من المسرح إلى الشعر، مروراً بالموسيقى والاغنية وسائر فنون الاستعراض، تعرف الحركة الثقافية السودانية ازدهاراً مشجعاً، رغم مجموعة المصاعب والعوائق التي تعترض سبيل المبدعين هناك، وتقف حجر عثرة بوجه بلورة ونمو الكثير من التجارب الواعدة في شتى المجالات. وقد اختارت "الوسط" التعريف ببعض وجوه هذه الحركة الثقافية ورموزها، مسلطة الضوء على الخصوصيات والاضافات، طارحة على بساط البحث المشاكل والتساؤلات التي تفتح آفاق المستقبل. وربما كان الشعر - خصوصاً حين تمتهنه امرأة -، والمسرح والتراث الشعبي من ابرز المجالات التي تعكس ملامح الحركة الثقافية الراهنة في السودان، حيث للكلمة، والنغم والايقاع الاحتفالي بشكل عام، موقع الصدارة بين الانواع الادبية والفنية. نفيسة الشرقاوي نفيسة الشرقاوي اديبة تكتب القصة والشعر، اضافة إلى مساهماتها على مستوى المقالة الاجتماعية تشغل حالياً منصب رئيسة القسم الثقافي في مكتب الثقافة والاعلام في مدينة بورتسودان. اختارت توظيف قلمها لتناول قضايا المرأة السودانية. ويبدو توجهها جلياً من خلال قصصها القصيرة، التي قال عنها الشاعر السوداني المعروف محمد المكي ابراهيم: "اطلعت على المجموعات القصصية للكاتبة المقتدرة نفيسة الشرقاوي، فوجدت ادباً ناجحاً وكتابة متمكنة من نفسها واسلوبها. وقد بنت الاديبة تجربتها انطلاقاً من قضية نذرت نفسها للدفاع عنها بجرأة وشراسة". لكن كيف توفق الكاتبة بين تجربتها الابداعية وسائر مسؤولياتها الابداعية؟ - "اعترف ان العمل الاعلامي يتطلب جهداً شاقاً - تجيبنا الشرقاوي - وبحصر الذهن في اهتمامات يومية مرتبطة بالحدث المحلي او العالمي. غير ان العمل الابداعي يعيد اليّ التوازن وهو بمثابة تعويض واستجمام نفسي، حياة ثانية اخوضها وسط ثنائية خصبة ومشوقة". وماذا عن الأديبة ودورها وموقعها من الحياة الثقافية في السودان؟ تجيبنا "أم أحمد"، التي قرأت بنت الشاطئ جاذبية صدقي، أمينة السعيد، غادة السمان سحر خليفة، نازك الملائكة و... سيمون دي بوفوار: "مشكلة المرأة الادبية عندنا غالباً هو قصر النفس. فما ان يطلع صوت مختلف، او تبرز تجربة واعدة، حتى تختفي بعد المحاولة الاولى فنحن نشكو من عدم الاستمرارية، وانعدام المواظبة والتواصل. هل هو المجتمع الذي لا تلتقي فيه المرأة المبدعة استقبالاً مشجعاً؟ هل هي قلة التشجيع وندرة مجالات النشر التي تتلقف انتاجهن الغزير؟ من يدري، غير انني واثقة ان المواهب موجودة، وبكثافة، وما على الكاتبة الا ان تكافح، وتثابر، وتزاحم وتتصادم، لتثبت اقدامها وتحتل موقعها بين صفوف المبدعين، وتأخذ حقها الطبيعي في هذا المجال. عبدالقادر سالم أما المطرب عبدالقادر سالم، فيعتبر من جهته، احد الفنانين السودانيين الذين استطاعوا توظيف التراث الغنائي السوداني بنجاح في الاغنية الجديدة. فقد استوحى النمط الفولكلوري السائد غرب السودان دارفور وكردفان تحديداً، لاخصاب تجربته الموسيقية، وتمكن من الخروج بهذه التجربة الى آفاق العالمية اذ شارك في مهرجانات غنائية هامة في اليابان، بريطانيا، المانيا، هولندا، النمسا، النروج، ايرلندا، تشاد والجزائر. تجربته هذه حملها عبدالقادر سالم ل "الوسط" بقوله: "انا مولع بالتراث الشعبي عموماً وتراث غرب السودان على وجه التحديد. وقد تطورت اعمالي اليوم قياساً الى المحاولات الماضية، بفعل البحث والدراسة والخبرة. تقديري ان التجديد في شرايين الموسيقى السودانية هو المدخل الاصح والاضمن لدخول المدار العالمي. اما التهم الموجهة اليّ بالانغلاق والتقوقع في تراث منطقة محددة من السودان، فمتسرعة وباطلة. انا احمل هذه الخصوصية الى كل السودان، كما احمل الخصوصية السودانية الى العالم. حبذا لو ان زملاء من مناطق السودان الاخرى يلجؤون الى المسار نفسه". ونسأل المطرب، الذي كان احد منظمي "مهرجان الموسيقى الدولي" الذي اقيم اخيراً في السودان، عن الاسباب التي يعزو اليها غياب الموسيقى السودانية عن أذن المتلقي العربي، هل هو الاختلاف على مستوى البنى والسلالم النغمية؟ "السبب الجوهري بتقديري، هو ضعف امكاناتنا الاعلامية. وغياب سياسة التسجيل والتوزيع، وعدم وجود وسائل النشر الحديثة من اسطوانات وأشرطة كاسيت. ولا اعتقد ان السلم الخماسي - وهو الذي يميز طابع الاغنية السودانية - يحول دون انتشارها عربياً وعالمياً". عمر الخضر قد لا يكون تاريخ الحركة المسرحية في السودان بالقدم والتنوع نفسيهما اللذين تعرفهما حركات المسرح في اقطار عربية اخرى، لكن الخشبة السودانية تعرف منذ عقود تطوراً ملحوظاً، ادى الى بروز تجارب غنية وجديرة بالاهتمام. فماذا عن تاريخ هذه الحركة ومشاكلها وشروط ازدهارها؟ عمر الخضر، وهو مسرحي ومخرج سوداني ذائع الصيت، له مساهمات لافتة ممثلاً ومخرجاً، طرح لنا وجهة نظره حول هذه المسألة: "التاريخ الفعلي للمسرح السوداني، يبدأ سنة 1967 مع مسرحيات مثل "الملك نمر" و "أكل عيش" و "خراب سوبا"... وتوالت المواسم بعد ذلك فجاءت مسرحيات "الزوبعة" و "أحلام جبره"، وعرفت السبعينات ازدهاراً ملحوظاً من خلال اعمال ك "النار والزيتون" و "نبتة حبيبتي" و "حصان البياحة" و "السلطان الجائر" و "اهل المستنقع" وغيرها من المسرحيات التي اوقدت شعلة المسرح في تلك الفترة...". أما الركود الحالي الذي تخبط فيه المسرح السوداني اليوم، فقد بدأ حسب الخضر بعد "مهرجان الثقافة الثاني" وذلك على اثر تقاعس حركة الانتاج، "التي لم تستطع ان تقابلها اعتمادات الدولة الشحيحة. ومن دون الدعم الرسمي كيف للمد الثقافي ان يستمر ويتطور؟ هكذا جاء البديل من خلال نشر المسلسلات الاستهلاكية والمسرحيات المعلبة على الشاشة الصغيرة، واخذ جمهور المسرح بالتناقص، لكن غالبية الفرق المسرحية متمسكة بدورها الفاعل في تقديم اعمالها المسرحية، واحياء حركة الانتاج على مستوى الاقاليم، لفك حصار الاعمال المستوردة...". * وماذا عن التجريب والمسرح الطليعي؟ - "يؤسفني القول ان التجريب قد تعثر وتضاءل على مستوى المسرح السوداني، والاستثناءات قليلة ونادرة. قناعتي ان التجريب الذي لازم العمل الموسيقي عندنا، يفوق ما تم مسرحياً، ربما لان الموسيقى سابقة للمسرح بأشواط في تراثنا العربي. حتى الدراما على الشاشة الصغيرة ما زالت عند خطواتها الاولى. فالضعف التقني ظاهر، ولا بد لنا من استوديوهات متطورة ومن خلق كوادر فنية من المخرجين والمصممين الى مهندسي الاضاءة، ومديري الكاميرا والمصورين وكاتبي السيناريو، اضافة الى الازياء والماكياج والانتاج. فتأسيس هذا القطاع، وتخصيص الميزانية الكافية له في موازنة الدولة، من الشروط الكفيلة بدفع عجلة التطور والارتقاء بفنون الدراما في السودان. لا بد لنا اخيراً كمبدعين من متابعة كل المهرجانات العربية والمشاركة فيها بصورة فعالة، فعلاقة التفاعل هذه ضرورية اذا شئنا ان نحتل ذات يوم المكانة الفنية التي نطمح اليها". اسماعيل خورشيد ينتمي المسرحي اسماعيل خورشيد، من جهته، الى جيل الرواد. ومن هذا المنطلق يبدأ من استعراض البدايات الصعبة: "تعرض المسرح السوداني في بداياته لكثير من المعوقات. جافاه الناس ونظروا اليه كضرب من ضروب العبث واللهو او الانحراف الذي يضيع الوقت. ولولا معاندة المؤسسين الاوائل ممن اصروا على اهمية ايجاد هذا الصرح الثقافي، لكنا ما زلنا عند نقطة الصفر حتى الآن. اما اليوم، فقد تجذر فن الدراما وانتشر في مختلف المناطق. هكذا اصبح حصاد "المسرح القومي" و "مسرح قاعة الصداقة" ومسارح مراكز الشباب ومعهد الدراما والكوادر المسرحية المثقفة، يسيراً وتنامى عدد الهواة والمتذوقين والمتفرجين. وما تعرض له المسرح، تعرضت له الاغنية، اذ عانى حاملو راية تجديدها اقسى انواع الصعاب". يعتبر خورشيد ان "جذور الثقافة الشعبية، والتراث الافريقي العربي، من الاسس المتينة التي تخول اهل الفن المضي قدماً على طريق الابداع والابتكار والتجديد"، فنسأله رأيه في التهمة السائدة في اوساط الشباب من كون الاخفاقات التي يشهدها الواقع السوداني اليوم، يتحمل مسؤوليتها جيله هو في المقام الاول. - "جيلنا هو الذي وقع عليه العبء الاكبر في قيادة النهضة بأكملها: سياسياً واجتماعياً وأدبياً وثقافياً وحضارياً. لقد كنا جيل التضحيات، في اصعب سنوات الاستعمار والنضال... وما بذرناه ايامها ازهر مع الجيل اللاحق، فكان الحصاد الذي نعرف... ليس هناك اليوم اسهل من انتقاد تجربتنا، لكنني اسأل المنتقدين اولاً ما قدموا... اعتقد ان الجيل الصاعد كثير التشكي ويقع احياناً في فخ الادعاء المجاني".