كانت كالمعلمة الصارمة تقف بين مجموعة قليلة من السيدات في صباح يوم مشرق. القاعة المضيئة الانيقة تشبه قاعة درس فعلية، لكن مع تغيير كلي في "الديكور". فبدل مقاعد الصف حلّت الكراسي الوثيرة، وبدل الطاولات المدرسية كانت هناك طاولة مستديرة. وكانت مستحضرات التجميل هي مادة الدرس، لكن على اساس "تربوي" كما قالت المعلمة التي لم تفارق الابتسامة وجهها مع جدية واضحة، وعلى اساس اجتماعي نفسي علمي طبيعي. الموضوع هو "الظل والنور" في التجميل: طريقة جديدة في قولبة الوجه عند شانيل دون مس البشرة الا بأقل ما يمكن من المستحضرات. كريم بسيط، بودرة شفافة كأنها الحفيف، ذراتها تقف على البشرة وتغادرها في وقت واحد. بين المرايا ومستحضرات التجميل، بدأ الدرس. وضعت المعلمة علب البودرة الصغيرة الحجم بلونها الأسود امام التلميذات، وحملت علبة منها وسكيناً صغيرة، وقالت: يجب ان يُقص الغطاء البلاستيكي الذي يحمي البودرة بشكل دائري مع ترك نصف سنتمتر منه يحيط بالعلبة. والسبب منع تطاير البودرة عند رفع فرشاة التجميل عليها او تغطيس القطنة الخاصة بالتمرير على الوجه فيها. ثم يؤخذ شيء من البودرة بواسطة الفرشاة او القطنة وتُمرر على ظهر الكف قبل ان تلامس بشرة الوجه وتداعبها بشكل خفيف كهبة النسيم الرقيقة. فعلت المعلمة ذلك وتبعتها بقية الحاضرات، فظهرت البودرة الرقيقة الذرات، وحين لامست بشرة ظاهر اليد جعلتها تتألق دون ان تترك اثراً عليها. وأضافت المعلمة ان العملية ليست بالبساطة البادية للعين، لأن استعمال البودرة علم قائم بذاته، وإذا لم تتعلم المرأة كيفية نثر اللمسات التجميلة على وجهها وقعت في فخ "الطلس" الذي يكدس المساحيق عليه فيصير كالفرجة. عملية التجميل كعملية النحت، يحمل النحات الازميل فيلامس به الحجر بطريقة خفيفة او قوية حسب ما يتطلبه اخراج الفكرة. وتحمل الانيقة العصرية علبة البودرة بلون طبيعي بيد والفرشاة الناعمة بيد اخرى، وتبدأ بمسح الوجه بها برقة. وبودرة شانيل الضوئية لا تترك مجالاً للتكدس على البشرة، كأنها تذوب بمجرد اللمس، وتبدأ نضارة خاصة تظهر. لعبة الظل والنور تجري المعلمة التجربة على وجه احدى الحاضرات، بعد البودرة جاء دور القولبة الفعلي بواسطة لونين زهريين احدهما أغمق من الآخر. الأول اسمه الظل والثاني اسمه النور، واللونان قادمان من اشعة الشمس. اما سر استخدام هذين اللونين فهو فرشاة صغيرة بشكل مثلث. أمسكت المعلمة هذه الفرشاة بين اناملها، حركت بها البودرة المخضبة بالزهري الغامق ثم نفضت ذراتها على ظهر كفها كما فعلت في العملية الاولى. وقامت بتظليل الوجه في اماكن محددة، حول الوجه، من الاذنين حتى الذقن، من اعلى الاذنين حتى الأنف، وتحت العينين. اخذت اللون الأفتح، وبالفرشاة ذاتها مرّت على الجبين والوجه بين الخطوط التي رسمتها. كان هذا كل شيء، لكن النتيجة جاءت مدهشة. فعملية التضاد بين الظلال الاحادية اللون وإضاءة المناطق البارزة في الوجه كان لهما فعل مدهش، لقد تميز تعبير الوجه وشخصيته الى ابعد حد. هذا كل شيء في عملية التجميل بواسطة البودرة التي ابتكرها دومينيك مونكورتوا وهايدي موريوتيز في مختبرات دار شانيل التجميلية. قد تحتاج المرأة الى بعض الاضافات في تجميل الحاجبين والأهداب. ويحتاج الامر الى ملقط ومستحضر اسود او ملون لزج حسب الطلب. ودوماً تبدأ العملية بتمرير الملقط على المادة التجميلية وبعدها على ظاهر الكف، قبل ان تصل الى الحاجب فترسمه والى الاهداب فتعطيها لمعاناً جذاباً. ولم تتعرف التي خضعت لتجربة التجميل على وجهها بعد انتهاء العملية التي لم تدم اكثر من دقائق عدة. كان منحوتاً وهو لم ينحت، وكان محافظاً على شخصيته إنما تغير فيه شيء ما. هذا هو كل شيء وهذا هو السر. ضمن تحديات دار شانيل في ميدان التجميل المنطلق من فلسفة "الجمال النشيط"، كان هذا النوع الاخير القائم على اضاءة البشرة بالبودرة التي لا تظهر على الوجه، والتي لا تسمح لظهور التجاعيد فيه. فعادة تبتعد الانيقة عن استخدام البودرة لأنها تضايقها. ولأنها تجهل كيفية تطبيقها. وصار الأمر سهلاً اليوم مع القولبة الجديدة والتجفيف الجديد والاضاءة الجديدة. ولدت غبريال، صاحبة دار شانيل، قبل مئة وعشرة اعوام. وتركت اثراً قوياً في العصر الحالي لأنها ابتدعت المرأة العصرية. كانت تقول "ان الجمال ليس مرهوناً بالعمر". وكانت ادرى الناس بما تقول لأنها لم تتعلم الانصياع يوماً، ولا خضعت لمرور الزمن عليها. في سنة 1917 وجهت دعوة الى المرأة كي تتولى مصيرها بنفسها. وفي 1929 اصدرت دليلاً ضم اكثر من واحد وعشرين مستحضراً للعناية بالوجه والجسم وحمايتهما من الشمس ودفعهما في الوقت ذاته الى الاستفادة منها. وتعيد دار شانيل اليوم اصدار الدليل السنوي عنها. وعدده الأول عبارة عن مجلد ضخم لتاريخ الدار بكل نشاطاتها وتألقها. كما قالت المعلمة امام الحاضرات لدرس التجميل، فان شانيل كانت تتطلع الى تلقين النساء طريقة خاصة في ممارسة الحياة من خلال الجمال. وذلك بفضل برنامج يعتمد على تبسيط جمالية المرأة من قمة الرأس حتى اخمص القدمين، هذا يعني ان اسلوب غبريال شانيل يتلخص في تبسيط التجميل والاناقة، وخلع الثقيل من الزخرفة والحشو على الثوب والمعطف. كانت هذه المرأة اول من تحدث عن الحرية واليسر والرفاهية وأناقة المظهر الطبيعي. ولم يفكر احد قبلها بهذه الطريقة القريبة من قلب كل انسان. الوجه مرآة قالت غبرييل شانيل عن فلسفتها التجميلية: "ان اختلاجات الحياة الداخلية تنعكس في الوجه الذي يشبه مرآة شفافة. لذا يجب ان ينال هذا الوجه قسطاً وافراً من العناية". كانت تؤمن بالجمال النشيط ايضاً. قالت عنه: "ان الطبيعة تعطي الوجه سن العشرين، لكن علينا نحن ان نكتسب عن جدارة وجه سن الخمسين". طبقت غبرييل فلسفتها على ذاتها. اهتمت بكل التفاصيل، وسعت الى ان تكون خلفيات الأشياء جميلة بقدر وجهها. اختارت الجمال فلسفة للحياة. وأطلقته للتحدي. وأثبتت ذلك في كل صباح، طبقت فلسفة خاصة على البشرة وكتبت في وصيتها ان تثابر دارها دائماً على الخط الذي رسمته لجمال المرأة من خلالها هي. طبعاً، لا يُكتسب الجمال بطريق المصادفة وهو لا يعمر طويلاً، انه عمل ارادي نشيط يتطلب اتخاذ قرارات حاسمة. هناك نظرية طبقت عند شانيل في مجال العناية بالبشرة: يجب ان تكون المستحضرات حيوية على صورة البشرة العصرية والمرأة العصرية وان تلبي حاجات معينة بأدق تفاصيلها. لقد اكتشف علم الطبيعيات الحديث ان خلايا الجلد عبارة عن عالم فائق التعقيد، ومن اجل ذلك ابتكرت شانيل مستحضرات اطلقت عليها اسم "افعال الجمال" للبشرات الدهنية والعادية والجافة، وفعالية المستحضرات هي التنظيف والتقوية وتحقيق التوازن. ومن التغذية والتنظيف والتوازن والترطيب الى القولبة والتجفيف وإضاءة البشرة. قالت المعلمة في شرحها عن الفعاليتين الاخيرتين: "ان تأثير التجفيف بشكل محترف، عن طريق البودرة، هو شفاف وطويل الامد ويكسب خطوط الوجه مظهر الصبا والحيوية. والاضاءة تكمن في الميزات البصرية للصباغ والتحكم بانعكاسات الضوء، مما يؤدي الى نعومة حبيبات البشرة وطراوة ملمسها". كل امرأة تسعى الى اكتساب سر النعومة الفائقة والى الحصول على سر الصبا الدائم. ويمكن التوصل الى ذلك، حسب شانيل، عبر قولبة الوجه بلعبة النور والظل. هذا هو المستحضر الجديد المتحدي الذي قدمته شانيل ليكون اداة في يد المرأة من اجل نحت وجهها وإبراز خصوصياته بواسطة الظل والنور. فالأول يضفي الغموض والثاني ينير الوجه. وعلى المرأة ان تتعلم اللعبة هذه كما تعلمت القراءة والكتابة. هناك مادة اسمها "السيريسيت"، وهي معالجة بالسيليكون دخلت في تركيبة البودرة، فزادت في نعومتها ومنحتها ملمساً حريرياً متفوقاً. وسر الصبا موجود في هذه البودرة لاحتوائها على فيتامين "أي" الذي يحارب الذرات الحرة المسؤولة عن تسريع شيخوخة البشرة. اما سر المهنة في تطبيق ذلك، فهو تلك الفرشاة التي ابتكرتها شانيل خصيصاً وسجلتها باسمها من اجل عملية تجميل رفيعة المستوى ومتكاملة الدقة. تستخدم الجهة العريضة منها والمسطحة لنحت أرنبتي الانف وجانبي العنق وتجويف الخدين، وفق ما شرحته المعلمة. وتستخدم القطعة المستديرة للصدغين ولمنابت الشعر والرأس المستدير وتجويف الاهداب وترويسة الذقن. بدت بودرة "كمال التجفيف" او "لا بودر مات" مدهشة اثناء التطبيق، لأنها استطاعت التوفيق بين ما لا يمكن التوفيق بينه. وفُهم من الشرح انها تحتوي على صباغ يصحح النور ويصحح اللون، اختصت شانيل بصناعته عن طريق دراستها لتأثيرات البودرة المستخدمة في عمليات التجميل التصويرية، على بشرة المرأة فتستفيد منها كل يوم. غشاء رقيق من البودرة تصعب ملاحظته عملياً. ومنها "بودرة الشمس" او "برونز لوميير" الحقيقية المضغوطة التي تنير الوجه باحتوائها على الصباغ "المصحح للون"، وهي المسؤولة عن سر التألق والصبا. فمعها يبدو لون البشرة طبيعياً ودافئاً على مدى الأيام والفصول. تكمل المعلمة كلامها عن بودرة مضغوطة منيرة، وهي تحتوي على مركب خاص مستخلص من الپ"ميكاتيتان" الذي تقتصر صناعته على شانيل مع ذرات النيلون الصغيرة. ويُقال عنه صباغ بصري مصحح للنور، ومصحح للون بأصفره البرتقالي. ملمسه حريري وخالٍ من العطر. خاصيته التحكم بالنور عبر لمسة تتألق خلال اوقات النهار كلها. وتوفر هذه البودرة انارة شفافة في ألوانها الستة المتدرجة. وهي تكمل بودرة اللون البرونزية التي تعطي مزيداً من النور وتوحد بشكل شفاف لون البشرة التي لوحتها الشمس. تنهي المعلمة شرحها عن مجموعة علب البودرة الجديدة. لكن اصابع الحاضرات بقيت تغوص في محتوياتها. تحولت عملية التجميل الى لعبة ظل ونور. لكن التمييز بين لون ولون كان صعباً. ولأن الرقة متناهية بدا التداخل بينهما واضحاً. ماتت غبريال شانيل، او كوكو، وهي تقول: الجمال هو البساطة الأبدية. لم تخيب البودرة الاخيرة من مستحضرات تجميل دارها، املها. فهي اكثر من بساطة ابدية، هي شفافية ابدية حقاً.