سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المتطرفون الجدد - ندوة "الوسط" : انتهى عصر التطرف السياسي العربي وبدأ عصر التطرف الديني في المنطقة ؟
نشر في الحياة يوم 24 - 05 - 1993

هل سقطت الراديكالية العربية؟ هل انتهى عصر التطرف السياسي العربي وأصبحت ظاهرة "الاسلام السياسي" او "التطرف الديني" هي سمة هذه المرحلة من تاريخنا؟ كثيرة هي الدلائل على ان العالم العربي دخل مرحلة جديدة حلت فيها مفاهيم المصلحة الوطنية والروح العملية محل الشعارات القومية والتوجهات الايديولوجية التي اقترنت بصعود الراديكالية في مرحلة سابقة. فعلى رغم انكسار الحركة القومية العربية منذ اواخر الستينات لم تتراجع النزعة الراديكالية تراجعاً جوهرياً اذ بقيت عنواناً لسياسات بعض الانظمة العربية حتى من دون مضمون حقيقي لها. هذه التساؤلات هي محور هذه الندوة التي عقدتها "الوسط" في مكتبها في القاهرة وأدارها عمرو عبدالسميع. حيث دارت المناقشة حول المحاور الآتية:
- اولاً: خصائص الراديكالية العربية والظروف التي اتاحت صعودها في مرحلة محددة، وتقييم هذه المرحلة سلباً وايجاباً في ظل السؤال الفرعي الآتي: هل كانت هذه الراديكالية تعبيراً عن ظرف موضوعي اقتضاها بالفعل؟ وهل كانت - بالتالي - ضرورة او استجابة لهذا الظرف ام كانت متجاوزة للواقع وامكاناته الفعلية؟
- ثانياً: عوامل هزيمة الراديكالية العربية، وهل يجوز القبول بالنظرية التبسيطية التي ترجع كل اخفاق عربي الى مؤامرة خارجية امبريالية غالباً؟ ام ينبغي البحث في العوامل الداخلية الخاصة - في العلم الاجتماعي والطبيعي على السواء - التي تحكم تطور اية ظاهرة وتحدد امكانات وحدود التأثير الخارجي؟
- ثالثاً: حصاد الراديكالية العربية في جانبيها الداخلي والخارجي.
- رابعاً: ما بقي من الراديكالية العربية الآن، هل تركت تراثاً جدياً يمكن ان يتيح توقع ظهور موجة جديدة لها في المستقبل؟
- خامساً: الى اي مدى يمكن اعتبار ظاهرة الاسلام السياسي امتداداً للراديكالية العربية، على رغم الموقف العدائي الذي تتبناه قوى هذا الاسلام تجاهها كدولة وكتيار فكري وكحركة سياسية؟ وبالتالي هل هناك اي اساس موضوعي للمحاولة التي يقوم بها فريق من انصار الراديكالية العربية لتنظيم حوار قومي - اسلامي؟
وقد شارك في هذه الندوة:
1 - فهمي هويدي، كاتب ومفكر سياسي متخصص في الفكر الاسلامي وله مؤلفات عدة.
2 - تحسين بشير، سفير سابق ومتحدث رسمي باسم الحكومة في مطلع السبعينات وخبير في الشؤون الدولية.
3 - محمد سيد احمد، كاتب ومفكر سياسي له مؤلفات بارزة عدة.
4 - سعدالدين ابراهيم، استاذ جامعي وكاتب وخبير سياسي معروف.
5 - احمد يوسف، استاذ النظم السياسية في جامعة القاهرة وله مؤلفات عدة.
وفي ما يأتي الحلقة الاولى من هذه الندوة:
ما هي العوامل التي ادت الى ظهور الاتجاهات الراديكالية المتطرفة في العالم العربي؟
- سعدالدين ابراهيم: اذا تحدثنا عن الراديكالية العربية التي ظهرت من قبل في الخمسينات والستينات، فطبعاً كانت هناك بيئة مناسبة ومحفزة لظهور هذه الراديكالية. ففترة الخمسينات والستينات كانت فترة اعقبت الاستقلال الوطني وتعثر الانظمة التي كانت تُسمى بالليبرالية، خصوصاً في الحزام الشمالي من دول المنطقة العربية، فهذه الدول، سواء قبيل الاستقلال بقليل او بعد الاستقلال، اتبعت انظمة حكم مشابهة للانظمة الغربية سواء الفرنسية او الانكليزية طبقاً للحقبة الاستعمارية او للارث الاستعماري الذي ورثته، وهذه الانظمة الليبرالية وصلت الى منتهى قدرتها في الانجاز في السنوات الاولى من الخمسينات، وكانت الحرب او الهزيمة الاولى في فلسطين عام 1948 مؤشراً على انتهاء تلك الحقبة الليبرالية التي اهملت فيها المسألة الاجتماعية اهمالاً كاملاً، فأصبح عندنا القضية الوطنية لأن بعض البلدان لم يكن استقلالها كاملاً، عندنا قضية قومية وهي فلسطين، عندنا قضية اجتماعية لم تتعامل معها الأنظمة الليبرالية بكفاءة، ولذلك كانت فترة الاربعينات حبلى بالنقد الاجتماعي والوطني والقومي وظهرت فيها كل التيارات او البذور الجنينية للتيارات الراديكالية التي يمكن تحديدها على سبيل المثال لا الحصر، بمصر الفتاة والاخوان المسلمين، والاتجاهات اليسارية، خصوصاً الماركسية منها، وحتى بعض الاحزاب الليبرالية القديمة نبتت من احشائها نواة راديكالية. وكان هذا هو المناخ او البيئة التي مهدت لظهور الراديكالية العربية التي اخذت في الخمسينات والستينات ثلاث صور وأهمها طبعاً الناصرية ممثلة في ثورة تموز يوليو 1952 وطرحها الراديكالي لكل القضايا التي تحدث عنها النقاد الاجتماعيون في الاربعينات، بالاضافة الى حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب. هذه هي الراديكالية العربية في موجتها الاولى في الخمسينات والستينات والتي رفعت شعارات قومية مثل الوحدة العربية وتحرير فلسطين والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية. كل هذه الشعارات التي رفعتها الراديكالية العربية مهدت لها او سهلت لها اجتذاب قطاعات واسعة من الجماهير، لكن هذه الراديكالية العربية شأنها شأن العصر الليبرالي السابق لها، وصلت الى قمة انجازاتها في منتصف الستينات وبدأت تنحسر وتكشف عن عيوبها وعوراتها تدريجياً، ولكن عجزها اتضح بشكل درامي في هزيمة 1967، ومنذ ذلك الوقت تجتاح المنطقة موجة جديدة من الراديكالية الاسلامية.
الى اي مدى يمكن الحديث عن علاقة بين الراديكاليتين العربية والاسلامية؟
- سعدالدين ابراهيم: الراديكالية الاسلامية بشكل ما ورثت شعارات المرحلتين السابقتين، الارث الوطني الاستقلالي وكذلك الارث القومي الاجتماعي، اي ان ما لم تفلح فيه الليبرالية وما لم تنجزه الراديكالية القومية في عصر المد القومي العربي ورثته الراديكالية الاسلامية واعادت تعبئته واضافت اليه من خطابها السياسي والديني. وهذه هي المرحلة التي نعيشها. واقول ان هذه الموجات الثلاث، موجة الليبرالية العربية وتعثرها منذ نهاية الاربعينات وبداية الخمسينات، والراديكالية القومية التي ازدهرت في الخمسينات والستينات ووصلت الى منتهاها في أواخر الستينات وبالتحديد مع هزيمة 1967، ثم الموجة الثالثة او الراديكالية الاسلامية المعاصرة، كلها تقتات تقريباً على القضايا نفسها، جنودها هم التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية نفسها وهم ابناء الطبقات الوسطى، خصوصاً الطبقة الوسطى الصغيرة والدنيا. والطبقات الوسطى دائماً في نمو عددي. ولو اخذنا مصر على سبيل المثال كحالة مجهرية نجد ان هذه الطبقة نمت نمواً سريعاً في فترة ما بين الحربين، خصوصاً بعد الحصول على الاستقلال السياسي وحينما انفتحت ابواب المدارس والجامعات والكليات العسكرية لابنائها الذين زاد عددهم وبدأوا يشعرون ان النظام الليبرالي غير قادر على استيعابهم. الشيء نفسه نجده بعد ثلاثين سنة، حيث جاءت الراديكالية القومية وحققت انجازات وصلت الى سقف معين، في اثناء انجازاتها ساعدت من حيث قصدت او من حيث لم تقصد على زيادة وتضخيم الطبقات الوسطى بحكم التأميمات وبرامج التنمية السريعة وبحكم التوقعات الجديدة والاحلام التي رفعتها وروجت لها. لكن كما يعلّمنا التاريخ دائماً كگأانت هذه ايضاً بذور فناء الموجة الراديكالية القومية التي لم تستطع ان تطور نفسها بما يحقق لها الاستمرار مدة اطول. من هنا نحن نعيش مرحلة مخاض راديكالية ثالثة هي الراديكالية الاسلامية التي كما قلت تقتات على الشعارات نفسها، من حيث المضمون على الاقل، حتى ولو كانت لغة الخطاب مختلفة اي اسلامية، ولكن من حيث ايمانها بالعدالة والاستقلال وبتأكيد الذاتية والهوية كل هذه الامور تكاد تكون خيوطاً متصلة مع اضافة لكل موجة من الراديكالية تضيف خيوطاً جديدة، هذا هو ما نعيشه الآن.
الصراع بين الراديكاليين
دكتور احمد يوسف، في ما يتعلق بمسألة راديكالية الأنظمة القومية، ورد في كلام الدكتور سعدالدين ابراهيم، وأظن اننا نوافق على هذا، انها نهجت نهجين: الاول متعلق بعلاقتها بالجماهير من حيث انها تبنت مطالب جماهيرية تتعلق بالعدل الاجتماعي، ثم تبنت قضايا قومية على المستوى العربي. وكان المفرض ان هذا يقرب بينها وبين غيرها من الانظمة ذات الطبيعة المتشابهة. في الامرين نجد ملاحظتين: الاولى انها حين اعلنت تبنيها لموقف الجماهير عمدت الى نفي هذه الجماهير او اقصائها عن دائرة الصوت، ثم حين تحدثت عن قضايا قومية تلتقي فيها مع انظمة اخرى كانت ابرز صراعاتها مع انظمة قومية مشابهة في الطبيعة وفي الهدف وفي المبادئ، ما تقويمك لذلك؟
- احمد يوسف: هذا السؤال في الحقيقة مهم جداً واعتقد انه دخل مباشرة في موضوع ما سماه الدكتور سعدالدين ابراهيم انتهاء موجة وبروز موجة اخرى. فالسؤال يثير تفسير هذا الانتهاء من خلال نقطتين في منتهى الاهمية: نقطة تتعلق بالبنية الداخلية لهذه الانظمة بقضية الديموقراطية، ونقطة تتعلق بالعلاقات في ما بينها، والموضوعان في منتهى الاهمية، ويرتبطان بنقطة ثالثة اثيرت في ورقة العمل، لا ادري اذا كان الوقت مناسباً لاثارتها الآن او لا وهي فكرة الدور الخارجي، ولذلك فالسؤال هو: الى اي مدى يمكن ان ينسب انتهاء كل موجة الى ثلاثة مستويات: مستوى داخلي خاص بالنظم ومستوى اقليمي خاص بالعلاقات بينها، ومستوى دولي خاص بالتحديات التي تواجهها من الخارج. سأبدأ بإشارة سريعة الى المستوى الاخير لانه يثير جدالاً واسعاً كما تذكر ورقة العمل. الحقيقة، وانا اتفق مع هذا الطرح، هناك نزعة تبسيطية لتفسير الاخفاق بالتآمر الخارجي، فهذا الامر موجود على الاقل منذ التاريخ الحديث، نراه في حالتي محمد علي وعبدالناصر، ولكن القضية انه، كما ذكرت ورقة العمل، دائماً العوامل الداخلية هي الأكثر جدارة بالتفسير، لا شك ان التآمر الخارجي موجود، ولكن في الوقت نفسه درجة مقاومة الجسم الراديكالي لهذا العمل الخارجي تتباين قوة وضعفاً حسب عوامل داخلية واقليمية، وهذا يشدني مباشرة الى النقطتين اللتين ذكرتهما.
النقطة الاولى، هي التي يمكن تسميتها غياب الديموقراطية او الفشل في تحقيق الديموقراطية. ربما تكون هناك ظروف موضوعية هي التي افضت الى هذه الموجة من النظم ويمكن القول بأنه ربما لم تكن الظروف الموضوعية ناضجة بما يكفي للعمل النموذجي الديموقراطي الذي نتمناه. والحقيقة الواقعة بغض النظر عن المبررات انها فشلت كما ذكرت في سؤالك في جمع الجماهير حولها، من خلال اطار مؤسس. اذكر هنا تحليلاً اعجبني للاستاذ طارق البشري قاله في ندوة كنا نظمناها في مركز البحوث السياسية بجامعة القاهرة حول ثورة 1952 قد لا يعيبها انها لم تنجز ديموقراطية ليبرالية، لكنها تنتقد لانها لم تبن تنظيماً واحداً قوياً. يعني اقصد انه ربما نقول ان الصيغة في حينه كانت تقتضي هذا، لكن حتى في حدود هذه الصيغة كان هناك اخفاق في بناء تنظيم يجمع الجماهير. اذن قضية الديموقراطية كانت بصفة عامة في هذه النظم غائبة بدرجة أو بأخرى. بعض النظم وصل الى درجة مريعة في تجاهل الديموقراطية وحقوق الانسان، وبعض النظم، كالنظام المصري، وصف بأنه ديموقراطية بالموافقة، بمعنى ان الجماهير كانت توافق ولكنها لا تشارك. ان النخب التي قادت معارك التحرر نحو الاستقلال وبعد ان استكانت لها سلطة الدولة، ولا نريد ان نسمي لأنها ظاهرة عامة، بدأت تفعل فعلها في الاغتراف من موارد الدولة وبالتالي بدأت المعادلة تختل بين مال النخبة ومال الناس، فبدأت قضية العدالة التي كانت من ابرز شعارات المرحلة القومية، كما طرحها الدكتور سعد ربما تتوارى شيئاً فشيئاً، وبدأت قضية التنمية ايضاً تتعثر، وأعتقد ان النخبة مسؤولة الى درجة كبيرة عن هذا التعثر في حدود العوامل الاخرى، اذن هذا هو العامل الذاتي الخاص بها.
العامل الثاني: الذي لا يقل اهمية هو عامل الصدام بين هذه النظم ذات الطبيعة المتشابهة، وربما قدر لي في هذه النقطة تحديداً ان أتناولها في دراسة قمت بها أثبتت في حدود المنهج المتبع طبعاً ان درجة حدة الصراع بينها وبين الأنظمة الراديكالية كانت أكثر من ضعف درجة حدة الصراع بينها وبين الأنظمة المحافظة التي يفترض انها خصمها الاصيل. في مثال لذلك العلاقة بين الجمهورية العربية المتحدة ونظام حكم عبدالكريم قاسم في العراق، كلاهما نظام راديكالي ومع ذلك كان هذا من الصراعات القليلة التي ادارها نظام الحكم بزعامة عبدالناصر من خلال محاولات انقلابية ضد نظام آخر. ومثال آخر واضح هو حدة الصراع بين بعث سورية وبعث العراق. بل ان الصراع بين الناصرية والبعثية ليس له اسس ايديولوجية، فعندما يقرأ الانسان ايديولوجية هؤلاء وهؤلاء لا يجد مبرراً للصدام من الناحية الايديولوجية. اذن كان الصدام صداماً سياسياً اصيلاً على زعامة منطقة وعلى الحكم، لكن المحصلة ان هذه النظم استنزفت مواردها الذاتية في صدام في ما بينها، بحيث ان هذا كان احد عوامل سقوطها، والظاهرة نفسها للاسف ما زالت تعيش معنا، في ما بقي من هذه النظم، لانه غير صحيح انها سقطت، فهي ربما اخفقت في تحقيق الاهداف، لكن بعضها ما زال باقياً في سدة الحكم، فإخفاقها في تحقيق اهدافها يعود، في تقديري، الى مجموعة من العوامل الذاتية، سواء المتعلقة منها بالديموقراطية او عدم قدرة النخبة على تحقيق اهداف التنمية والعدالة، والعامل الثاني الخاص بالصدام بين بعضها البعض. وبعد هذا يأتي التآمر الخارجي او العامل الخارجي.
لا عداء بين التيارين
استاذ محمد سيد احمد، يميل البعض الى تفسير مسألة التيار الراديكالي القومي أو التيار الراديكالي الاسلامي ليس بوصفه حركات تؤمن فيها الجماهير بالفكرة القومية او بالفكرة الاسلامية، وانما حركات يمكنها ان تستوعب حالات متنوعة في الدرجة والمستوى من التوتر الاجتماعي. ما تقويمك لهذا الرأي؟
- محمد سيد أحمد: أعتقد ان هذا هو جوهر الموضوع، والنابع من افراز مجتمعي متجدد وضروري للراديكالية في الحقبة الحديثة من تاريخنا، فالاساس هنا ليس التعبير الايديولوجي بقدر ما هو اسباب مجتمعية عميقة مبررة لهذه العملية، والثوب الايديولوجي قد يختلف من مرحلة تاريخية الى اخرى لأسباب كثيرة يمكن تفسيرها، ولكن في نهاية الامر نحن بصدد عملية لها شقان: الشق الاول فرص تبدو متاحة لوضع افضل وتطلع يكون موقفاً راديكالياً معيناً وكفيلاً بإنجاز التغيير المطلوب، وواقع قاصر عن هذه التطلعات. فمثلاً في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة قيل ان النظام الاستعماري السابق انتهى، وقيل ان هناك فرصاً متاحة مع الاستقلال، ثم ظهر ان العملية لا تتحقق بهذه السهولة، مما يدعم مواقف راديكالية لمحاولة تجاوز هذه الفجوة. وفي الظرف الحالي قيل ان هناك نظاماً دولياً جديداً وامكانات متاحة لكن الذي يتحقق ليس هكذا. ما زلنا في عالم ينسب الى قيم معينة ولكن التطبيق قاصر او الواقع الاجتماعي متفاوت وقاصر عن انجاز هذه الاهداف، فالراديكالية تتجدد بأشكال مختلفة، الراديكالية في النهاية هي رد فعل اكثر منها فعلاً، الفعل من اجل تجاوز اسباب الراديكالية شيء مختلف عن الراديكالية، شيء مطلوب ومضاف الى الافرازات التي تنتج الراديكالية. من الممكن ان الراديكالية تتقمص اوضاعاً مختلفة لكنها تكون في اغلب الاحوال تعبيراً عن رد فعل لحالة قلقة لانها تتطلع الى اشياء غير قابلة للتنفيذ، ولكن لا تحمل الراديكالية في حد ذاتها، بالضرورة، الحلول للخروج من المأزق. وربما هذه هي المعضلة التي وجدت وتتكرر، طبعاً الثوب القومي كان تعبيراً عنها في ظرف معين، والثوب التقدمي كان تعبيراً عنها ايضاً في ظرف آخر، اليوم قد يكون التعبير الديني تعبيراً آخر له في ظل خيبة الامل التي ترتبت على الاثواب السابقة ولم تتحقق التطلعات المنشودة.
استاذ فهمي هويدي، ما هو سبب العداء بين التيارين الديني والقومي في العالم العربي؟
- فهمي هويدي: الحقيقة انا عندي تردد شديد في الموافقة على كثير من المفردات المستخدمة، فمثلاً ما ذكرته ان هناك حالة عداء وما وصفته بعاهات قائمة بين التيارين القومي والاسلامي، انا لا اوافق على هذا الطرح، فهي ليست عاهات، ويمكن ان نسميها ندوباً، وألاحظ بهذه المناسبة ان قراءة التاريخ في الورقة تنطوي على تبسيط شديد جداً، يعني مثلاً انا لا اظن ان الموقف التقليدي بين التيارين القومي والاسلامي هو موقف عداء، فهذه ظاهرة حديثة جداً. فمثلاً في سورية كان العمل العربي والعمل الاسلامي متفاهمين ودخلا الانتخابات معاً، ولذلك فإن لحظة تاريخية مضيئة هي لحظة اشتباك ثورة تموز يوليو مع حركة الاخوان المسلمين، ينبغي ألا نعمم ونستخلص منها قاعدة عداء تقليدي وأبدي بين التيارين، لانني ازعم ان الحركة القومية في العالم العربي، بمفهومها السياسي او الحزبي، خرجت من عباءة الحالة الاسلامية. يعني الكواكبي كان يتكلم كعربي واسلامي، ولم تكن عنده هذه المفاضلة بين عروبته واسلاميته، ومن هنا فأنا ازعم ان التعميم قد يكون ظالما. حقاً هناك بعض الآثار المترسبة، تحديداً بين حركة الاخوان او بعض فصائل حركة الاخوان وبين الناصريين، لكن هذه الحالة لا ينبغي ان تعمم ونستخلص منها ان الحركة القومية هي بالضرورة حركة معادية او مشتبكة الى حد العداء مع الحركة الاسلامية، لان هناك فصائل ليست قليلة في الساحة الاسلامية لا ترى ان هذا الطرح صحيح.
هل تذكر لنا أمثلة لها؟
- فهمي هويدي: المشكلة ان الحديث عن الحالة الاسلامية يقتصر على الاخوان المسلمين في مصر، بينما الاخوان المسلمون ليسوا كل الحالة الاسلامية. هناك مساحة واسعة، يعني في مصر مساحة واسعة من الحالة الاسلامية ليست مغطاة سياسياً او ليس لها منابر للتعبير، وبالتالي عندما تطلب امثلة لا استطيع ان اذكر حالات محددة، يعني عندما يُقال في مصر في وقت من الاوقات ان هناك ما يسمى الاسلاميون فهذه محاولة للايحاء بأن هناك شيئاً خارج الاخوان وخارج جماعة الجهاد وخارج الجماعة الاسلامية وخارج كل هذه التصنيفات. لكن الحوائل القانونية في مصر لا تتيح لهؤلاء التعبير عن انفسهم، وبالتالي هم يشكلون وزناً مهماً في الساحة الاسلامية لكنهم محذوفون من الخريطة لانه في التقسيمة التقليدية ليس لهم كيان سياسي معبر عنهم، لكن ازعم في كتابات عديدة ان هذا الاشتباك الذي يصنف باعتباره عاهة ليس ابدياً ولا تقليدياً، ثم انه ليس عسير الترميم. وألاحظ وجود اشارة في نهاية الورقة الى موضوع الحوار الاسلامي القومي، وأرى ان هذا شيء طبيعي جداً ولا ينبغي ان يُحّمل بالايحاءات الواردة في الورقة، لان هذين التيارين يسيران في مجرى يحتم عليهما اللقاء بحكم تعبيرهما الحقيقي عن الهوية لهذه الامة التي هي في نهاية المطاف امة عربية واسلامية، وعندما تلتقي القوى المعبرة عن هذه الهوية لا ينبغي ان يكون هذا محل استغراب بل العكس هو المستغرب.
"أرى اسلاماً ولا أرى مسلمين"
يتفق التياران القومي والاسلامي في ما يتعلق بمفهوم العدو، حيث ينظران الى الولايات المتحدة والى الغرب عموماً بوصفهما الجهة التي يدور معها الصراع المحوري، وعلى رغم هذا فإن منهج كل منهما في هذا الصراع يحتوي على الكثير من محاولات الاقتراب؟
- تحسين بشير: توجد مشكلة رئيسية، فأنا فعلاً متفق مع الدكتور سعد في تصنيفه للطبقة الوسطى والطبقة الوسطى الدنيا، الا ان المشكلة اعمق من هذا بكثير. المشكلة هي فشل عدد من الدول العربية في اقامة نظام الدولة ونظام المواطنة ومؤسسات الدولة ومؤسسات المواطنة. العالم الاسلامي في تاريخه البعيد لم تقم فيه دول، ولم تكن هناك فكرة المواطن، فكرة المواطن جديدة وفكرة الدولة جديدة. اذا كنا دار الاسلام فكل واحد في دار الاسلام مسلم له حقوق، وذمي له حقوق وما غير ذلك له بعض الحقوق. كانت هناك نظم حكم متصارعة، تبحث عن مذهب تدعو اليه حتى تكتسب رضاء الناس، وانا ابدأ بفكرة الوطن لان اول دولة قامت في العالم العربي لم تكن قومية بالمعنى المستخدم حالياً، وهي الدولة المصرية، فهي دولة قديمة سبقت الحركة القومية. في مصر قامت الدولة اولاً، ثم قام الشعب المصري، الدولة قامت عن طريق مركزية الفرعون، ثم جاءت اليهودية وجاءت المسيحية وجاء الاسلام. ولمثل هذه الدولة وضع خاص في العالم العربي لا يعمم. عدد من الدول العربية قام عن طريق الخطأ، فلم تكن هناك حركة مهمة في العراق مثلاً او في سورية او في فلسطين تدعو الى دولة اسمها فلسطين او العراق او سورية، ولما أراد الانكليز اقامتها اخذوا يبحثون هل يأتون بالامير احمد فؤاد او بآخرين ومن أولى ممّن. ولما قامت هذه الدول في شرق مصر او المشرق كانت هناك دعوة الى الوحدة، اي الى عالم عربي وحاكم عربي، ولكن تحت هذا الحاكم ما هو شكل النظام وشكل الدولة، وما هو مفهوم المواطنة، لم يتفقوا على شيء. والمثقفون في بيروت معظمهم مسيحيون يريدون شيئاً رسمياً، يريدون علمانية نحن لا نعرفها، فما هي العلمانية؟ كلمة كانت غير مستخدمة في مصر بالمرة، الضباط المصريون في الجيش العثماني - من ضمنهم عزيز المصري - يريدون ان يحكموا على الطريقة العثمانية بان توركزم ونحن اصبحنا بان ارابيزم اذن نعتمد على من؟ عكس الاتجاه الاسلامي الحالي، وما عدا الحزب الوطني في مصر اتجهت الدولة او الحركات العربية الى الاعتماد على الغرب، اي فرنسا وانكلترا، المشكلة الرئيسية الآن في العالم العربي هي ان الدولة لم تقم. والمشكلة ايضاً ان الفكر القومي والفكر الاسلامي كليهما لم يطرح بعد ما طرح في الماضي في عهد جمال الدين الافغاني ومحمد عبده والكواكبي، ولما نزل الطهطاوي في باريس قال "أرى اسلاماً ولا أرى مسلمين". وفي مصر قال "أرى مسلمين ولا أرى اسلاماً". في ذلك العصر لم تكن هناك الفوارق الفكرية الموجودة حالياً بين الحركات القائمة سواء كانت قومية او اسلامية. في مصر عدد الاخوان والجهاد والتكفير وهذه الجماعات عدد صغير جداً، ولكن هؤلاء هم النشيطون سياسياً، والذين لهم مطالب اجتماعية، ولكن حتى هؤلاء، مثل القوميين الذين سبقوهم، ليس لديهم برنامج قانوني ولا مؤسسات ولا فكرة واضحة تطرح ما هو الاسلام في العصر الحديث، وكيف نأخذ القيم الاسلامية وهي قيم سليمة في كل عصر ونطرحها في قوالب تتناسب مع العصر في الوقت الذي وافقت كل الدول الاسلامية بكل مذاهبها على الامم المتحدة، اي انهم ليسوا في دار الحرب مع العالم بل في دار العهد وجميع الدول الاسلامية تحتكم الى الامم المتحدة، ولما خابوا في الصومال وفي روسيا لجأوا الى العالم الغربي او الى الامم المتحدة طالبين العون. والمشكلة الرئيسية هي عدم وجود فكر قومي ولا فكر اسلامي يتناسب مع حالة الامة وطموحاتها، فكل الجماعات تسعى الى السلطة، العسكريون في مصر عام 1952 رفعوا شعار اقامة نظام وطني سليم وجيش قومي لكنهم لم يقيموا نظاماً له مؤسسات، المؤسسة الوحيدة هي استمرار واستدامة السلطة، وأفضل أجهزة استخدموا فيها التكنولوجيا الحديثة هي اجهزة الدعاية والشرطة، في غير هذا عملوا اصلاحات اخرى كما يفعل كل مصلح، ولكن لم يطرحوا للشعب المصري مؤسسات تقوم بإنجاز المهام الاساسية للحكم مثل: زيادة الانتاج ليتوازى مع زيادة السكان، واشتراك الشعب في توزيع الاقتصاد والخيرات، والمشاركة السياسية.
الى الآن لا تزال جميع هذه الحركات في الحكومة وفي المعارضة تريد احتكار السلطة مع فلسفة ذلك بدعاوى قومية في الماضي ودعاوى دينية حالياً. ولما وقعت مشكلة الكويت لم تستطع الدول العربية عمل شيء، ولا اتخاذ قرار موحد، لكنها لجأت الى النظام الدولي، ووجدنا المثقفين العرب يوم 4 آب اغسطس ينقلبون على ما كانوا يرددون قبل يوم 2 آب اغسطس. ويتحدثون عن النظام الدولي الذي نسمع عنه عندنا اكثر مما نسمعه في اميركا وفي غيرها.
ضحايا حروب دول المنطقة
دكتور سعد، يتفق الطرفان ايضاً في عجز كل منهما عن صياغة عقيدة سياسية متطورة محكمة وعجز كل منهما عن اقامة تنظيمه السياسي الحزبي القوي، فهما يقيمان تنظيمات حركية تسعى الى الحصول على السلطة بطريقة او بأخرى ولكن ليس تنظيماً سياسياً بالمعنى الحزبي… ما تفسيرك لذلك؟
- سعدالدين ابراهيم: اولاً معظم هذه الحركات الراديكالية سواء القومية او الاسلامية، نجحت في تكوين تنظيمات. السؤال ليس هو تكوين تنظيمات في حد ذاته، فتنظيمات مثل البعث او حركة القوميين العرب او تنظيم الاخوان المسلمين صمدت لغوائل الزمان، تنظيم الاخوان المسلمين قائم منذ عام 1928 ونحن الآن في عام 1993 يعني عمره يصل الى 65 سنة، فهناك نجاح في اقامة تنظيمات.
والاحزاب الشيوعية العربية ايضاً نجحت في تكوين تنظيمات لا بأس بها حتى بالمعايير العالمية، لكن القضية هي جدول اعمال هذه التنظيمات. وهنا اتفق مع كثير مما قاله السفير تحسين بشير في ان قيام تنظيم ولو كان تنظيماً ناجحاً وله عوامل الاستمرارية لا يعني بالضرورة مقدرته على التعامل مع التحديات الوطنية او الاقليمية او العالمية. هذا هو مقتل كل الراديكاليات العربية، وقضية ان تكون لها عقيدة محكمة لا بد ان تراجع لانه اتضح ان العقائد المحكمة ممكن ان تصيب التنظيم وتصيب المجتمع الذي يعمل فيه هذا التنظيم بأبشع النتائج، لكن المطلوب ان يتوافر حد أدنى من الوحدة الفكرية او الاجتماع على أساسيات، وترك الجزء الاكبر من الامور للاجتهادات، اي الا تكون لها قوالب محكمة موضوعة مسبقاً، لان هذا يصادر على حركة المجتمع وعلى الاجتهادات الانسانية والبشرية. فالقضية الاهم هي "اجندة الحركات الراديكالية". الأجندة اي جدول الاعمال اولاً تعني تحديد المطالب والتحديات وصياغة آليات مبدعة للتعامل معها، وضمن هذا يبرز موضوع التعامل مع الخلاف والاختلاف، وهذا هو ما لم تنجح فيه كل الحركات السياسية او التنظيمات، اي الصياغة المرنة او الصياغة التي تمنع فكرة وممارسة الابادة، ابادة الآخر سواء بالمعنى المجازي او بالمعنى الحرفي. ومن هنا كل محاولات ابادة هذه الحركات لبعضها البعض فشلت، لكن هذا الفشل لم يكن درساً للآخرين حينما يأتون الى الحكم، فكل منهم يأتي الى الحكم وفي ذهنه ان يخلد في السلطة وان يبيد الآخر، او ينفي الآخر ويحاول ان يفعل ذلك وتدفع الامة ضريبة ويدفع كل جيل ضريبة دم دورياً من دون حل مشكلات اخرى حقيقية. اذن اول مطلب او اول تحدٍ كان ينبغي ان تكون له صياغات مبدعة تحتاج الى خيال والى رؤية هو التعامل مع الخلاف، لان الامة العربية على رغم كل ما يوحدها في ما يتعلق بوحدة التراث والتاريخ ووحدة الهموم والآمال، الا ان هناك اختلافات عديدة اقليمية او قطرية او عرقية او دينية. امة شأنها هذا وعمرها 14 قرناً على الاقل ينبغي ان تكون فيها هذه الاختلافات، وينبغي ان يكون فيها هذا التنوع، ما كان لها ان تعيش الا بهذا التنوع. جاءت هذه الحركات احياناً بفكر محكم وحتى لو لم يكن مفصلاً لكنه غير قادر على التنوع والخلاف، وهذا كان مقتلها، واحياناً نعبر عنه بغياب الديموقراطية باعتبارها آلية او صيغة للتعامل مع الخلاف بشكل سلمي لا يصادر على الآخر، ولا ينفي الآخر، ولا يبيده. الشيء الآخر الذي كان ينبغي ان يكون موجوداً في اجندة كل هذه الحركات، سواء التي هي في حالة انحسار مثل الراديكالية القومية، او في حالة صعود مثل الراديكالية الاسلامية، هو فهم المتغيرات العالمية وروح العصر الحديث، اي ما الذي يحرك النظام العالمي او الحداثة، ان جاز التعبير، وهو قضية العلم والتكنولوجيا وتعظيم القدرات البشرية الانسانية وفك العقل واطلاقه، كل هذه القضايا حينما اقرأ التراث او ادبيات الفكر القومي الراديكالي او ما يتيسر لي الآن من قراءات حول الفكر الاسلامي، حتى اذا جاز لي ان اسميه الراديكالي، لا اجد فيه تعاملاً مع هذه القضايا، لا من حيث التحديد ولا من حيث التحليل ولا من حيث الخطط الممكنة لادارة هذه الامور. وهذه هي الاشكالية الحقيقية التي يمكن ان تسبب للراديكالية الاسلامية نفس ما سببته للراديكالية القومية وللعصر الليبرالي العربي، على قصر فترته وعلى كل تشوهاته، فالمعتاد ان تأتي هذه الحركات ببرنامج اسميه برنامجاً معاصراً سلبياً، ولكنه ليس معاصراً مستقبلياً ولذلك حين يمر عليه خمس او عشر سنوات في السلطة تصبح قوة ضد التقدم، وضد التغيير، حتى اذا رفعت شعار التقدم والتغيير فإنها بحكم ممارستها وبحكم عقليتها تصادر على حركة المجتمع وبالتالي لا بد ان ينفجر المجتمع بشكل او بآخر، اما بعوامل داخلية او بتحدٍ خارجي لا تستطيع النخب التي تقود هذه الراديكالية او تلك ان تواجهه بنجاح، ومن ثم يكون فشلها خارجياً او داخلياً، وفي هذه الحالة يبقى استمرار السلطة فقط بمزيد من القهر على المواطنين تحت كل المبررات.د فالذي اتى محرراً يتحول بعد خمس او عشر سنوات على الاكثر الى قاهر. وهذا هو الدرس الذي ينبغي ان تعيه كل القوى السياسية، سواء التي انحسرت عن الحكم او التي هي في حالة انحسار او التي تهيئ نفسها للحكم، يعني قضية المشاركة والديموقراطية وادارة التنوع والاختلاف وكذلك قضية الهوية. والهوية العربية تستثني غير العرب من الاكراد والبربر والسودانيين في الجنوب مثلاً. ولذلك فإن حروب الدول في هذه المنطقة ضحاياها لا يتجاوزون ربع الحروب الداخلية في الوطن العربي، يعني في السودان وحدها مليون ضحية. في كل تاريخ الصراع مع اسرائيل في ست حروب سقط 200 الف ضحية، بينما صراع ايران والعراق راح فيه مليون تقريباً من الطرفين. وهكذا في الصراع الداخلي اللبناني وفي الصراع الداخلي بين القوة المركزية في بغداد والاكراد وفي كل صراع من الصراعات الداخلية. وهذا موضوع وثيق الصلة بعملية آلية لتسوية الخلافات والتعامل مع التنوع واشكالية المواطنة واشكالي النظرة الى المستقبل والتخطيط له.
- فهمي هويدي: أخشى ان نجري محاكمة لكل ما هو قومي وكل ما هو اسلامي محاكمة ظالمة الى حد بعيد. وانا اكرر اعتراضي على لغة الخطاب الواردة في الورقة التي صورت كل ما هو قومي على انه راديكالي وكل ما هو اسلامي على انه راديكالي كأنه لا يوجد وسط على الاطلاق. والنقطة الثانية اننا نتكلم عن الحركات القومية والحركات الاسلامية. ويمكن لحساسيتي ان تكون أكثر في موضوع الحديث عن الحركة الاسلامية، ويدهشني 90 في المئة مما قيل في الحركة الاسلامية وكأننا لا نعرف الخلاف داخلها طوال عمرها، يعني هذا المجتمع العربي الاسلامي الذي نعيش في كنفه بكل تمايزاته العرقية والدينية والمذهبية ومع ذلك نسأل اليوم عن هويته فإذا كان عربياً نحذف البربر واذا كان اسلامياً نحذف غير المسلمين. من قال هذا؟ ومتى حدث هذا؟
الدكتور سعد تكلم عن حركة الاخوان المسلمين من 65 سنة، لكنه لم يقل انها امضت 44 سنة في السجون، يعني الاخوان بدأوا سنة 1928 ودخلوا السجون منذ عام 1948 وهم حتى اليوم ملاحقون. كيف يمكن ان تطالبني بالسماحة وبإدارة الخلاف مع الآخر بينما انا اتعرض للابادة على مدى 44 سنة؟ كيف يمكن ان نتحدث عن التيار القومي او الاسلامي منفصلاً عن الخريطة السياسية والاجتماعية الراهنة؟ هؤلاء ناس لا يوجدون في معمل اختبار وانما جزء من النسيج العام السائد في المجتمع. لا تستطيع ان توجه لوماً الى جماعة ظلت 44 سنة منفية بدعوى انها فشلت في تقديم أجندة للحوار. ايضاً لا نستطيع ان نحصر هذا في القوميين بالذات، يعني مثلاً ما حدث في الجزائر لم يكن من جانب القوميين، ما أريد أن أصل اليه هو ان هناك واقعاً سياسياً وقيماً سياسية سائدة تشيع بين الناس، والقوى السياسية جزء من الناس. يعني المناخ الليبرالي بشكل عام يفرز نوعاً من التسامح السياسي، والمناخ الاستبدادي يشيع قيم الاستبداد والتسلط. فلا يمكن ترك هذا المناخ ومحاسبة من كانوا ضحية له.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.