد يبدو الامر عند النظرة الاولى على هذا النحو، لكن من يعود الى ما نُشر في الصحف اليومية من قصص على هذا الشكل، يدرك انها ليست في الحقيقة الا خبراً منسقاً على هيئة قصة، او طرفة او نادرة لا تجتذب القارئ بفنها بقدر ما تمتعه بندرتها او غرابتها. اما الاقصوصة الفنية، فلا يجيء قِصرها البالغ من حاجة الصحيفة اليومية بل من طبيعة التجربة القصصية وما تستدعيه من صورة فنية خاصة. والفرق الجوهري، بين الاقصوصة والخبر المنسق والطرفة والنادرة، ان الاقصوصة "لقطة" خاصة لمشهد من الحياة او لحظة من لحظاتها او نموذج من نماذجها البشرية. وهذه اللقطة تقوم عادة على "انتقاء" صارم مقصود، يدرك الكاتب بموهبته وفطرته ان وراءه دلالة متميزة، على الرغم مما قد يبدو لأول وهلة من ضآلة شأنه، ولكي يبرز الكاتب تلك الدلالة المختلطة بوقائع من الحياة تبدو للناظرين أكبر وأجلّ شأناً، ولكي ينتشل مشهده او لحظته من ركام المألوف، والعادة او من مظنة "التفاهة"، يعزل ما التقطته عدسة بصيرته الفنية عزلاً حاسماً، كأنه بذلك يحيطها بسياج يحميها من ان ينفذ اليها ما لا صلة له بما تحمل من دلالة، كما يحمي المصور عدسته من ان يتسلل الى جوانبها ما لا يريده فيفسد "فنية" الصورة. وتتميز النماذج الناجحة في هذا الشكل الجديد، بأسلوب يبدو - في ظاهره - محايداً لا يفصح عن موقف خاص للكاتب، ولا يفسد بالتصريح والتعليق روح الرمز والايحاء، وتسرب الدلالة الى وجدان القارئ بفطنته ووعيه الذاتي. على ان هذا الاسلوب - على الرغم مما يبدو فيه من حياد ظاهري - يقوم على حذق واعٍ بفن القصة القصيرة، وإن تخفّى وراء البساطة الظاهرة. وهو أبلغ ما يكون، حين يقترب من طبيعة المقطوعة الشعرية القصيرة، ذات الموقف الشعوري الواحد، التي يستعيض الشاعر فيها عن الطول، بالعبارة الشعرية المركزة الموحية، ولعلنا نستطيع ان نربط بينه وبين شكل معروف في الشعر الأوروبي، هو "الأبيغرام"، وان كانت هناك فروق جوهرية بين اللونين. فالأبيغرام أبيات قليلة تحمل شيئاً من الطرافة او الدعابة او الحكمة وتنطوي نهايتها على شيء من المفاجأة التي تلقي الضوء على ما تحمل الأبيات من دلالة. في حين ان كاتب الأقصوصة، يحرص منذ البداية على "الموضوعية" ويتجنب قدر المستطاع ان ينتهي بقصته، الى ما يشبه المغزى او المعنى الصريح او الحكمة المقصودة. ومن كتّاب الأقصوصة العربية المتميزين طبيب نفسي شاب هو الكاتب محمد المخزنجي، ولعل مهنته قد أتاحت له رصد كثير من مشاهد الحياة ولحظاتها ونماذجها البشرية، رصداً يقترب من التجربة المعملية، وان اختلف عنها كثيراً في صورته الفنية الشاعرية. وكنت قرأت مجموعته الاولى "الآتي" ثم مجموعته الثانية "رشق السكين"، وكتبت عنهما دراسة طويلة. ثم عدت فذكرتهما هذه الايام حين قرأت ترجمة انكليزية لمختارات من قصصه قامت بها ايفا الياس ونور المسيري من الجامعة الاميركية في القاهرة، مع مقدمة موجزة لكنها تعبّر عن جوهر القصص في مضمونها وصورتها الفنية. من بين القصص التي اختارتها المترجمتان قصة يمكن ان تعد نموذجاً كاملاً، في مضمونها وشكلها، للأقصوصة الناجحة. انها قصة "اليمامة المضروبة": "وأنا صغير أجوب الخلاء، أرفع رأسي اذ أسمع فوقي رفيفاً مضطرباً لطائر يمرق، انها يمامة مضروبة تهوي… ها هي ذي فرصة سانحة للحصول على يمامة بلا عناء… وأطير وراءها… ها أنذا اجري واليمامة تهوي… ضربها أحدهم دون ان يصيبها في مقتل… جناحها مضروب، لكنها عنيدة. أجري انا - تحت - وترفرف هي - فوق - تهبط رويداً حتى أكاد ألمسها. ارفع يدي قافزاً لأنالها، لكنها تنفلت تنطلق بأسرع ما تقدر وتسقط من جناحها المضروب قطرة حمراء ساخنة تبل يدي… تطير فوق حقل مشتول. أخوض لألحق بها لاهثاً فتتغرز قدماي في الطين! ها هي ذي تبتعد، وانا مغروز… أدرك انها أفلتت وأنني لن امسك بها ابداً. امسح قطرة دمها التي جفت وغمقت على يدي… وها هي - اليمامة المضروبة - أراها هناك… نقطة رفيعة… رفيعة مجروحة لكنها تجاهد في الافق". وفي هذه الاسطر - على قلتها - يتمثل فن الكاتب في اختيار "لقطته" وفي تصويرها، فقد جرى عرف الناس على ان يرمزوا باليمامة او الحمامة الى السلام. وهي الى جانب هذا من "الطير" الذي يتخذه الناس رمزاً للحرية والانطلاق. وهم ايضاً يتخذون الطفولة رمزاً للبراءة والوداعة. لكن الطفولة تتخلى عن طبيعتها - بحكم العادة والممارسة - فتنقلب عنواناً للعدوان الذي يتخفى وراء ما تعودنا ان نعده ضرباً من ضروب التسلية واللهو. ولأن اليمامة في اصرارها على حريتها تمثل الفطرة التي ينبغي ان تكون للاحياء، يرصد الكاتب انطلاقها في محنتها لتنجو في النهاية من عدوانين: عدوان صائد غير معروف أصابها في غير مقتل، وعدوان طفل "بريء"! ولأن الطفولة قد تخلت عن فطرتها ورمزها، تبدو في المقابل "مغروزة" في "الطين"، على حين "تحلق" اليمامة فوق "حقل مشتول". وتبدو الطفولة ملوثة الكف بقطرة واحدة من الدم تمثل كل دم مسفوك، وتبقى القطرة عالقة بكف الصبي وان حاول مسحها، ويتحول لونها فيصبح "غامقاً" قريباً من لون الطين الذي تنغرز فيه قدماه. وفي مطاردة الصبي لليمامة، يجري هو "تحت" وترفرف هي "فوق" وكأن الجري في غايته العدوانية هبوط بإنسانية الصبي، لا يمارس فيه عناء او توقفاً للتفكير. وكأن "الرفرفة" الى أعلى نقيض ذلك التدني، ومجاهدة في سبيل الحرية والانطلاق والبقاء. اما انغراز قدمي الصبي في الطين فرمز المادة والشهوات وطيران اليمامة فوق حقل مشتول، رمز الجمال والخصب والنماء. وقد حرص الكاتب - أو الراوي - كما تقتضي طبيعة النماذج الناجحة للأقصوصة ألا يصرح بمغزى القصة او دلالتها، بل اعتمد على ما في الصورتين من مقابلة موحية، لكن الكاتب - مع ذلك - يحرص على ان يصل هذا الايحاء الى القارئ، فينقل صورته المنتقاة مروية بضمير المتكلم الذي شارك في الصورة، وكان أحد عناصرها، فهو لا يلتفت الا الى ما خاض من تجربة او راقب من مشهد دون تفصيلات قد يلجأ اليها الراوي الغائب فيشتت الدلالات او يعددها ويختلط بعضها ببعض. وفي مثل هذه القصص لا يصادف المترجم ما قد يصادفه من مشكلات في ترجمة القصص الطويلة او الروايات وما تتضمنه من أساليب بيانية لصيقة بطبيعة اللغة العربية، او من حوار قد يصعب نقله الى لغة اجنبية دون ان يفقد دلالاته او حيويته. لكنه قد يصادف مشكلات من نوع خاص، تنبع من الايجاز البالغ والايحاءات الكامنة وراء بعض العبارات او الصور، او من اللغة التي ترصد مشاهد وشخصيات تتسم ببساطة ظاهرة. وكل ذلك يستدعي أسلوباً قد يبدو هو ايضاً في ظاهره بسيطاً، لكن له مع ذلك بنية خاصة ينبغي ان يفطن اليها المترجم. ومع ان الترجمة الانكليزية لهذه القصة ترجمة امينة سليمة في جملتها، فقد فات المترجمتين ادراك بعض هذه الخصائص اللغوية والاسلوبية. فجاءت في ترجمتهما أخطاء ظاهرة، منها ان الأقصوصة تبدأ في النص العربي بجملة اسمية، ليس فيها تصريح بطبيعة الزمن، لكن الزمن الماضي مُتضمَّن في بنيتها العربية: "وأنا صغير أجوب الخلاء"، والعبارة تعني بالضرورة "حين كنت صغيراً أجوب الخلاء". لكن الترجمة لم تفطن الى دلالة العبارة على الماضي، فجاءت بفعل مضارع يدل على الحاضر. كما اساءت الترجمة نقل قول الراوي "تطير فوق حقل مشتول". فقد أصبحت العبارة في النص الانكليزي: "تطير فوق حقل من "السماد" وهو ضد ما أراده الكاتب تماماً، حين قصد الى المقابلة بين انغراز قدم الصبي في الطين وتحليق اليمامة فوق الحقول الناضرة الخضراء. وقد أسقطت المترجمتان من نهاية القصة بعد عبارة الراوي "أراها هناك نقطة رفيعة" قوله "رفيعة مجروحة - لكنها تجاهد في الافق". ولعل لهما بعض الحق في ذلك اذ خلّصتا القصة مما يكاد يكون تصريحاً بمغزاها ودلالتها. * كاتب وناقد مصري.