من جديد، كلهم تقريباً هنا هذا العام، في الدورة الحادية والستين لمهرجان"كان"السينمائي الدولي. الى أيام قليلة لم تكن الأمور واضحة. كان مؤكداً فقط عرض"انديانا جونز"في حلقته الرابعة، خارج المسابقة الرسمية. ولكن، في مهرجان مثل"كان"... من يبالي كثيراً يمثل هذا الفيلم؟ الناس في"كان"، حتى ولو بلغ عددهم أكثر من 20 ألف زائر، بين أهل المهنة والصحافيين والفضوليين والنجوم، يبالون بأفلام أكثر جدية. بأعمال يحققها كبار أصحاب الأسماء في سينما اليوم. من هنا راحت التكهنات تتكاثر. مشوبة بشيء من القلق: ترى ماذا ستكون حصة مدينة الجنوب الفرنسي المتألقة، من عام سينمائي بدأت مهرجانات مثل"البندقية"وپ"برلين"وحتى"تورينو"وپ"روتردام"تسعى لنيل حصص الأسد فيه مضاربة على المهرجان الفرنسي الأعرق؟ قبل أيام، جاء الجواب. وجاء مدهشاً. فأن يجتمع وودي آلن وكلينت أيستوود وأمير كوستوريتسا وستيفن سودربرغ وصولاً الى الأخوين داردين وحتى ستيفن سبيلبرغ وآتوم ايغويان ووونغ كارواي... وعشرات غيرهم من كبار أصحاب سينما العالم اليوم، في دورة واحدة لمهرجان ما، هو أكثر من هدية سينمائية رائعة. فكيف إن اجتمعوا مع غيرهم في عملية انزياح لافتة من أبرز علاماتها، مثلاً، أن فيلم وودي آلن"فيكي كريستينا برسلونا"سيبدو للوهلة الأولى كأنه فيلم لبيدرو المودوفار، وليس فقط لأنه مصوَّر في إسبانيا ومن أبطاله بينيلوبي كروز وخافيير بارديم، بل لأن فيه من الجرأة ما لم تعتده سينما آلن. وإن عودة سودربرغ الى"كان"بعد سنوات من نيله سعفتها الذهبية عن فيلمه الأول، تأتي في فيلم عن"غيفارا"كان من المستحيل أن يتوقع لسودربرغ أن يقدم عليه، ثم أن يختار بينيشيو ديل تورو لبطولته، بعدما غاص طويلاً في قضايا تهريب المخدرات وسرقات الكازينوات. كما أن كلينت ايستوود، إذ يعود الى"كان"متسابقاً بعدما كان فيه ذات مرة رئيساً للجنة التحكيم، تأتي عودته من طريق فيلم"تشانغلنغ"يبدو للوهلة الأولى وكأنه من إخراج بريان دي بالما. أو أمير كوستوريتسا الذي يبتعد هذه المرة عن البلقان ومشاكله ليعانق كرة القدم من خلال... مارادونا. فيما يترك فيم فندرز أهواءه الأميركية والألمانية واليابانية ليقصد إيطاليا حيث يصور باليرمو، مدينة صقلية العذبة المرة. أرض صيد خاصة ونحن إذا كنا ذكرنا هذه الأسماء فما هذا إلا لأنها، في عودتها الى"كان"المعتبر عادة أرض صيد خاصة بها، تبدو متغربة عن مواضيعها المعتادة وسينماها. ومهما يكن من أمر كل هؤلاء هم من أبناء"كان"، حتى وإن كان يحدث لأحدهم أن يشرق ذات مهرجان آخر، ليغرب في مهرجان منافس. هم دائماً يعودون الى"كان"بصرف النظر عما إذا كانوا يعودون بأفضل ما عندهم أو لا. طبعاً قد يحس جمهور"كان"ببعض الغياب المقلق: ليس ثمة هذا العام فيلم لكوينتن تارانتينو ولا دايفيد لينش حاضر، وليس ثمة جديد من وونغ كارواي. ولكن مهلاً: تارانتينو حاضر في درس السينما الذي سيلقيه، ولينش حاضر من خلال ابنته جينيفر التي تعرض فيلمها الجديد"رقابة"ليشكل واحداً من الحضورات الأميركية البارزة جداً هذا العام. ونشدد على هذه الناحية لأن إضراب الكتاب في العام الفائت كان ينذر بغياب أميركي عن المهرجانات على الأقل. لكن هذا لم يحدث، ويتوزع الأميركيون، مستقلين أو مخضرمين، على شتى التظاهرات، لا سيما في التظاهرة الرئيسة، ولكن، كالعادة، خارج المسابقة، حيث تطالعنا أفلام لآبيل فيرارا"شلسي على الثلج"وستيفن سبيلبرغ بفيلمه الجديد عن"انديانا جونز"والذي كان يتوقع أن يكون فيلم الافتتاح لوودي آلن، وخصوصاً لباري ليفنسون"ما الذي حدث حقاً"؟. من بين الأميركيين أربعة فقط آثروا أن يكونوا في المسابقة الرسمية: كلينت ايستوود الذي لا بد من أن تحسب هذه المشاركة له، وستيفن سودربرغ الذي قرر أخيراً أن يجمع جزأي"تشي"ليعرضا طوال 4 ساعات! وجيمس غراي الذي يعود قوياً بفيلم"العاشقان"، بينما يحضر مخرج جديد من أميركا. جديد الى درجة أن فيلمه يتبارى على"الكاميرا الذهب"، التظاهرة المخصصة لأصحاب الأفلام الأولى، مع انه في الحقيقة أكثر شهرة من 90 في المئة من المشاركين في"كان". إنه تشارلي كوفمان الذي يجرب حظه في الإخراج للمرة الأولى، بعد أن كتب خلال العقدين الفائتين سيناريوات لبعض الأفلام الأكثر أهمية من"اقتباس"الى"أشعة الشمس على عقل ثاقب"مروراً بپ"أن تكون جون مالكوفيتش". في فيلمه الأول كمخرج وعنوانه"سينيكدوك"يعود كوفمان الى موضوعه الأثير: أزمة كاتب في الزمن الراهن. مقابل هؤلاء الأميركيين، تشارك ثلاثة أفلام فرنسية في المسابقة الرسمية: لوران كانتي بفيلمه الجديد"بين الجدران"عن رواية تتحدث عن تجربة عاش كاتبها كمدرس للغة الفرنسية في ضاحية عمال مهاجرين باريسية، وفيليب غاريل، صاحب"العشاق غير المنتظمين"، بفيلم جديد هو"حدود الفجر"، وأخيراً آرنو دبليشين، أحد أبناء"كان"الأصيلين في فيلمه الجديد"حكاية من عيد الميلاد"، الذي يؤمن لكاترين دونوف حضوراً في"كان"يتلوه حضورها في الفيلم اللبناني"بدي شوف"راجع مكاناً آخر من هذه الصفحة. فإذا كانت حصة فرنسا ضمن المسابقة الرسمية وحدها ثلاثة أفلام، علينا أن نتوقع حصصاً كبيرة لها في شتى التظاهرات الأخرى، علماً بأن ثمة أفلاماً كثيرة آتية من بلدان أخرى لكن المال الفرنسي أمّن جزءاً أساسياً من تمويلها، وفي مقدمتها الفيلم اللبناني وفيلم آن ماري جاسر، وخصوصاً فيلم"فالس مع بشير"ناهيك بمال فرنسي أمّن لوونغ كارواي أن يحضر من دون أن يحضر حقاً. هل هذا أحجية؟ أبداً. كل ما في الأمر أن المخرج الصيني الذي كان العام الفائت نجم"كان"ورئيس لجنة تحكيمه ومفتتح عروضه بفيلم"ليالي بلوبري"حصل من الفرنسيين على موازنة مكنته من إعادة الاشتغال على واحد من أكثر أفلامه كلاسيكية:"رماد الزمن"1996 ما مكن"كان"من الحصول على العرض العالمي الأول خارج المسابقة طبعاً ? لهذا العمل السينمائي الكبير والمؤسس. إيطاليا والآخرون إيطاليا حاضرة هذا العام بكثرة، لعلها تعوض ضآلة المشاركة الإيطالية في الأعوام السابقة. ومن هنا سيكون حضور مونيكا بيلوتشي لافتاً، إذ ستحضر كنجمة إيطالية من خلال فيلم"سانغوي باتزو"الذي تقوم ببطولته تحت إدارة مواطنها ماركو توليو جوردانا وتدور أحداثه بعيد انقضاء الحرب العالمية الثانية. والى جوردانا هذا ثمة عدد لا بأس به من أفلام إيطالية أخرى. وكذلك ثمة حضور أوروبي متنوع ومتعدد، وإن كان سينقصه من جديد حضور أوروبا الشرقية باستثناء المجر التي ترسل فيلم"دلتا"، وهو دراما عائلية. فبلجيكا تحضر من جديد من خلال"صمت لورنا"للأخوين داردين المعتادين ليس على"كان"فقط، بل على سعفاتها الذهبية أيضاً. وهناك بريطانيا، التي كي يمعن الفرنسيون في السخرية منها لا تشارك هذا العام إلا بفيلم تسجيلي لتيرنس دايفس يتحدث عن... المثلية الجنسية. أما تركيا فتبعث بأفضل ما عندها: جديد ابن"كان"نوري بلغي سيلان"ثلاثة قرود"الذي يعود فيه، كما في رائعتيه السابقتين"من بعيد"وپ"مناخات"، الى الدراما العائلية الحميمة. مقابل هذا الحضور الأوروبي، ثمة منطقتان في العالم، ستحضران بقوة: الشرق الأقصى الصينواليابان وسنغافورة... وأميركا اللاتينية. تبدو ذات تميز إذ سيكون شرف الافتتاح، في غلبة واضحة على سبيلبرغ ومغامره الألمعي"انديانا جونز"، لفيلم"عمى"لفرناندو ميريّس. ومن أميركا اللاتينية تحضر أيضاً أفلام مثل"المرأة البلا رأس"و"ليونيرا"وپ"خط المرور"الذي يشارك في إخراجه والتر ساليس الذي من المؤكد أن جزءاً أساسياً من اهتمامه في"كان"سينصب على فيلم سودربرغ عن"التشي"، إذ نعرف أن ساليس نفسه كان شارك في"كان"قبل سنوات بفيلم"يوميات سائق دراجة"عن جولة غيفارا شاباً في بلدان أميركا اللاتينية. وأخيراً، لئن كان العرض الجديد والمجدد لفيلم وونغ كارواي القديم"رماد الزمن"سيستوقف كثراً، من المؤكد ان ثمة أفلاماً أخرى، من الشرق الأقصى يترقبها المتفرجون بقوة. نقول هذا ونفكر، طبعاً، بپ"سيتي 24"لجيا جانكي، الذي يعود مرة أخرى الى ممارسة"هوايته"في تصوير حكايات عن المدينة وتجديدها القاتل. غير أن الفيلم عن أقصى الشرق الذي لا شك في أنه سيلفت قدراً كبيراً من الاهتمام سيكون عملاً آتياً من أوروبا:"طوكيو"كما صورها ثلاثة مخرجين: ميشال كوندري وليو كاراكس وبونغ جون هو. صحيح أن هذا الفيلم يغلب عليه الطابع التسجيلي، ويبدو طالعاً مباشرة من أشهر فيلم غربي صوِّر عن عاصمة اليابان حتى اليوم"ضاع في الترجمة"لصوفيا كوبولا... لكنه، طبعاً، يثير من الفضول منذ الآن، قدراً تثيره أفلام كثيرة سواء كانت من بين ما ذكرنا هنا، أو ما سنعود اليه في أعداد لاحقة. ذلك أن ما نتحدث عنه هنا ليس كل شيء. إنما هو الصورة التمهيدية لدورة من"كان"، قد يمكن المراهنة منذ الآن على أنها ستكون من القوة ما سيثير حيرة لجان التحكيم، لا سيما اللجنة التي ستختار الفائزين بالجائزة الكبرى ويرأسها شين بن.