أكتب هذه الأيام دراسة طويلة بمثابة مقدمة لثلاثة اعمال قديمة من تأليف الكاتب العربي المعروف مصطفى صادق الرافعي، هي "رسائل الاحزان" و "السحاب الاحمر" و "أوراق الورد". وقد تميزت هذه الكتب في عهدها بلغة ادبية جديدة تعتمد نثراً اقرب الى طبيعة الشعر، لتصوير تجربة الحب الرومانسي الذي يدفع الى التسامي والتمسك بالمثل العليا وعشق الجمال في الانسان والطبيعة والاخلاق، والى التأمل في النفس والحياة، كأن الحب استحال معه الى مجرد "مثير" لوجدان الأديب وخياله. تلك كانت طبيعة الحب في بداية هذا القرن الذي شهد مولد الحركة الوجدانية او "الرومانسية" في الأدب العربي بشعره ونثره. فعبّر الرومانسيون العرب من خلال صورته المثالية عن نزعتهم الى حياة قوامها الحق والخير والجمال، ومن خلاله عبروا عن حيرتهم بين القديم والجديد وعن شعورهم بما يشهدون من متناقشات في حياة نامية حافلة بالحركة والتقدم. وبهذا التصوير للحب - في مستواه العاطفي الاول ومستواه الرمزي الثاني - نشأ لون جديد من النثر الفني شارك فيه كثير من الرواد الى جانب الرافعي، منهم امين الريحاني، وجبران خليل جبران، ومصطفى لطفي المنفلوطي وغيرهم، وهو نثر تخلى عن كثير من تقاليد النثر العربي القديم، وابتدع اسلوباً حديثاً في لغته وأساليبه وايقاعه، وعرف منذ ذلك الوقت المبكر باسم "الشعر المنثور"، وانتهى في تطوره الطويل الى ما يُعرف اليوم عند شباب الشعراء والنقاد باسم "قصيدة النثر". وكان هؤلاء الأدباء في تطلعهم الى المثل العليا والى العدل والخير والجمال لا ينطلقون من منظار سياسي او اجتماعي او اخلاقي خاص. كانت رؤيتهم للواقع رؤية عاطفية غائمة يقلقها ما تشهد من قبح او ظلم او شر، لكنها لا تدرك حقيقته ودواعيه ادراكاً واعياً شاملاً، فلا يملكون الا الألم والهروب الى الحلم والتعبير عن كل ذلك بأسلوب فني جديد يمزج بين الحلم والألم. والألم محور اساسي في تجربة الحب الرومانسي وفي صورته الفنية وكأنما هو وقود دائم لوجدان الاديب المشبوب، يحميه من طمأنينة الحب الموفق واستقراره الذي يمكن ان ينتهي الى الركود. لذلك يبدو العاشق الرومانسي وكأنه يخلق لنفسه اسباب الفشل، وقد تهيأت له دواعي النجاح، حتى لا يفقد لذعة الألم الممتعة والمبدعة. يقول الرافعي في "رسائل الاحزان": "ولن تظهر قدرة الجمال وما فيه من القوة الأزلية الا اذا حملت على بغضه بعد ان يحملك على حبه، فيقتلك مرتين، كل مرة بسلاح وكل مرة بأسلوب وكل مرة بنوع من الألم. ان ساعة من ساعات هذا الضعف الانساني الذي نسميه "الحب" تنشئ للقلب تاريخاً طويلاً من العذاب، ان لم تكن آلامه هي لذاته بعينها فهي اسباب لذاته". وليست الرغبة غير الواعية في الفضل ابتكاراً خاصاً بالرومانسيين العرب في بدايات هذا القرن، فمن قبلهم كان الشعراء العذريون - الذين يشبهون الى حد كبير في مواقفهم وتجاربهم الادبية الاقران المعاصرين - كانوا يسلكون في حبهم سبل الفشل، ويتغنون بما يقودهم اليه من ألم. ولم يكن غريباً ان يفشلوا جميعاً - على كثرتهم - في الحب فلا ينتهي واحد منهم الى الظفر بمن يحب باستثناء شاعر واحد هو "قيس لبنى" الذي قُدر له بعد عناء شديد ان يتزوج لبنى لكنه عاد لغيرة امه وإلحاح ابيه، فطلقها واستوى مع الآخرين في الفشل! كان هؤلاء المحبون القدماء والمحدثون يهوون "فكرة" الحب، لا الحب نفسه في الحقيقة، اذ كانوا يجدون فيه وسيلة للتعبير عن روح العصر وما يتسم به من نقلة حضارية تصيب الوجدان بالحيرة او بالتطلع. وكل العشاق المعروفين - في عالم الواقع او في الأدب - هم في النهاية من ضحايا هذا التعلق الخيالي بمثال الحب، تبقى ذكراهم رمزاً لبقاء الحب نفسه بعد رحيلهم. مات مجنون ليلى ومات انطونيو ومات في القصص سيرانو دي برجيراك الشاعر وروميو وجولييت وسلمى كرامة بطلة "الاجنحة المتكسرة" لجبران وزينب في رواية هيكل، وبقيت سيرتهم رمزاً لفكرة الحب. مسرحية "مجنون ليلى" لشوقي، تنتهي على الشكل الآتي: "نحن في الدنيا وان لم ترنا لم تمت ليلى... ولا المجنون مات". وهكذا تنتهي مسرحية "روميو وجولييت" لشكسبير؟ "بالسلام الحزين الذي اطل هذا الصباح، والشمس أبت ان تجلو غرتها من فرط الأسى والنواح... اذهبوا من هنا وخذوا في حديث هذا المصاب!". ومن المعروف ان الرافعي قد ابدع كتبه الثلاثة بعد ان خاض تجربة حب مثالي نابع، في أغلب الظن، من تخليه الرومانسي، وتأويله لمواقف قد لا تتعدى في حقيقتها الصداقة والمودة والتقارب الفكري. فاذا بالأديب يحمّل النظرة او الكلمة العابرة معاني لم تخطر على بال قائلتها، فيقيم صرحاً من حب خيالي كان لا بد ان ينهار في اول مواجهة حقيقية للواقع. كانت الاديبة اللبنانية المعروفة مي زيادة درجت على عادة مألوفة في ذلك الزمان ففتحت "صالونها الادبي" لطائفة من الادباء المرموقين يفدون اليه يوم الثلثاء من كل اسبوع، تجذبهم تلك الشخصية النادرة في المجتمع العربي حينذاك وهي تستمع اليهم وتحاورهم في الأدب والفكر. ولم تكن العلاقات الانسانية متاحة تلك الايام كما هي في هذا العصر، فوقع كثيرون في حبها، وخُيل الى كل منهم انها تصطفيه دون الآخرين. ويبدو ان الرافعي كان اكثرهم تعلقاً بفكرة الحب واكثرهم مقدرة على التأويل لمواقف واشارات وأحاديث لا تعني بالضرورة شيئاً: "رأيتها مرة في مرآتها وكانت وقفت تسوي خصلة من شعرها ولم يكن قصدها ذلك كما علمت، وانما ارادت ان تطيل نظرها اليّ من حيث لا استطيع ان اقول انها هي التي تنظر، فان ذلك الذي ينظر كان خيالها، وكأنما ارادت ان تبعث اليّ بكتاب يحتويها كلها ولا يكون في يدي منه شيء، فأرتني مرآتها". وكان جديراً بهذا الحب الذي بُني على الوهم او التخيل، ان ينهار في وقت من الاوقات، لحظة ارتطامه بصخرة الواقع. فقد دخل الرافعي الى صالونها ذات يوم وكان في مجلسها شاعر معروف، فنهضت الى استقباله ثم عادت لتكمل حديثها مع الشاعر، وطال انتظار الرافعي ان تلتفت اليه وخُيل اليه انها قد انصرفت بعواطفها عنه الى الشاعر فخرج غاضباً وكتب اليها رسالة قطيعة عام 1923، ولم يرها منذ ذلك اليوم الا مرة عابرة في حفل عام. وانقلب ما كان حباً جارفاً الى بغض جارف يتفنن الرافعي في تصويره كما كان يتفنن من قبل في حديثه عن الحب والجمال. ونحن في الحالتين امام اقصى ما يمكن ان يبلغه شعور بالحب او البغضاء. فحين احب الكاتب عقد بين المرأة والنور وشائج القربى، وحين كرهها خلع عليها ثياب الشر وطباع الشياطين، بأسلوب يقوم على توليد المعاني والاكثار من المرادفات وازدواج الجمل ولغة المجاز. يقول الرافعي مثلاً في حالة الرضى: "انها شاعرة ... تكاد لا ترى فيها من جهات الارض شيئاً... كأنما تركت المادة الانسانية في أبويها وخرجت من ذلك الحطب والورق مخرج الزهرة الناعمة، بنية من اللون وجسماً من العطر ونسيجاً متماسكاً من الشعاع. خرجت عاطفة مولودة لا يتصل بروحها شيء الا نبت وأخضر ثم نور وأزهر، كأن طبيعة الجمال خبأت في قلبها سر الربيع، وهي الصافية كرقة النسيم والناعمة كملمس الماء والضاحية كطلقة الشمس...". ويقول في حال السخط: "وما احسب ان ألحاظ المرأة الجميلة يكون فيها ذلك الفتور وذلك التكسّر الا بما تحمل من الاشعة المسمومة، تلك الاشعة التي متى وقعت في الدم طبعت في كل ذرة منه صورة من صور تلك المرأة، عدت أراها هي وأمثالها من الحبيبات كفقاقيع الرغوة في ألوانها وجمالها وانتفاخها، وفراغها". ومن يقرأ الكتب الثلاثة، يدرك الى اي مدى تحولت التجربة العاطفية وتغير النثر الفني منذ ذلك الحين حتى اليوم. المرأة لم تعد عند الكاتب والشاعر كائناً اسطورياً، يبتدعه الخيال بعيداً عن واقع الحياة، بل غدت، في الشعر والقصة والمسرح، شخصية تعيش الواقع بكل احواله وقضاياه، لا يرتبط وجودها عن الرجل بالحب وحده ولا يتلخص في اثارة خياله وتأرجحه بين الرضى والغضب. اما النثر، فلم يعد زخرفاً من القول او قدرة بارعة على توليد المعاني، بل اصبح تعبيراً عن مواقف نفسية، وقيم اجتماعية، ومثل انسانية، يمتزج فيها الاسلوب بالفكر دون قصد التصنع. لكن القارئ قد يدرك مع ذلك، ان هذا اللون من النثر الفني قد انتهى في لباس هذه الى صيغة جديدة مسّتها يد التطور والتجديد، والتأثر بنظريات مبتكرة في الابداع والنقد، فأصبحت "قصيدة النثر" وان كان اصحابها هذه الجذور الاولى ونسبوها كلية الى نظرية جديدة في مفهوم الشعر.