قبل سنوات طويلة سألت إيلي حبيقة لماذا سلك طريق بيروت – دمشق باسم «القوات اللبنانية» التي تولى قيادتها على رغم تاريخ «القوات» وتاريخه فيها. وجاءني الجواب: «لأنني أدركت بعد التجارب المكلفة أن لا استقرار في لبنان من دون التفاهم مع سورية وحتى ولو بدا التفاهم صعباً ومكلفاً». وأضاف: «القطيعة مع سورية تشل قدرة المسؤول اللبناني وتحاصر الزعيم السياسي اللبناني. لا تستطيع أن تكون مسؤولاً طبيعياً أو زعيماً طبيعياً إذا كنت في حال عداء مع سورية. الاستقرار في لبنان يحتاج الى جواز مرور سوري». قرر حبيقة إعطائي مثلين على الحاجة الى سورية ومن قِبل أشد خصومها. قال إنه قبل اغتيال الرئيس بشير الجميل بأيام استكشف مسؤولون في «القوات» موقعاً في جرود جبيل ليكون مقر اللقاء بين بشير و «مسؤول سوري رفيع»، لكن الاغتيال كان أسرع. وأضاف: كان بشير مقتنعاً أن الاستقرار متعذر من دون سورية. المثل الثاني. قال حبيقة إن العماد ميشال عون كان في حال حرب مع «القوات» بعد «حرب التحرير» التي شنها ضد سورية وأوفد إلي أحد أقرب مساعديه ليطلب مني خدمة محددة هي «هل تستطيع أن تفتح لي خطاً مع الرئيس حافظ الأسد؟». وأضاف: يجمع الزعماء الموارنة رصيدهم من المواجهة مع سورية ثم يحاولون استثمار الرصيد في تسوية معها. لا أعرف لماذا تذكرت حديث حبيقة وأنا أدخل البارحة منزل النائب وليد جنبلاط. تلاحقت المشاهد في ذهني. العماد عون يرجع من المنفى بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان. استنتج هو الآخر أن سورية تبقى قريبة ومؤثرة وإن غادر جيشها الأراضي اللبنانية. طوى صفحة الماضي واتجه الى دمشق. استقبل بالترحاب وتحول صديقاً وحليفاً. ويمكن القول إن «حزب الله» لعب دوراً مهماً في عملية التأهيل وتعبيد الطريق. المشهد الثاني. أعطت الانتخابات النيابية الأخيرة سعد الحريري صفتين واضحتين: زعيم الغالبية النيابية والزعيم غير المنازع للطائفة السنية. كان المرشح الطبيعي لرئاسة الحكومة. قبل قبوله التسمية أدرك أنه لا يستطيع أن يكون رئيس وزراء لبنان من دون علاقة طبيعية مع سورية. اتخذ قراراً صعباً بطي صفحة الجروح وتوجه الى دمشق. استقبل بالترحاب وفتحت نافذة ستشكل زيارته المقبلة فرصة لتوسيعها. المشهد الثالث. قرأ النائب وليد جنبلاط معاني أحداث 7 أيار (مايو) 2008 في بيروت. ومعاني «حرب تموز». وموازين القوى المحلية والإقليمية. وأوضاع السياسة الأميركية في الإقليم. والتحولات في الرياح الدولية والإقليمية والمصالحات العربية. قرأ واستنتج. تولى «حزب الله» عملية التأهيل وتعبيد الطريق. زار جنبلاط دمشق وعاد مرتاحاً من لقائه مع الرئيس بشار الأسد. في بيروت يشعر الصحافي الزائر أنه يشهد نهاية مرحلة. وأن الأطراف التي كانت في موقع الصدام مع سورية تعيد النظر في خياراتها وتسقط مفردات من قاموسها استعداداً لتعامل أكثر واقعية مع «القدر الجغرافي». يعترف هؤلاء أن القيادة السورية اجتازت مرحلة العواصف بنجاح وخرجت منها أقوى مما كانت ما يؤهلها لمراجعة الأخطاء السابقة والتي لم تتردد في الإقرار بوجودها. في بيروت حديث متجدد عن سورية وقوتها واستحالة الاستقرار اللبناني من دون تفاهم عميق معها. أصدقاؤها الحقيقيون يقولون إن أمام سورية فرصة لبلورة علاقة عميقة ومتوازنة مع لبنان دولة ومؤسسات. علاقة تحصّن البلدين في وجه العدو الإسرائيلي وتعمّق التعاون الاقتصادي وتغيّب عنها أخطاء العقود الماضية. علاقة تغري جميع الأطراف اللبنانية بفتح أبواب التفاهم مع دمشق وتصلح أن تقدم نموذجاً للعلاقات بين الدول العربية المتجاورة. الأكيد أن رقصة التانغو تحتاج الى اثنين... تحتاج الى دولتين.