حرب الاوسكار لم تقع والمعركة التي كانت محتدمة بين العديد من الافلام والتعيينات لم تسفر في نهاية الامر عن أية مفاجأة حقيقية. فمنذ اسابيع طويلة كان من المتوقع ان تذهب بعض الجوائز الاساسية الى كلينت ايستوود وفيلمه الجميل "غير المسامح". وقبل ايام افردت مجلة "تايم" غلافها وستاً من صفحاتها الاساسية للممثلة الانكليزية ايما تومبسون. وقال كثيرون ان فوز آل باتشينو سيكون من قبيل تحصيل الحاصل. اذا كان الوضع على هذا النحو، فلماذا كل ذلك الضجيج، الذي يفوق المعتاد، والذي رافق مسيرة هذا العام الخامس والستين الذي تمنح فيه جوائز اكاديمية السينما الاميركية المعروفة باسم "الاوسكار"؟ لأن المفاجأة كانت منذ البداية: في مجال تسمية الافلام التي ستخوض السباق. فمنذ اعلان تلك التسمية، جحظت هوليوود عينيها وقال احد مراقبي الحياة السينمائية الاميركية ان التسميات في حد ذاتها تقول لنا ان ثمة اموراً غير عادية تحدث في دنيا السينما. هناك اتجاهات غريبة تتجهها هوليوود، وبالتحديد خلال هذه الاعوام التي تشهد انتصاراتها النهائية على كافة سينمات العالم مجتمعة. وهذه الاتجاهات الغريبة يمكن تلخيصها على النحو الآتي: تراجع القيمة الفعلية لأفلام الاستديوهات الكبرى لصالح انتاجات الشركات الصغيرة المستقلة. اتجاه السينما الهوليوودية نحو المزيد والمزيد من الابداع الفردي، بمعنى أن الافلام التي تحقق اكبر نجاح هي الافلام الفردية التي يحققها مؤلفون، وليس فقط موظفون لدى الاستديوهات كما كان الامر في السابق. هوليوود تنفتح اكثر وأكثر على سينمات العالم وتعترف بأن في تاريخ السينما اسماء كبيرة وعملاقة غير الاسماء الهوليوودية الراسخة، من ناحية، وتعترف من ناحية ثانية ان في السينمات الاجنبية مواضيع وأفلاماً يمكن، بل ولا بد من، اقتباسها. تتجه هوليوود اكثر وأكثر للاعتراف بأبنائها الهامشيين والمستقلين بوصفهم الاكثر قدرة على تجديد شبابها. فكيف اشتغلت هذه الاتجاهات الاربعة الاساسية وكيف انعكست في تسميات الاوسكار، ثم في النتائج كما اعلنت مساء الاثنين الاخير من شهر اذار مارس الفائت كما يحدث مرة في كل عام منذ العام 1927؟ في العام 1972 بعد ان بعث مارلون براندو بمناضلة هندية حمراء تعلن امام الملأ رفضه تسلم جائزة الاوسكار الخاصة به عن فيلم "العراب" احتجاجاً على الصورة التي تقدمها السينما الهوليوودية عن الهنود الحمر، والتي تسبقها على ذبحهم، وقف كلينت ايستوود متسلماً جائزته وقال ساخراً: "انني اتساءل عما اذا كان علي ان اعيد جائزتي رافضاً اياها باسم كل رعاة البقر الذين قتلهم جون فورد في افلامه!". يومها ضجت القاعة بالضحك. لكن ايستوود كان جاداً، فهو في ذلك الحين كان عاد من ايطاليا حيث حقق مجداً كبيراً فيها كراعي بقر في أفلام سيرجيو ليوني، وكان يحاول ان يندمج كلياً في المؤسسة الهوليوودية. ولقد اتاح له عمله طوال العقدين التاليين ان يصبح حقاً من سادة هوليوود وعمالقتها، وليس كممثل فقط بل كمخرج ايضاً. غير ان السنوات الهوليوودية عرفت كيف تصنع من ايستوود هامشياً حقيقياً، هامشياً يقلب الأنماط الهوليوودية لصالحه. وما فيلمه الاخير كممثل وكمخرج ايضاً "غير المسامح" الذي كرمته هوليوود بأربعة اوسكارات، منها الاوسكاران الرئيسيان: أفضل فيلم وأفضل مخرج سوى الانعكاس العملي لتلك الهامشية، فالفيلم هو في المقام الأول فيلم رعاة بقر، وكان بذلك ثالث فيلم رعاة بقر يفوز بالاوسكار في تاريخ هوليوود بعد "سيمارون" 1931 لوسلي راغلز، و"الرقص مع الذئاب" 1991 لكيفين كوستنر. غير ان هذا الفيلم يخرج كلياً في الواقع عن نمط رعاة البقر، بل انه يقلب الاسطورة رأساً على عقب، بحيث ان بعض النقاد نظر الىه بوصفه فيلماً ينهي الاسطورة، بدلاً من ان يحييها، كما فعل فيلم كوستنر على سبيل المثال. بين اجواء كوروساوا التاريخية وعوالم سيرجيو ليوني العدمية، حقق ايستوود اروع اعماله، عن راعي بقر في شيخوخته، حيث لم يعد اي شيء كما اعتاد ان يكون. من هنا لم يكن غريباً ان يقول احد النقاد ان بطل "غير المسامح" هو المفتش هاري نفسه وقد نخرته السنوات وراح من جديد يبحث عن شخض ليقتله اخيراً. فهل كان ايستوود راغباً في هذا الفيلم، ان يحطم الاسطورتين معاً: اسطورة المفتش هاري التي التصقت به، واسطورة راعي البقر التي التصقت بهوليوود وأعطتها بعض اجمل سنوات مجدها؟ هذا الكلام ليس بعيداً عن الصحة اطلاقاً. بل ومن الواضح ان هوليوود لم تعط هنا اوسكارها لفيلم تقليدي، بل لفيلم يحمل كل ما فيه اجواء معاداة التقليد، خاصة وان "غير المسامح" لم ينتج تحت حماية الاستديوهات الكبرى، بل انتج بشكل مستقل وكلف 14 مليون دولار، وبلغت مداخيله حتى الآن اكثر من مائة مليون. ستكون لنا عودة الى كلينت ايستوود في عدد مقبل من "الوسط" اما هنا فنكتفي بأن نشير الى ان فيلمه فاز ايضاً بجائزة افضل ممثل مساعد جين هاكمان وبجائزة المونتاج جويل كوكس، وبهذا خرج كلينت ايستوود راضياً رغم عدم فوزه بجائزة الممثل الأول. جائزة الممثل الأول ذهبت - كما كان الكثيرون توقعوا - لآل باتشينو، ذاك الممثل الذي كان برز بشكل لافت في سنوات السبعين، قبل ان يعود ويختفي فترة ليظهر بعدها اخيراً، ظهوراً متألقاً. صحيح ان باتشينو اعتبر بفوزه مدافعاً عن شرف استديوهات هوليوود، فهو ابن المؤسسة أولاً وأخيراً. لكن اللافت ان فوزه انما كان عن فيلم مستقل الانتاج هو الآخر، بل والادهى من هذا انه مجرد اعادة انتاج لفيلم كان دينو ريزي الايطالي حققه في سنوات السبعين وتألق فيه فيتوريو غاسمان في دور الاعمى. يحمل فيلم آل باتشينو عنوان "عطر النساء". وكان بدوره مرشحاً لجائزة افضل فيلم، وخاصة بعد ان فاز قبل اسابيع بجائزة "الكرة الذهبية". وعلى الرغم من ان باتشينو كان يضع الفوز في جيبه، فان منافسيه على الجائزة لم يكونوا اقل منه قوة اداء وهيبة: دنزل واشنطون عن "مالكوم اكس"، "روبرت داوفي" عن "شابلن"، كلينت ايستوود نفسه عن "غير المسامح" وستيفين ريا عن "لعبة البكاء". في الماضي كان باتشينو سمي ست مرات للفوز بأوسكار احسن ممثل، وفي المرات الست لم يكن الفوز من نصيبه مما اشعره بالكثير من المرارة. هذه المرة حدثت المفاجأة، بل ومرتين بشكل مزدوج: حيث من المعروف انه فاز قبل اسابيع بجائزة الكرة الذهبية عن الفيلم نفسه، بل وفي جوائز الاوسكار نفسها كان منافساً لجين هاكمان على جائزة افضل ممثل مساعد عن دوره في فيلم "غلين غاري". كان فوز آل باتشينو، اذاً، متوقعاً. ولكن كان متوقعاً كذلك فوز الانكليزية ايما تومبسون بجائزة افضل ممثلة. ليس فقط لأن مجلة "التايم" اهتمت بها كل هذا الاهتمام بل كذلك لأنه كان واضحاً لكل من شاهد "العودة الى هواردز اند" ان امامه ممثلة من طراز رفيع. فهذه الممثلة الشكسبيرية، زوجة كينيث براناغ ورفيقته في معظم افلامه والتي تمثل الى جانبه وتحت ادارته حالياً فيلماً مقتبساً عن مسرحية شكسبير "اسمع جعجعة ولا أرى طحناً"، تؤدي ادوارها بطريقة مفاجئة صادقة وحساسة. طبعاً كان على ايما الجميلة ان تنافس ممثلات كبيرات على الجائزة، من كاترين دونوف، سيدة الشاشة الفرنسية في "الهند الصينية" الذي فاز على اي حال بجائزة افضل فيلم اجنبي الى ميشال بفايفر عن دورها في فيلم "ميدان الحب" الى سوزان سارندون، الى ماري ماكدونال. ومع هذا كان كل شيء في فيلم جيمس الغوري الاميركي المنشق هو الآخر المقتبس عن رواية اي.ام.فورستر، والذي تلعب فيه ايما تومبسون اجمل دور لعبته حتى الآن، كان كل شيء في هذا الفيلم يقول انه سيفوز بجوائز اساسية، ان هو اخفق في الفوز بجائزة افضل فيلم او افضل مخرج. فيلم "هواردز اند" فيلم جميل يعيدنا الى اجواء بريطانيا غداة العصر الفيكتوري ليكشف لنا التناحر الطبقي من خلال حكاية حب مزدوجة تعيشها ايما تومبسون وشقيقتها. ولعل اجمل مشاهد هذا الفيلم هي تلك التي تجابهت فيها ايما مع سيدة اخرى من سيدات الشاشة: فانيسا ردغريف. كانت فانيسا مرشحة للفوز بجائزة افضل ممثلة مساعدة، وكانت التوقعات تشير الى فوزها بالجائزة، هي التي تحاول هوليوود استعادتها شيئاً فشيئاً. ولكن لم يكن من المنطقي بالطبع ان تعطى انكليزيتان مرة واحدة جائزتي التمثيل النسائي. من هنا كان اختيار ماريزا تومي الاميركية الوحيدة بين المرشحات للجائزة للفوز عن دورها الطريف في فيلم "ابن خالي فيني" والتي كانت تنافسها، الى فانيسا ردغريف، كل من جودي دايفيس عن "ازواج وزوجات" لوودي آلن وجوان بلورايت وميراندا ريتشاردسون. على اي حال يمكن القول ان فوز ماريزا تومي بهذه الجائزة لم يفاجئ احداً، خاصة وان المفاجئة الحقيقية في هذا المجال كانت هناك، عند الرجال، حيث كان من بين المرشحين الجديين لأفضل دور رجالي مساعد، ثلاثة من عمالقة هوليوود، منهم اثنان مرشحان لجائزة افضل دور رئيسي: آل باتشينو، وجاك نيكلسون الذي كان في الحقيقية مرشحاً عن دوره في فيلم "هوفا" ثم عاد واستبعد في التسميات النهائية، وجين هاكمان. نعرف ان هاكمان فاز بالجائزة وابتسم مطولاً وهو يحمل التمثال وربما فكر لحظتها في الادوار الاساسية الكبيرة التي لعبها طوال ربع قرن ولم يفكر احد بمنحه الاوسكار عنها، فجاءوا الآن ليعطوه جائزة الممثل المساعد. ولكن ألا يمكن لجين هاكمان أن يجد العزاء حين يتذكر ان الاوسكار حجبت في الماضي عن ممثلين كبار من طراز تشارلي شابلن وريتشارد بورتون ومارلين ديتريش وغريتا غاربو وبيتر اوتول وأورسون ويلز... وان مارلين مونرو لم تسمّ ابداً للفوز بها؟ هذه اللائحة ربما كانت تحمل بعض العزاء لا كله، لانه في مقابل هؤلاء الهوليووديين الكبار الذين لم تقترب الاوسكار منهم، كان ثمة صغار وعاديون نالوها بشكل مفاجئ. وفي مجال الاخراج لئن كانت الاوسكار قد حجبت عن مبدعين من طراز الفريد هيتشكوك وشابلن وجون كازافيتس وويلز وكوروساوا، فان اصحابها بدأوا يحاولون في الآونة الاخيرة تصحيح هذا المسار باختيارات موفقة تُعطى لهم عن مجمل اعمالهم، مع انها كانت في احيان تمثل نذير شؤم بالنسبة الى بعضهم. فهي مثلاً منحت في العام الفائت للهندي ساتياجيت راي عن مجمل اعماله، فمات بعد اسابيع. هذه الجائزة التكريمية الهامة منحت هذا العام للايطالي فدريكو فلليني.. وكم بدا مستحقا لها! كان مشهد الصالة رهيباً وجليلاً حين وقفت كلها لتحيي فدريكو فلليني، مخرج ايطاليا الكبير، وقد غزا الشيب كل ما تبقى من شعره وبدا عجوزاً الى حد لافت. وكان منظر فلليني مشبعاً بالحنين وهو يتلقى جائزته من مواطنيه مارتنيللو ماستروياني بطل افلامه الرئيسية وصوفيا لورين التي كنّ لها على الدوام احتراماً كبيراً. وهو شكر الاميركيين بكلمات طيبة واعتبر حضوره هنا طارئاً، قال انه رغم غيابه المؤقت فانه لم يودع السينما نهائياً بعد. تكريم الاوسكار لفلليني اتى كعمل يمنح الجائزة نفسها مجداً لم تكن لتحلم بمثله منذ سنوات، يوم لم تكن هوليوود مستعدة بعد للاعتراف بعمالقة السينما الأوروبية وغير الأوروبية. اما اليوم فأمور كثيرة تبدو وكأنها تغيرت، وغيرت هوليوود معها: فمن الهامشي الفائز بشخص كلينت ايستوود وفيلمه، الى انكليزية تفوز بجائزة افضل ممثلة، الى جائزة افضل ممثل تُعطى لأميركي ولكن عن فيلم مقتبس عن السينما الايطالية. الى حجب الجوائز عن افلام رئيسية بدت وكأنها منذ الترجيحات الاولى، تخوض حرب الاستديوهات ضد المستقلين، وصولاً الى ترشيح فرنسية دونوف لأفضل ممثلة، وتكريم ايطالي عن مجمل اعماله. كل هذا اتى ليذكرنا مرة اخرى، وليذكر هوليوود بحقيقة فن السينما: كفن للبداوة والتشرد. حقيقة كانت مستورة خلف قناع براق، هو قناع هوليوود كضامن للقيم الاميركية وللحلم الاميركي. حقيقة راحت تنكشف شيئاً وشيئاً متواكبة مع حقيقة اخرى تقول ان السينما هي فن الهامش. ولئن اتى فوز ايستوود وتكريم فلليني، ليكرسا عظمة هذا الهامش وتألقه، فان تكريم اودري هيبورن، الراحلة اخيراً، اتى ليلقي الضوء ساطعاً على بداوة السينما. فهذه الفتاة النحيلة الهشة التي كانت تجسد على الدوام رهافة الحلم الاميركي، تذكرها الناس حين ماتت انها انكليزية/هولندية الاصل، ولدت في بلجيكا، وترعرعت في فرنسا وعملت في هوليوود، وأنهت حياتها في سويسرا، ولكن بعد ان امضت فترة في الصومال تعانق اطفاله البائسين وتبكي مصيرهم. عندما كرمت هوليوود ذكرى اودري هيبورن، مانحة التمثال الرمزي لابنها الشاب، انما كانت تكرم هذا الجانب البدوي والانساني في تاريخ السينما، وتكريم الجانب الابداعي في هذا الفن. وما وقفة الهوليووديين جميعاً، تحية لصوفيا لورين وفدريكو فلليني، سوى اعتراف حي وصادق من هوليوود بأنها ابدا لم تكن وحدها، بل كانت دائما ذلك الوعاء الذي يتسع ويتسع ليسع الآخرين جميعاً. بمن فيهم ابناؤها الضالون، الذين دفعتهم عنها حين ضاقت في وجههم، وها هي اليوم تفتح لهم ذراعيها، ومنهم روبرت آلتمان وجيمس الغوري الذي كادت تمنحه جائزتها الكبرى عن فيلم انكليزي، فيما كادت تمنح آلتمان جائزة الاخراج عن فيلمه "اللاعب" الذي يندد بها. بعد هذا كله، هل يعني شيئاً كثيراً، ان يذهب ما تبقى من جوائز تقنية لأعمال هوليوودية بحتة: "علاء الدين" و"دراكولا" و"الموت يلائمها" وغيرها؟