لم يكن أجدادنا يدخرون مالهم كودائع في البنوك، بل كانوا يشترون الذهب على سبيل ادخار، وكانت حلي النساء هي وسيلة الادخار الشائعة. ولكن ثبات اسعار الذهب اصبح في ذمة التاريخ، وعرف سوق الذهب المضاربات في العقود الاخيرة، مما هز اسعاره صعوداً وهبوطاً، فأصبح ادخاراً غير مأمون. اما ودائع البنوك فهي تتآكل باستمرار بسبب الغلاء وانخفاض القيمة الشرائية للعملات. اما البورصات فحدث عنها ولا حرج، الاستثمار والادخار في الاسهم والسندات لمن يفهم اسرارها لم ينقذ احداً من اعراض الجنون الذي ينتاب البورصات من حين لآخر، ويسمونها في الطب الاقتصادي الاثنين الاسود او الثلثاء الاغبر او الاربعاء المنكود، او ما لا اعرف من الاسماء. دع هذا كله وما يحيط به من مخاطر. فأنا انصح الاغنياء، والاغنياء فقط، ان يتحولوا من الآن فصاعداً، الى شكل جديد من الاستثمار والادخار، عبر اقتناء اللوحات والتماثيل والقطع الفنية. دع جانباً جنرال موتورز، والبنوك، والذهب اربعة وعشرين قيراطاً، وجرب الاستثمار والادخار مع فان غوغ، بيكاسو، هنري مور، وحتى ليونار دافنشي فنان عصر النهضة. ولا تدهش اذا قرأت في الصحف، او شاهدت في التلفزيون، احدى اللوحات الشهيرة تباع بأكثر من عشرين مليون دولار، او بضعة خطوط بالقلم على صفحة بيضاء تباع بمليون دولار! ولا تعجب ان قلت لك ان اسعار اللوحات والتماثيل الفنية لم تتوقف ابداً عن الصعود والارتفاع، فهي من هذه الناحية افضل من الذهب والعملات والاسهم التي تتعرض دائماً للصعود والهبوط وعدم الاستقرار. السائلون عما خف حمله وغلى ثمنه بالمعنى الحرفي للكلمة لا يقصدون اليوم الذهب او الجواهر، فانك لا تستطيع ان تحمل في يديك ملايين الجنيهات من الذهب او الجواهر، بينما يستطيع صبي صغير ان يحمل لوحة فان غوغ تحت ذراعه دون عناء. واذا تحدثت عن ارتفاع القيمة للشيء بنسبة ندرته، فان الذهب معدن غال لأنه قليل الوجود في الطبيعة، والجواهر لأنها نادرة، ولكن فكر معي اي ندرة تتمتع بها لوحة. صورة الفنان لفان غوغ، لوحة وحيدة وليس لها، في كل انحاء العالم، شبيه او مثيل او ند، لذا فهي تضاهي الذهب والجواهر قيمة. وقد اتجه الاغنياء في الغرب الى اقتناء التحف الفنية كأفضل ادخار وأفضل استثمار، فاذا بيعت احدى اللوحات او التماثيل المسجلة في كتب الفن، عقد لها مزاد دولي تنقله الاقمار الصناعية الى كل انحاء الارض، ويتزايد زبائنه اضعافاً، بين الجالسين الى خطوط هواتفهم الساخنة المفتوحة. فاذا كنت حاضراً المزاد وقلت مليون، رد متزايد في طوكيو بقوله على التليفون: ونصف، وتدخل متزايد من نيويورك برفع السعر، واشترك متزايدون من باريسولندن وروما وغيرها! وأنا في الحقيقة من المعجبين بالفن - بالنظر لا بالاقتناء - وازداد كل يوم اعجاباً بذات اللوحات والتماثيل الجميلة وازداد استمتاعاً بالنظر اليها، مع تطور تجربتي في المشاهدة والقراءة، ومع تعمق خبرتي ومقدرتي على الفهم والاستمتاع بالفنون الاخرى. ومع ذلك، فما زالت الدهشة تنتابني من الارتفاع المتزايد للوحات والتماثيل والتحف الفنية. الندرة، اول الخيط... الاقبال وحب الاقتناء، ثاني الاسباب. الادخار ثالث الاعتبارات وربما كان اولها! حب الفن، نعم، انا معك. انه، اولاً وأخيراً، اصل وسبب الاقبال الذي ترتفع معه القيمة المادية، وهو ايضاً ضمان الادخار وارتفاع قيمة التحفة الفنية باطراد واستمرار. حب الفن، نعم. فهو الذي يجعل المتاحف بموازناتها الحكومية، تدخل المزاد ايضاً لاقتناء تحفة فنية مهمة، يزداد بوجودها اقبال الجمهور على المتحف، فتصبح الخدمة الفنية التي يؤديها اكبر، وتشمل جمهوراً اوسع. نعم، حب الفن هو الاساس والجوهر. ولكن هل كان حب الفن وحده قادراً على تحقيق كل هذا التألق والجاذبية للتحف الفنية، لولا الدراسات الاكاديمية المعمقة، ولولا اهتمام المدارس في كل مراحلها بتربية التذوق الفني منذ الطفولة، وفتح طاقات الاستمتاع بالفن في وجدان التلاميذ والشباب، وتربيتهم على حسن الفهم والتأمل وتكوين العين الناقدة والعين المتذوقة؟ انظر الى طوابير التلاميذ في متاحف الفنون في الغرب، مع المدرسين والمدرسات، يتلقون تدريبهم الاول على الاستمتاع بالحياة من خلال الفنون. ولكن، هذا كله ايضاً كان من الممكن ان يكون عرضة للذبول والضياع، لولا "بيزنس" الفن والسوق الذي جعل للابداع سعراً وثمناً متعارفاً عليه. "أغلى" الفنانين اليوم، فنانو المدرسة التأثيرية ويليهم فنانو عصر النهضة، ثم العصر الكلاسيكي، فالعصر الحديث، ولكن بيكاسو دائماً في المقدمة ايضاً. لكل فنان مستوى ولكل لوحة من لوحاته ثمن معروف يمكن المزايدة عليه، ولكن لم يحدث ابداً ان جرت عليه مناقصة. وفرسان هذا السوق الكبير، هم الوكلاء او DEALERS، ولهم ما يشبه الرابطة التي تتفاهم على الاسعار، ولسوق العرض والطلب ايضاً، حكمه القوي. وهؤلاء "الديلرز" لم يحققوا للتحف الفنية هذه الاسعار المرتفعة باغراء الزبائن، وانما حققوها باستعدادهم هم لشراء تلك الاعمال. هكذا اصبحوا بائعين ضامنين لقيمة السلعة، تشتري منهم لوحة بمليون دولار بلا خوف، لأنك مطمئن الى اعادتها للبائع نفسه، بالسعر نفسه، لو احتجت الى بيعها. هكذا بنى الوكلاء سوق التحف الفنية لا بالنجاح في البيع بل بالاستعداد للشراء. وربما صنع هؤلاء التجار - عن قصد او عن غير قصد - هذا المعدن النادر، او هذه الجواهر اليتيمة، او هذا الاستثمار او الادخار الذي لم تعرفه البشرية قبل اواخر القرن الماضي. فقد اضافت حركة البيع والشراء هذه، ويا للعجب، الى الثروة القومية لكل بلد غربي، الى جانب الناتج الزراعي والصناعي والتعديني. واستحال ما في هذا البلد او ذاك من لوحات او تماثيل او تحف، الى ثروة قومية خالصة، سنوا لها القوانين التي تنظم انتقال ملكيتها، وتقيد تصديرها او نقلها خارج البلاد، الامر الذي قد لا يعتبر جرماً، تماماً كتهريب الذهب او الماس، الا ان عقوبته اقسى! والعجيب، اننا في عالمنا العربي، نمتلك مثل هذا النوع من الثروات، وعرفت حياتنا الفنية رسامين كباراً ومواهب بارزة في كل انحاء العالم العربي. ولكننا لم نقم بعد اركان المؤسسة الفنية القومية، بمناهجها التعليمية وأسسها الاقتصادية. ما زلنا، للأسف، لا نملك السوق الفنية التي تعتبر في الغرب السند المادي الحقيقي لازدهار الفنون. فاذا كنت تبغي الادخار والاستثمار من خلال الفن، فلا بديل من التوجه الى صالات المزادات العالمية او الوكلاء الغربيين لاقتناء لوحات الفنانين الاوروبيين او الاميركيين وعرضها على الحائط في بيتك. هذا اذا كنت تسكن بيتاً محصناً بما يكفي ضد عصابات اللصوص الدولية، المتخصصة في سرقة اللوحات الفنية من بيوت الاغنياء. والا احتل حادث السرقة في بيتك عناوين الصفحات الاولى للصحف! وهناك ايضاً العصابات المتخصصة في استبدال اللوحة الحقيقية بلوحة مزيفة، لن يكتشف امرها الا اذا حاولت بيعها، او اذا عثرت عليها الشرطة بالمصادفة، او اذا استضفت في بيتك خبيراً دقق النظر في اللوحة. ولكن لا تخف من مثل هذه الحوادث النادرة المؤسفة وتحصن ضدها بالتأمين. فكر في اقتراحي فقط اذا كنت من اصحاب الملايين. اما ان كنت مثلي من المستمتعين بالفن من خلال النظر فقط، فعليك الاكتفاء بزيارة متحف "اللوفر" في باريس، او "التيت" في لندن، او "ارميتاج" في سان بطرسبرغ. وهنا، تأمل معي الروائع المبدعة، ثم اعجب معي لما تساويه هذه اللوحة او تلك - مع التسليم بكل ما فيها من ابداع وعبقرية - من ثروات طائلة تقدر بملايين الدولارات، وهي اسعار قابلة للارتفاع باستمرار ولا تعرف الهبوط ابداً. * كاتب مصري