"أساطير من بلاد ما بين النهرين" كتاب يتضمن مجموعة من ملاحم ما بين النهرين من مثل ملحمة الخليقة والطوفان وكلكامش وسواها. ترجمت الكتاب وقدّمت له الدكتورة نجوى نصر، وصدر عن منشورات بيسان في بيروت، يضم ثلاثة عشر نصاً ملحمياً ما زالت تتمتع بشهرة واسعة في العالم، ليس فقط بين القراء وإنما ايضاً بين العلماء على اختلاف اختصاصاتهم. وأهمية النصوص الملحمية هذه أنها تتضمن ما احتوته آخر الألواح التي تم اكتشافها في أعمال التنقيب التي أجريت في الفترة الأخيرة. وقد حفزت الاضافات الجديدة الباحثة ستيفاني دالي الى تحقيق ايضاحات لغوية وأبحاث مستفيضة عميقة تمكنت من خلالها من كشف النقاب عن كثير من الغموض في اللغة والاشارات. ومن أهم صفات هذا الكتاب الذي وضعته بالانكليزية الباحثة دالي، المقدمات التاريخية العميقة لجميع النصوص، إضافة الى الملاحظات القيّمة التي أوردتها الباحثة. أما مترجمة الكتاب الدكتورة نجوى نصر فهي أستاذة الألسنية الإنكليزية في كليّة الآداب في الجامعة اللبنانية، وتحمل دكتوراه في الألسنية من جامعة جورجتاون واشنطن ولها مؤلّفات عدة في حقول الألسنية واللغة والآداب. هنا حوار معها عن الكتاب الذي ترجمته وعن المفهوم المعاصر للملاحم والأساطير: ما الذي جعلك تنتقلين من حقل الألسنية، وهو حقل تخصصك، إلى حقل الميثولوجيا؟ - صحيح ان حقل تخصصي هو الألسنية، غير أن انتقالي إلى حقل الميثولوجيا في هذا العمل لم يكن تخلياً عن حقل الألسنية وانما معبراً مبرراً، فقد كان الانتقال عبر جسر الترجمة وهذا من اختصاصي إذ أنني درست مادة تتعلق بالألسنية والترجمة. فعلم الألسنية معني مباشرة بكل علم تكون اللغةُ مادته، وقبل البدء بترجمة أي نص يجب علينا قراءته بإمعان ليس فقط لفهم المحتوى، بل لإدراك التفاصيل الأسلوبية التي اعتمدها الكاتب في اختياره لكلماته وفي تنسيقها في عبارات لها خصوصيتها وأهدافها. فقبل البدء بترجمة أي نص مهما كان سهلاً أبدأ بعملية تحليل للمعنى والمبنى وترابطهما، أي أبدأ بتحليل نصي أسلوبي انتقل من بعده الى اعادة صياغة النص باللغة المطلوبة في محاولة ليس فقط لنقل المعنى إنما لتأمين العلاقة التي كانت قائمة في النص الأساس بين المفاهيم المطروحة. وبالنسبة الى كتاب "الأساطير" تحديداً فإن الشكل الملحمي لنصوص الأساطير ليس بعيداً عن اختصاصي، فعدد من أبحاثي - ومنها اطروحة الدكتوراه - هي في موضوع العلاقة بين علم الألسنية والشعر، وبما ان الأساطير قد صيغت بقالب ملحمي فهي ولا شك مادة غنية وممتعة لتعاون الحقلين. وقد ساعدتني تجربتي الألسنية كثيراً في تحليل التراكيب الكلامية ومفرداتها وترتيبها وصولاً الى ايقاعاتها والأجواء التي تؤمنها. هل من الممكن برأيك نقل نص عن نص مترجم وليس عن اللغة الأم التي كتب فيها؟ ألا تغدو الترجمة آنذاك خيانة مزدوجة؟ - تسأل عن الإمكانية، وبما أن العمل قد تم إذن فهو ممكن. أما عن مدى نجاح الإمكانية فهذا بحث آخر. ولا أقبل اعتبار الترجمة فعل "خيانة" بل اعتبرها "خدمة". لنعود الى امكانية الترجمة، خصوصاً صعوبتها هنا في التنقل بين الأكدية والانكليزية والعربية. أي اننا في ترجمة كهذه نتنقل بين لغات من حضارات مختلفة، ولغات ليست متحدرة من عائلة لغوية واحدة. هنا لا بد من الإقرار بأن التثاقف أو التفاعل بين الثقافات هو ضرورة على الصعيد الإنساني الشامل إنما تحدٍّ على الصعيد اللغوي. ولا ننسى أننا كلما تكلمنا أو تحادثنا نقوم بعملية ترجمة وإن ضمن اللغة الواحدة. ويبقى أصعب أنواع الترجمة هي الترجمة الخلاقة غير الرسمية والآلية التي لا يمكن ان تكون نهائية أو مكتملة إذا سلمنا بأن الطبقات السيمائية والصيغ التي تحتويها الألفاظ ليست متوازية أو متساوية في تعبيرها عن ظروف وخبرات إنسانية متنوعة. وهذا يتطلب الاستعانة بما أسماه عالم الألسنية الشهير تشومسكي معاجم تتخطى المعلومات اللغوية المباشرة الى معلومات حول الثقافة وظروفها. أمام هذا الواقع، كيف تبقى الترجمة ممكنة في "برج بابل" اللغات؟ لا شك في ان التجارب الإنسانية وما يرتبط بها من قيم ومفاهيم تتشابه بين مختلف المجتمعات الإنسانية، ثم تأتي كل لغة لتعبّر عن التجربة ومفاهيمها بطرق وأساليب وتراكيب لغوية تنسقها قواعد اللغة ضمن خصوصياتها النحوية. فنجد القوالب اللغوية تحتّم على الحركة الطبيعية من حولنا ان تنتظم بأشكال مختلفة كلما عبرنا حدوداً لغوية معينة. فاللغة لا تكتفي بوصف التجارب والمعاناة بل تعمد الى تحديدها، أي تضع لها حدوداً تخطها الأعراف الصرفية والنحوية. فمثلاً، عبارة "الكاتب مريض" هي عبارة من كلمتين تحتوي على المفاهيم التالية: أل التعريف، كاتب، فاعل كتابة، مفرد، مذكر، وضعه الحالي الآن مريض. يمكننا التعبير عن كل هذه المفاهيم بأية لغة كانت إنما ضمن القواعد المعمول بها" فهناك لغات لا تميِّز بين المذكر والمؤنث، أو لا تقطع الزمن الى ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، او لا تحتوي على أداة للتعريف، إلخ... فأمام هذا الواقع اللغوي نضطر حين ننقل نصَّاً من لغة الى أخرى ان نكون على علمٍ بالعمليات النحوية والصرفية التي تعتمدها تلك اللغة في ترتيب العلاقة بين المفاهيم المقصودة. لذلك نجد أن نقل المفاهيم عملية سهلة إذا قيست بكيفية سبكها في إطارها اللفظي. لذلك على الترجمة أن تراعي ليس فقط نقل المفاهيم بل أيضاً كيفية علاقتها ببعضها ضمن قالب لغوي معيَّن حيث التعبير عن العدد والجنس والزمان والمكان له قواعده. وكلما ارتقت المفاهيم عن الهموم اليومية لتتعاطى مع القيم الإنسانية الشاملة الموحّدة كلما كانت عملية الترجمة أسهل لاشتراك الإنسانية بمميزاتها. ولكن كيف تترجم لسكان الصحراء العربية نصاً لكاتب من الأسكيمو يصف فيه الثلج بجميع حالاته منذ تكونه الى مراحل هطوله الى أنواعه فوق الأرض؟ فكل لغة غنية بمفردات من خصوصيات مجتمعها. واللغة الأكدية لغة غنية تتمتع بطواعية كبيرة سهّلت لناظمي الأساطير ورواتها إبداع الإيقاع الشعري. وليست العربية مقصرة أبداً في هذا المجال خصوصاً بغنى اشتقاقات ألفاظها، ما جعلني أقف حائرة مراراً أمام الخيار بين مرادفات عدة لأقرر ليس فقط على اختيار الكلمة التي تؤدي المعنى بكامل طبقات أعماقه بل التي لا تتنافر مع الإيقاع جرساً. أما من حيث ترتيب الألفاظ في الجمل، فهنا نجد ان العربية تتميز عن الإنكليزية في هذا المجال. ففي الإنكليزية كما نعلم يحدد الترتيب في الجملة وظيفة الكلمات: فالإسم الذي يسبق الفعل هو الفاعل بينما الإسم الذي يليه هو المفعول به، وإذا عكسنا الترتيب نكون قد عكسنا الأدوار. مثلاً في عبارة The boy ate the apple يوجد اسمان هما "الصبي" و"التفاحة" فإذا عكسنا ترتيبهما تصبح التفاحة هي التي أكلت الصبي، وأية محاولة للتصرف بالترتيب تحتِّم إعادة الصيغة بما تستدعيه من إضافات. بينما إذا قلنا بالعربية أكل الصبيُّ التفاحة، فالترتيب وحده ليس هو الذي يحدد الأدوار بل حركات الإعراب التي تشير كلٌّ منها الى دور التعبير بصرف النظر عن الترتيب، علماً ان هناك ترتيباً أفضل من غيره، ولكن ليس من ترتيب مفضَّلٍ مسبق في الشعر حيث القافية والوزن والإيقاع لها تأثيرها. فأمام هذا الواقع حاولت في ترجمتي الحفاظ على المناخ الملحمي السائد مع مراعاة اختيار الألفاظ وترتيبها. كيف أقبلت على الترجمة؟ هل قارنت الترجمة الإنكليزية بترجمات أخرى؟ - أقبلتُ على الترجمة بشعور متضارب الاتجاهات. فالميثولوجيا وأساطيرها ليست من اختصاصي لكنها من صلب اهتماماتي. كنت قرأت بعضها سابقاً بالعربية وبالإنكليزية. لكن عندما طلب مني ترجمة العمل تهيَّبت الأمر كثيراً، فجو الملاحم والأساطير له سحره إن لم أقل قدسيته والدخول إليه يتطلب جهوزية نفسية والخروج منه، إذا أمكن، بترك بصمات ثابتة. أجد في قراءة الأساطير متعة كبيرة والغوص في أجوائها يولّد فينا جوّاً خاصاً يكون القاعدة الأساس في إمكانية الترجمة الخلاّقة، ومتى خَفَتَ هذا الجو استعصت عملية الترجمة. ومن جهة أخرى، إن ترجمة تراثٍ نُقش على ألواح من طين يتطلب أمانة شكلية تخاطب العين أيضاً، فأنا لم أنقل القصص وأحداثها بل نقلت ألواحاً بترتيب نصوصها، فهناك أجزاء من الألواح تالفة أو مكسورة، وهناك كلمات وعبارات اختفت كلياً. ومن الصعوبات التي واجهتني المحافظة بأمانة على ترتيب النصوص بحيث يدرك القارئ شكل الأصل. وهناك إشارات واضحة للمقاطع المجتزأة من خلال الأقواس والتنقيط. ولحركات الإعراب دور أساسي إذ قد نجد مثلاً عبارةً كالتالية: "فَتَحَ ] [ الشعبِ"، تحتوي هذه العبارة على فعل واسم فيتبادر الى ذهن القارىء أن الفاعل هو "الشعب" ولكن وجود الكسرة على الباء يُشير الى أن هذه الكلمة مُضافة الى الكلمة المفقودة ضمن القوسين قد تكون مثلاً "منازل" والفاعل ضمير مستتر، ويعبّر النص الإنكليزي عن هذه الاضافة بأداة جر هي "of". أما إذا كان المقطع المفقود قد ورد سابقاً بشكل أكمل فقد أعيد تركيبه مع الإشارة إلى الاعتماد على ما سبق. تسألني هل قارنت الترجمة الانكليزية بغيرها؟ كلا، فقبل البدء بالترجمة لم أعد قراءة الترجمات الأخرى، وفي مكتبتي الخاصة بعض منها. فهذه الترجمة، كما وضعتها، "علمية" لا تهدف الى نقل الرواية بتفاصيل أحداثها وأبطالها فحسب بل أيضاً بأشكال نصوصها، ولم أعد الى غيرها قبل الترجمة كي لا أكون تحت تأثير أجواء أي منها. وبدأتُ من النهاية، أي من القسم الأخير من الكتاب من مسرد أسماء الآلهة والأمكنة، وتم الاتفاق على توحيد المرادفات بالتشاور مع عالِمَين في هذا الحقل هما الدكتورة لمياء الغيلاني والأب الدكتور شفيق أبي زيد في معهد الدراسات الشرقية في جامعة أوكسفورد. في المقارنة بين ترجمتك وترجمة أنيس فريحة مثلاً لملحمة "كلكامش" نجد ان ثمة اختلافاً في النص، فترجمة فريحة بدت أدبية جداً وخالية من الشروح فيما بدت ترجمتك دقيقة وحافلة بالشروح. هل عدت الى ترجمة فريحة أو إلى ترجمات عربية أخرى؟ وكيف تنظرين الى العمل الذي قمت به على ضوء تلك الترجمات؟ - كما ذكرت لك سابقاً، فأنا لم أنقل في ترجمتي الروايات بتفاصيل أحداثها وأبطالها بطريقة متماسكة ومترابطة كما لو أردت الرواية، بل نقلت النصوص الإنكليزية إلى العربية بدقة تعكس تفاصيل الألواح الشكلية، ما استدعى الكثير من الشروحات والمقدمات والهوامش للإحاطة بجميع ظروفها التاريخية والاجتماعية إلخ... فيتسنى للقارئ أن يكوِّن فكرة عن الطريقة التي دُوِّنت فيها النصوص الأصلية، وعن شكل ألواح الطين التي نُقشت عليها الأساطير، وهذا الفارق العظيم بينها حينذاك وبين القلم والورقة أو شاشة الكومبيوتر والطابعة الآن. فهذا التراث الذي لا يُقدَّر لا يعبر فقط عن القدرات الفكرية والخيال الذي لا يعرف مدى وعن القدرات اللغوية المتفوقة، بل عما تطلب حفظه من مهارات وقدرات جسدية للحفر على ألواح طين صمدت عصوراً تغالب كوارث طبيعية وإنسانية لنقرأها اليوم باهتمام واستمتاع وذهول ودهشة. انطلاقاً من كونك تدرسين الألسنية والشعر كيف تنظرين الى استخدام الأسطورة شعرياً؟ وهل ما برحت الأسطورة تمثل مرجعاً شعرياً؟ - إن ميزة الإنسان اللغة، وميزة رقيه الحضاري الكتابة، وقد حُفِظَ تراث الحضارات في أساطير تميزها وإن تشابهت. فالتراث الإنساني بدأ روايةً شفهية تناقلتها الأجيال قبل التدوين. وقد رافقت الرواية الشفهية مظاهر الحياة في كل المجتمعات ولازمتها. ولما تزل ترافق الاحتفالات على تنوعها وتعبِّر عن الطقوس والعادات. والأهم، ما يعنينا، أنها كانت ترافق القوافل في ترحالها. ومن هنا أتت نصوصُها طويلة فيها تكرار لمقاطع عديدة، فكانت روايتها تستغرق طيلة مدة الرحلة، وأتى قالبها الشعري البديع نتيجة المنافسة بين رواة شعراء وموسيقيين بارعين تعاقد قادة الرحلات مع أفضلهم. أما من وجهة نظري كأستاذة لمادة الألسنية، فخلال تدريسي مادة "الألسنية والشعر" لطلاب الاختصاص، وجدت في الشعر الملحمي مادة غنية جداً للتطبيقات اللغوية بما تحويه من غنىً في المفردات والتراكيب ومحاولات استنفاد لامكانات اللغة الهائلة وطاقاتها المتعددة الطبقات والأبعاد والتداخلات. بعض الشعراء الذي لجأوا الى الأسطورة بدوا كأنهم يستعينون بها ليمنحوا شعرهم طابعاً تكوينياً، لكن البعض لم ينجحوا في استخدام الأسطورة فغدا استخدامهم لها نافراً ومصطنعاً؟ - لجأ بعض الشعراء المعاصرين الى الشعر الملحمي والأساطير، ولكلٍ هدفه. وهناك نماذج حديثة من الشعر الملحمي بنصوصه الطويلة وأحداثه البطولية، وأبطاله الذين يعاكسون الأقدار، أفراداً كانوا أم شعوباً بأكملها. وأذكر منهم الشاعر الكندي المعاصر هنري بايسل الذي أصدر تباعاً ملحمة من ستة أجزاء عنوانها "فصول من الدماء" استمد مادتها من ثورات مختلفة في عالمنا الحاضر ومنها لبنان. وقد تطلبت منه جهداً كبيراً فتنقل بين الشرق الأقصى وأفريقيا وأوروبا، عايش مجتمعاتها وقرأ تاريخ شعوبها وتعرف الى آدابها وكان بعد كل تجربة ينتظر أن تصبح جزءاً من كيانه قبل ان ينصرف الى تلبية فيض الوحي. إذن ظاهرة الشعر الملحمي حديثاً تتطلب تعاطياً عميقاً ومثقفاً وصبوراً يجري عكس تيار الحياة الحديثة وإيقاعها السريع الذي نراه يتجسد في قصائد قصيرة سريعة. فإذا كان بعض الشعراء، كما تقول، لجأ إلى الأسطورة وفشل فللأسباب التي ذكرتها عن ضرورة التمتع بثقافة حضارية شاملة وواسعة وعميقة وصادقة، إضافة الى مقدرة لغوية متينة وعفوية وقدرة على إبقاء شعلة الوحي متقدة طويلاً بعد الومضة الأولى.