العام الفائت، لم تظهر المغنية الايسلندية بيوركا في شوارع مدينة "كان". لكن جنونها كان حاضراً، على الأقل من خلال ملصقات فيلم "راقص في الظلام" الذي قامت ببطولته، وخيم بها وبجنونها على جو المهرجان، وبقي مخيماً حتى فازت هي وفاز الفيلم بالسعفة الذهب وجائزة التمثيل الكبرى. من هنا سيظل يذكر رواد "كان" طويلاً ذلك الحضور الهلامي. في دورة هذا العام، ليس ثمة ما ينبئ بحضور جنون من هذا النوع. وعلى رغم ان جزءاً من الدورة يدور ضمن اطار تكريم الكوميديا الكلاسيكية الاميركية، وعلى رغم ان تكريماً خاصاً سيكون من نصيب مخرج الكوميديا الفرنسية جاك ديراي، فإن مناخ المهرجان يعد بأن يكون شديد الجدية، بل قائماً الى حد ما... على الأقل لأن الأفلام الرئيسية التي اختيرت لتعرض تتسم بالكثير من الجدية. ولئن نسي رواد "كان" هذا الأمر بعض الشيء، فإن مناسبة الاحتفال بخمسينية مجلة "كراسات السينما"، التي اعتادت بدورها أن تكون جدية، هدفها التذكير بأن الكآبة واجبة. والجنون بعيد المطال. افتتاح مساء أول من أمس كان الافتتاح الصاخب للمهرجان، مطبوعاً بجو صاخب من المرح، ومعيداً الناس الى عصر الجنون الباريسي في امتياز: عصر بيغال و"الفرنش كان كان" و"المولان روج" وحياة الرسام تولوز لوتريك وسط الراقصات وفتيات الليل في حي الملاهي الباريسي الشهير. ومن الواضح ان باز ليرمان، مخرج الفيلم، الذي قدمه من بطولة مواطنته الاسترالية نيكول كيدمان، كجزء ثالث من ثلاثية بدأها ب"مجرد قاعة للرقص" وأتبعها ب"روميو " جولييت" قبل أن يصل الى الطاحونة الحمراء، عرف كيف يرسم أجواءه وكيف يحول بين المتفرجين وخيبة الأمل حيال موضوع طرق ألف مرة من قبل: موضوع الصحافي الأميركي الذي يصل الى حي بيغال ليكتب تحقيقاً عن حياة الليل الباريسية الصاخبة، فيقع في غرام راقصة ماجنة. المناخ العام للفيلم صاخب والألوان حية تتلاءم تماماً مع المناخ في "كان"، وتلألأ الألوان في المدينة تحت وطأة الاشراقة الربيعية الدافئة. الا ان هذا لم يحمل الدفء الى نفوس أهل "كان". والسبب بسيط: المفاجآت الموعودة ليست كثيرة. والجنون ليس كلي الحضور. وكل ما في المهرجان يذكر بالأزمة الطاحنة التي بدأت السينما تعيشها في شكل جدي، بما في ذلك السينما الأميركية. ولكن، لئن كانت السينمات الأوروبية والآسيوية تعرف نوعاً من الجمود، فإن السينما الأميركية تعيش أزمة من نوع آخر يمكن اختصارها في حال الاضراب المزدوج في هوليوود: اضراب الممثلين واضراب كتّاب السيناريو. والحال ان هذا الاضراب كشف الصورة غير الزاهية لسينما تقول صورتها الخارجية انها زاهية كل الزهو. الا ان هذه حكاية تمر، في "كان" مروراً عابراً، وتكشف عما وراءها، أي الأزمة البنيوية لصناعة من الواضح أنها تعيش الآن مرحلة انتقالية. وفي يقيننا ان التركيبة الراهنة لمهرجان "كان" وعروضه تكشفان عن هذه الأزمة. فالسينما اليوم، وبعد قرن من بداياتها، تعيش من جديد مرحلة بحث عن هوية. وهذا ما يدفعه اليها طغيان التلفزة، واضطرار التلفزة الى اللجوء الى أفلام السينما باعتبارها الأنجح بين معروضاتها. فالتلفزة الآن تعيش على ظهر السينما. وهذا ما يتطلب من السينما التي في السياق نفسه ان يعيش أكثر وأكثر على ظهر التلفزة، وتحدث تغييرات في بعض سمات بنيتها الأساسية. وفي مجالات كانت عزيزة عليها: استخدام النجوم، التأطير، الحوار، الانتباه الى الشؤون الرقابية، وصولاً الى المواضيع نفسها. دفاع هذا كله مطروح على النقاش، في الدورة الرابعة والخمسين لمهرجان كانت ولادته، أساساً، بدافع من حب السينما وظل يدافع عنها ويبدو انه لن يمكنه أن يدافع الى الأبد. ولكن اذا كان هذا النوع من الهموم، يشغل بال أهل المهنة والمهتمين، فإن الألوف الذين يحضرون المهرجان، سواء أكانوا من أهل المهنة أو من الصحافيين أو من المتفرجين العاديين، تشغل بالهم أكثر، مطاردة الأفلام والوصول في وقت يكفي للعثور على مقعد ومتابعة الفيلم. والحقيقة ان هناك عشرات الأفلام التي ينبغي لمن في "كان" أن يشاهدها. هناك أفلام سبقتها سمعتها أو سمعة صانعيها، والكل يتشوق الى مشاهدتها. وهنا أفلام ينبغي اكتشافها، وأحياناً يتم هذا الاكتشاف مصادفة. وبين هذه وذاك ثمة أفلام لا يريد أحد تفويت فرصة مشاهدتها، مهما كلف الأمر. من هنا، فإن الشغل الشاغل لمن يحضر "كان" هو أن يحسن الاختيار. فقدرة المرء على المشاهدة لا تكفي لأكثر من خمسة أفلام يومية، حداً أقصى، بمعنى أن الواحد يمكنه ان يشاهد 50 فيلماً خلال أيام المهرجان. وهذه الأفلام تشكل نسبة الخمس، بين ما هو معروض في التظاهرات الأساسية والتظاهرات الموازية. من هنا يكون على المرء أن يسقط من حسابه ما لا يقل عن 200 فيلم، وهو كله أسف لهذا. فما العمل؟ من ناحية مبدئية، يكون الاقبال الأكبر على أفلام المسابقة الرسمية وما حولها من عروض لا تدخل في اطار التباري. وهذه المسابقة تضم هذا العام 22 فيلماً تنتمي الى 11 بلداً، واللافت فيها ان لجنة خاصة اختارتها من أهل 854 فيلماً تنتمي الى أكثر من أربعين دولة. فما هي المعايير التي حكمت هذا الاختيار؟ لا يمكن ايجاد رد حاسم على هذا السؤال. ولكن عادة ما يتحكم في الأمر الذوق الجمالي الخالص. ويبدو ان هذا هو ما حكم اختيارات هذا العام التي لا تحمل من المفاجآت إلا مشاركة كل من المخضرمين جان - لوك غودار وجاك ريفيت في المسابقة الرسمية، الأول بفيلمه "في مديح الحب" والثاني بفيلمه "من يدري". وهو أمر غير معتاد. إذ جرت العادة أن يشارك أساطين السينما خارج المسابقة. لكن غودار وريفيت شاءا كسر القاعدة وحسنا فعلاً، خصوصاً ان هذه المشاركة الاستثنائية تأتي في وقت يكرم المهرجان خمسينية مجلة "كراسات السينما" التي كان الاثنان من أقطابها. والحقيقة ان مشاركة غوادر وريفيت كفيلة بأن تسبغ على دورة هذا العام حيوية ما بعدها من حيوية. ولكن ربما في أوساط النخبة فقط. فمن هناك في المسابقة الرسمية، الى جانب هذين الكبيرين؟ "ابناء كان" في اختصار، بات عدد من مخرجين يطلق عليهم اسم "ابناء كان" لأن الواحد منهم بات معتاداً أن يعرض كل فيلم جديد له، في المهرجان سواء داخل مسابقته الرسمية أو اخارجها. فإلى ليرمان وفيلمه "الطاحونة الحمراء"، هناك الاخوان اتيان وجويل كون في فيلمهما الجديد "الرجل الذي لم يكن هناك" المتضمن حبكة بوليسية مرحة، تذكر بأفلام الأربعينات الأميركية، وهناك الايطالي تاتي موريني الذي يعود في فيلمه الجديد "غرفة الابن"، وايمامورا، الذي فاز في "كان" اكثر من مرة، آخرها بنصف السعفة الذهب عام 1997. ايمامورا يعود في فيلم يقال انه ساحر وشاعري، ولا يخلو من شاعرية الموت. ويعود البرتغالي المخضرم مانويل دي اوليفرا، وكذلك التايواني هو هسياو هسيين الذي يقدم فيلمه الجديد بعدما قدم في دورات سابقة ل"كان" كل أفلامه السابقة. ولئن كان هؤلاء جميعاً يصنفون في فئة الشباب، باستثناء دي أوليفرا، المتجاوز التسعين من عمره، فإن فئة المخضرمين تضم، الى غودار وريفيت ودي اوليفرا نفسه، الايطالي اورمانو اولمي الذي كان فاز بالسعفة الذهب عام 1978 عن فيلمه "شجرة الصنادل". وكذلك يعود شين بن، كمخرج في فيلمه الثالث "العهد" من بطولة جاك نيكلسون الذي يهدد بحضوره ان يكون الجنون الوحيد في مهرجان من المؤكد أن الجنون لن يكون من سماته الأساسية... ولكن هذا اذا لم نحسب فيلماً سيكون من أحداث المهرجان الأساسية، مع ان عمره بات أكثر من عشرين عاماً، وسبق له أن فاز بالسعفة الذهب للمهرجان نفسه: انه "يوم القيامة الآن" لفرنسيس فورد كوبولا. هذا الفيلم الذي يعرف اليوم حياة جديدة بعدما اضيفت اليه مشاهد عدة، كانت انتزعت من نسخه المعروضة آنذاك. والجنون في هذا الفيلم هو بالطبع جنون مارلون براندو، الضابط الاميركي الذي انشق عن القوات الاميركية المحاربة في فيتنام وأنشأ لنفسه امبراطورية خاصة يحكمها بجنونه. ونعرف طبعاً أن هذا الجانب من الفيلم مستقى من رواية جوزف كونراد "في قلب الظلمات"، وأن مارلون براندو أبدع فيه واحدة من أروع لحظاته السينمائية. ويقيناً ان هذا يكفي في حد ذاته لتذكير أهل "كان" ومحبي السينما عموماً بحضور هذا الفنان الكبير الذي قد يصح اعتباره أفضل ممثل عرفته السينما في تاريخها، ما سيطرح باب خلافته علماً أن المرشح الوحيد الى الخلافة الآن هو جاك نيكلسون. فهل يمكن مهرجاناً الا يستمتع بوجود نجمين من هذا الطراز في وقت واحد؟ وفي مقابل هذه القيم الراسخة هناك بالطبع قيم جديدة. والمهرجان يدعو الى اكتشاف اربعة أعمال على الأقل، لم يسبق لأصحابها ان خاضوا السينما أو عرفت لهم علاقة بها. ومن هذه الأفلام "شريك" بالرسوم المتحركة من الولاياتالمتحدة و"أرض لا أحد" من البوسنة. وفي المجال نفسه، يفخر رئيس المهرجان جيل جاكوب، الذي يمارس الرئاسة هنا للمرة الأولى بعدما كان مديراً عاماً للمهرجان عقوداً طويلة، بأن ثمة في المسابقة الرسمية 16 فيلماً لم يسبق لأي منها أن عرض في أي مكان، يفخر بحضور آسيا في التظاهرات الرئيسية عبر ما لا يقل عن عشرة أفلام، وحضور ايران بمخرجيها الرئيسيين محسن مخمالباف وعباس كياروستامي. وفي المقابل لم يفت جيل جاكوب أن يبدي أسفه للغياب العربي التام عن المهرجان، بقي أن نذكر ان في العروض الرسمية، أيضاً، والى جانب "يوم القيامة الآن" أفلاماً عدة تعرض خارج المسابقة، لعل أهمها فيلم الختام "الأنفس القوية" لراؤول رويث وفيلم كلير دنيس "قلق في كل يوم" فضلاً عن فيلم "مركز العالم" لواين وانغ. وهذا كله في التظاهرة الرسمية الأساسية وحدها... تلك التي ستضم أيضاً فيلم مارتن سكورسيسي الخاص جداً "رحلتي في ايطاليا". ارضاء لجنة ما في التظاهرة الثانية، من ناحية الأهمية، وهي تظاهرة "نظرة ما..." هناك أيضاً 22 فيلماً لكنها آتية من 15 بلداً، وبينها 18 تعرض للمرة الأولى، وخمسة هي الأولى لمخرجيها. وقد يكون أهم ما في هذه التظاهرة فيلم الافتتاح "عيد الميلاد" لآبيل فيرارا. ومن عروضها أفلام للياباني كوباياشي وللأميركي هال هارتلي وللياباني كوروساوا غير كوروساوا أكيرا، المخرج الكبير الراحل وللهندي موراد نايير والفرنسي جاك دوايون. والجدير ذكره ان ثمة بين محبي السينما من يفضل تظاهرة "نظرة ما..." على التظاهرة الأكثر رسمية، لأن مجال الاكتشاف هنا أوسع والمساوامات أقل. ومن المعروف أن بعض أجمل ما اكتشف في دورات كان على مر السنين، انما كان في "تظاهرة ما..." أكثر منه في "المسابقة الرسمية". أياً يكن الأمر، فإن وصول هذه الأسطر الى القارئ يتم في اليوم الثالث للمهرجان، حيث لا تكون الاتجاهات العامة اتضحت بعد. ومع هذا يمكن القول منذ الآن، ان هذه الدورة موضوعة تحت شعار: الاكتشاف واعادة الاكتشاف، وان ثمة شيئاً ما يوحي بأن طابعها نخبوي، خصوصاً في غياب الأفلام الاميركية الشعبية. وفي هذا، طبعاً، ما من شأنه ان يرضي لجنة التحكيم التي تترأسها النجمة ليف أولمان، وقد عرفت بذوقها السينمائي الرفيع، هي التي كانت زوجة انغمار برغمان وبطلة أجمل أفلامه، والتي تحولت بدورها الى الاخراج. وهي هنا كمخرجة أوروبية، ستحاول أن ترجح كفة سينما المؤلف، على ما أشارت. ومن المؤكد أن مجال الاختيار أمامها كبير. وهذا ما ستؤكده الأيام المقبلة... الأيام العشرة الباقية على مهرجان بات يعتبر، أكثر وأكثر، مرة كل عام عيداً حقيقياً للسينما، ومرآة للانتاج العالمي.