سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"الوسط" تنشر على حلقات كتاب نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية اللبناني السابق . إيلي سالم يتذكر : الأسد حذر الجميل من محاولة اسرائيلية ضده وطلب تطهير بيروت الشرقية من النفوذ الاسرائيلي 14 قسم ثاني
"آخر رئيس ماروني" وعارض اليمينيون من الموارنة بشدة مبدأ ترؤس رئيس الوزراء مجلس الوزراء، لكن "القوات اللبنانية" لم تعترض على ذلك. وقلت للرئيس الجميل في اجتماع خاص: "ينبغي ان نجري الاصلاحات التي نعتقد انها في صالح لبنان. والأرجح ان المسلمين في البلد هم الاغلبية. وان لم نتوصل الى اتفاق الآن فقد يكون الاقتراح التالي: تعاقب الطوائف على شغل مناصب الرئاسات الثلاث او احداث مجلس رئاسي جماعي. وأرى ان تمنحني صلاحيات تخولني التوصل الى اتفاق ضمن نطاق الخطوط العريضة التي تتبناها". وقاطعني الرئيس وسألني عن شعوري الشخصي، فأجبت: "عواطفي مع المسلمين الذين اظهروا قدراً كبيراً من الاعتدال والانصاف. اما في سورية فعليّ ان ادافع عن موقفنا. وإنني شخصياً مقتنع بأن المشاركة ينبغي ان تكون اوسع مما اقترحنا اصلاً. وينبغي ان نتوصل الى صيغة تعطي الرئيس ما يكفي من السلطات كي تبقى في يده دفة توجيه السياسة، لكن لا ينبغي ان نخشى مبدأ المشاركة في السلطة بشكل يمنح رئيس الوزراء صلاحيات مهمة من بينها ترؤس مجلس الوزراء. ولبنان ليس للموارنة وحسب، لذا لا ينبغي ان يحكموه وحدهم، بل يجب ان يحمل السنة والشيعة والدروز معهم عبء الحكم ومسؤولياته". ورد الجميل قائلا إن موقفه ليس بعيداً عن موقفي، وإن همه الوحيد هو أن الأجهزة الحكومية يجب أن تكون قادرة على أداء مهامها وأن لا يستبعد رئيس الجمهورية عن صنع القرار، إذ لو اجتمع مجلس الوزراء في تلك الحال بإدارة رئيسه واتخذ قرارات يعترض عليها الرئيس، فسيقول المجتمعون إن رئيس الجمهورية لا هم له سوى وضع العراقيل أمام المجلس. وعلى رغم صلتي الوثيقة بالجميل كنت أشعر أن هناك جانباً من شخصيته لا استطيع أن أسبر غوره. ولكوني أنتمي الى طائفة الروم الارثوذكس ومن خريجي الجامعة الأميركية في بيروت وتخصصت في الدراسات الاسلامية وذا توجه عربي فقد اندفعت الى تجاذب الأحاديث مع أصدقائه الموارنة ومعارفه القدامى كي أفهمه الى درجة أعمق. وكان جوزيف أبو خليل من جملة الأصدقاء، وكريم بقرادوني من جملة المعارف الخُلصَّ. وكان بقرادوني والجميل تباعدا عن بعضهما البعض حين اختار الأول العمل لصالح بشير، شقيق الرئيس، لكنه كان يفهم الرئيس جيداً لكونه أيضاً أقرب أصدقائه خلال سنوات المدرسة. وقال لي بقرادوني ان أمين الجميل كوالده الشيخ بيار "على المرء أن يفهم رموزه، وهذا ليس بالأمر السهل. فهو يغير هذه الرموز على الدوام كي يبقي تحركاته كلها مفتوحة أمامه". وروى لي قصة إحدى المواجهات العديدة بين بيار الجميل وآريل شارون وزير الدفاع الاسرائيلي في حينه. فبعد مذبحة صبرا وشاتيلا جاء شارون الى الشيخ بيار وقال له: "أبلغناكم قبل ستة أشهر أننا سنغزو لبنان لكن هدفنا لم يكن يتجاوز نهر الليطاني. فإذا أردت ان ندخل بيروت عليك أن تساعدنا وتتحمل جزءاً من هذه المسؤولية. ودخلنا بيروت ولم تفعل شيئاً" فرد عليه الشيخ بيار: "أبلغناكم أننا نرحب بكم، لكننا لم نقل إننا على استعداد للوقوف ضد العرب". وتابع بقرادوني أن شارون حينذاك انطلق غاضباً خارج منزل الشيخ بيار وهو يصفق الأبواب ويركل المصعد. كلما كنت أمارس الضغط على الرئيس الجميل للتقدم بإصلاحات جذرية والتوصل الى ميثاق حقيقي مع الأسد، كانت تزداد خشيته من أن أكون استعجله اتخاذ القرار من دون أن أسمح له بفرصة للتمعن فيه. ولم يقبل من الاصلاحات سوى ما يقتنع به، وإلا - كما قال - فسوف يستقيل. وقلت له إننا كنا حتى ذلك الحين نفاوض على أساس السلطات التي لا ينبغي أن نتخلى عنها. واقترحت أن نبدأ التفاوض على أساس ما هو عدل وانصاف بالنسبة الى لبنان ككل. فليس من الانصاف أن يمارس المسيحيون سلطات أكبر من سلطات المسلمين. ونحن لا نكتب الآن مواد الدستور النهائي للبلاد، بل نمهد لذلك. وينبغي أن نتحلى بالشجاعة للقيام بالاصلاحات والشجاعة لإقامة علاقات مخلصة مع سورية. وحين تقرر أن تفعل ذلك ينبغي أن ينعكس موقفك في شخصك، وفي تفكيرك الباطن، وفي تصريحاتك، وفي أحاديثك الخاصة، وفي اتصالاتك بسفرائك. ولم يكن الجميل يعتقد أن التوصل الى اتفاق أمر ممكن، وحتى لو تم التوصل الى الاتفاق فهو لم يكن يعتقد أنه سينفذ. وكان تشاؤمه هذا نابعاً من العوامل العديدة على أرض الواقع التي كان يبدو أنها تتضارب مع بعضها البعض بعيداً عن موضوع الاصلاحات الدستورية وعن قدرته على تحقيق التقارب الذي كان يأمل فيه مع الأسد. في الرابع من ايار مايو 1987 أعلن كرامي استقالته. وكان رئيس الوزراء فيما مضى يفعل ذلك بتقديم الاستقالة الى رئيس الجمهورية. أما هذه المرة فقد تجاهل كرامي الرئيس تماماً متخذاً بذلك موقفاً ضد العرف. وأشار شمعون على الرئيس أن يقبل الاستقالة على الفور، وقال له إن تلك فرصة قد لا تسنح ثانية. وفي صباح اليوم التالي حضر شمعون باكراً الى القصر الجمهوري ولم يكن نام طيلة الليلة الفائتة - كما قال - وهو يفكر في استقالة كرامي. وأصبح رأيه بعد الدراسة الآن الا يقبل الرئيس استقالة كرامي، فقبولها ينطوي على البحث عن زعيم سني مستعد لتشكيل حكومة ووزراء من السنة مستعدين للانضمام اليها. والمسلمون يعرفون ان استقالة كرامي تحظى بتأييد سورية ولم يكن أي سني على استعداد لتحدي سورية بالانضمام الى حكومة لا توافق عليها دمشق. وصرح نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام آنذاك أن على كرامي ان يظل رئيسا للوزراء وانه لا يمكن قبول أية اصلاحات ما لم توافق عليها حكومة برئاسته. وقال خدام انه إذا رحل كرامي فيجب أن يرحل الجميل أيضاً ويكون "بذلك آخر رئيس ماروني للبنان". وأجرى الجميل مشاورات واسعة النطاق. ولم توافق أية جهة على قبول استقالة كرامي فوراً سوى "القوات اللبنانية" التي كانت تدعو الى استقالته منذ عام لكنها لم يكن أمامها بديل في مستواه. وأكد لي السفير المصري ان تقي الدين الصلح سيشكل الحكومة. ولدى الاتصال به قال انه لن يشكلها إلا إذا حظيت بموافقة سورية. التقيت الشرع في التاسع من ذلك الشهر لاستئناف مباحثاتنا في شأن الاصلاحات. وقبل أن نبدأ أثرت مسألة استقالة كرامي، وأبلغت وزير الخارجية السوري ان الجميل ميال كثيرا الى قبولها والطلب من كرامي ان يبقى في منصبه وتسيير شؤون الحكومة الى أن تشكل حكومة جديدة. وبدا الشرع مستغرباً اثارتي هذا الموضوع معه. وقال ان تلك مسألة داخلية. والتفت الى العميد غازي كنعان وقال انه ربما كان عنده شيء يدلي به في هذا الصدد. وأخذ كنعان، الذي آثر حتى ذلك الحين الصمت على الكلام، يسرد أمثلة مطولة على الاحباط الذي كان كرامي يشعر به إزاء الوضع في المنطقة الشرقية من بيروت و"القوات اللبنانية" خصوصاً، ولأن الجميل لم يعقل شيئاً لتعزيز سلطته كرئيس للجمهورية في تلك المنطقة، ولأن كرامي لم يستطع أن يوفق بين ما كان يقوله إيلي سالم في المفاوضات وبين الوضع القائم على أرض الواقع والمواقف السياسية المنظورة للأطراف المعنية. يضاف الى هذا، حسب قول العميد كنعان، ان سورية لا تستطيع قبول وجود اسرائيلي في المنطقة الشرقية من بيروت. ومضى يقول ان الجميع يعرف ان اسرائيل استطاعت اختراق "القوات اللبنانية" والطائفة المسيحية من خلالها وان ذلك يشكل خطرا كبيرا على سورية. وقال ان الجميل ذو نيات حسنة، لكنه عاجز عن القيام بشيء، وإذا كان هذا وضعه فكيف يمكن أن نعقد اتفاقاً معه؟ وبدر من الأحاديث تلميح من طرف خفي الى أن استقالة كرامي قد تؤدي الى استقالة الجميل. وكان الشرع يرى ان استقالة رئيس الوزراء اللبناني ما هي إلا مظهر من مظاهر الوضع المعقد، وان الحاجة الحقيقية تدعو الى أن يتخذ الرئيس الجميل قراراً بقبول الاصلاحات التي اقترحتها المعارضة. وكنت حضرت الى ذلك الاجتماع متسلحاً بصلاحيتين: احداهما سلبية والأخرى ايجابية. السلبية كانت الغاء بند كنا اقترحناه سابقاً يعطي رئيس الجمهورية سلطات معينة. وكان خدام أبلغني على الهاتف ان ذلك البند من شأنه أن "يحول الرئيس اللبناني الى رئيس ذي صلاحيات واسعة". وقلت للشرع اننا سنلغي ذلك البند، واننا سنقبل بأية سلطات تمنح للرئيس ويقترحها السوريون. أما الصلاحية الايجابية التي كنت أتمتع بها فكانت أن أقبل رسمياً مقراً مستقلاً يجتمع فيه مجلس الوزراء الذي اعتاد عقد اجتماعاته في القصر الجمهوري لأن الرئيس، وفق أحكام الدستور، يمثل السلطة التنفيذية. والآن وقد قبلنا نقل السلطة التنفيذية الى مجلس الوزراء وقبلنا مبدأ ترؤس رئيس الوزراء بعض اجتماعات المجلس، أصبح من المنطقي أن نحدد مكاناً آخر غير القصر الجمهوري لعقد اجتماعات مجلس الوزراء. وقبل الشرع هذا الطرح، وكان ذلك يعني ان مباحثاتنا في طريقها نحو الخاتمة أخيراً وأن لقاء القمة بين الأسد والجميل على أساس النقاط التي اتفقنا عليها أصبح وشيكاً. ولدى عودتي الى بيروت أشرت على الرئيس بأن تكون فترة رئاسة الرئيس الشيعي لمجلس النواب أربع سنوات لتحقيق توازن أفضل في التشكيل المقترح لأجهزة الحكم. وقبل الرئيس ذلك شريطة إعادة النظر في الهيكل البيروقراطي الذي يعاون رئيس المجلس وجعله أكثر ديموقراطية. ويتمتع رئيس المجلس النيابي وفق الأحكام الحالية بالسلطة الكاملة على شؤون موظفي المجلس الذين لا يخضعون حتى الى الأحكام المطبقة على موظفي الدولة الآخرين. وكنت أرغب في الحصول على صلاحية كاملة من الرئيس لجعل الاجتماع المقبل مع السوريين آخر الاجتماعات. ووافق بسرور على ذلك مدركاً تماماً أنني لن أتجاوز الخطوط التي يرسمها لي وأن إطالة أمد المباحثات أخذت تجعلها جامدة معطلة. اغتيال كرامي وصلت الى دمشق يوم الخميس الرابع عشر من ايار مايو مصمماً على البقاء هناك الى حين التوصل الى اتفاق، وأبلغت الشرع بعزمي على ذلك. وقلت له انني مفوض بحل المسائل المتبقية جميعاً، وانني اريد اتفاقاً، وانني افقد مصداقيتي لدى الاطراف في لبنان، واني باق هنا كضيف "آكل من طعامكم وأشرب من شرابكم" الى ان نتفق. ولم يكن الشرع مستعداً لهذا الموقف، وكان يعرف انني كثير المزاح وأني ألجأ الى الدعابة في تصرفاتي الديبلوماسية لكني كنت في منتهى الجد هذه المرة. وأكد من جهته ان دوره لا يتعدى دور الوسيط وان هناك حاجة الى التشاور وان الحاجة ربما اقتضت ايضاً دعوة زعماء من لبنان يمثلون مختلف الاطراف و"توسيع دائرة المشاورات". ورفضت ذلك رفضاً قاطعاً، فتوسيع تلك الدائرة يعني اعادة فتح ملفات القضايا التي اتفقنا عليها كلها، اي العودة الى الحلقة المفرغة من جديد. وكان هناك شيء خفي يحول دون اتمام عملية التوصل الى اتفاق. هل كان ذلك عدم رغبة سورية في التوصل الى اتفاق مع الجميل؟ هل كانت تفضل عقد اتفاق جديد مع رئيس جديد؟ هل كانت ثقتها في الجميل ناقصة الى الحد الذي يمنعها من منحه انتصاراً في نهاية فترة رئاسته؟ ام هل كانت سورية غير مستعدة لعقد اتفاق من شأنه ان يجبرها على اتخاذ موقف بالنسبة الى الاطراف جميعاً في لبنان؟ كان في وسعنا طرح هذه التخمينات كلها لكن لم يكن في وسعنا معرفة الاجوبة عنها. وشعرت ان المباحثات وصلت الى نهايتها، فقد افضت الى الاتفاق على النقاط جميعها بالفعل، وحين لا يكون هناك اتفاق في بعض الحالات يكون هناك تفاهم على الخيارات التي ينبغي طرحها امام الرئيسين كي يتوصلا الى حل لها. وعدنا الى بيروت في انتظار المناخ المناسب لاختتام المباحثات. وبقيت مسألة استقالة كرامي عالقة، فالرئيس الجميل لم يبحثها على اساس ان اي اجراء يتخذ في صددها من شأنه زيادة تعقيد الوضع. وكان كرامي من المبدعين في ميدان الاستقالات او الامتناع عن اداء مهام منصبه وهو يشغله. وكانت تلك مناورة سبق ان لجأ اليها في عهد رؤساء سابقين وبرهن هذا الاسلوب على فاعليته في ايصاله الى هدفه المنشود وعلى انه اقل الخيارات المفتوحة الصعبة اضراراً. وكان قبول استقالته يعني فتح الطريق امام الخطوة الثانية والثالثة. لكن اذا لم نستطع الانتقال بسبب قوة الظروف الى الخطوة الثانية والثالثة فلماذا نقوم بالخطوة الأولى؟ وعلى رغم استقالة رئيس الوزراء عقد البرلمان جلسة يوم الحادي والعشرين من ايار مايو 1987 وألغى "اتفاق القاهرة" الذي كان مصدر الشقاق في العلاقات اللبنانية - الفلسطينية منذ عام 1969. وكان "اتفاق القاهرة" اصبحت لاغياً في الواقع منذ عام 1982، ولم يكن الغاؤه رسمياً سوى شكل من اشكال دفنه بالشعائر اللازمة. ولم يؤد ذلك الاجراء بالضرورة الى ضبط المنظمة عن القيام بما كان في وسعها القيام به من الأراضي اللبنانية ضد اسرائيل، لكنه ازال عن ذلك النشاط الغطاء الشرعي الذي كان يحميه به "اتفاق القاهرة". في الأول من حزيران يونيو 1987 اغتيل رشيد كرامي، عندما انفجرت قنبلة وضعت خلف مقعده على متن المروحية العسكرية التي كانت تقله من طرابلس الى بيروت. ووقع الانفجار في الجو وفوق جبيل وأدى الى اعطاب المروحية التي تمكنت مع ذلك من الهبوط في مطار حالات العسكري. وعلى الفور صدرت الاتهامات ضد "القوات اللبنانية" والجيش وحتى الرئيس الجميل باغتيال كرامي. وأجري على الفور تحقيق عسكري في الحادث. والى جانب هذا التحقيق احيلت القضية الى مجلس القضاء الاعلى، وهو اعلى محكمة في لبنان تنظر في الجرائم التي ترتكب ضد امن الدولة. ولم يستطع مجلس القضاء تحديد المسؤولية في ذلك الحادث، وأطلق سراح طاقم المروحية الذي كان اعتقل بعد الحادث للاستجواب يوم الثالث والعشرين من ذلك الشهر بعد ان ثبتت براءتهم. وكما هي الحال في الاغتيالات السياسية في لبنان كلها، انكر الجميع الاتهام الموجه الى اي جهة ووضع كل منها المسؤولية على طرف ثالث. وقد توجهت الانظار نحو "القوات اللبنانية" لأن قيادتها كانت تهاجم كرامي لوقت طويل بسبب مواقفه المؤيدة لسورية. واتهمت سورية كلاً من "القوات" والجيش، وحمّلت الجيش مسؤولية ما حدث لأن المروحية التي وقع فيها الانفجار كانت تابعة له. وأصدر الرئيس الجميل، مرسوماً بتعيين سليم الحص، الذي كان وزيراً في حكومة كرامي، رئيساً للوزراء بالوكالة كي يضمن الاستمرار لحكومة لم تكن معطلة عن الاجتماع فحسب بل كانت تقاطع الرئيس ايضاً. كما اوحت تعزية الاسد لاسرة كرامي، لا للرئيس، لأن الجميل اما متهم في الحادث او انه غير معني بالامر. ولم نستغرب ان نتلقى في اعقاب حادث الاغتيال رسالة من دمشق مفادها ان "المباحثات" لن تستأنف الا اذا قبض على الجناة وعوقبوا. وضغط الرئيس الجميل، الذي كان يهمه ان يبقي خطوطه مع دمشق مفتوحة، على العماد ميشال عون قائد الجيش كي يفعل شيئاً لمعاقبة جميع المسؤولين في قيادة المروحيات او غير ذلك، المهم ان يفعل شيئاً. ولم يكن العماد عون راغباً في احباط الروح المعنوية للجيش بطرد افراد كان يعتقد انهم ليسوا مسؤولين عن الجريمة. الاسد والهاجس الاسرائيلي ومع ادراكنا حجم المأساة بفقد كرامي، كنا نعتقد ان الحادث لا ينبغي ان يعطل "مباحثات دمشق" التي كانت آنذاك العملية السياسية الوحيدة، والاتصال الحكومي الوحيد مع سورية. وعلى هذا الأساس اعتمدنا على وسيط عربي بارز لنقل اقتراحات خطية محددة من الجميل الى الاسد. وتوجه الوسيط الى دمشق وسلم خدام اقتراحات الجميل ثم تلقى رد الاسد. وقد اعرب الرئيس السوري في رده عن تقديره لرغبة الرئيس الجميل في العمل معه بشكل وثيق وانه لا يعتبره مسؤولاً عن الاحداث الاخيرة اغتيال كرامي وانه يعتبر تلك الاحداث موجهة الى الأسد والجميل على حد سواء. وجاء في رد الاسد ايضاً ان مسألة الاصلاحات ينبغي الآن تنحيتها جانباً وأن يتركز الاهتمام في المسألة السياسية وانه يجب مواجهة النفوذ الاسرائيلي في المنطقة الشرقية من بيروت على الفور وان الاسد مستعد ان يضع كل الامكانات تحت تصرف الجميل اذا كان عازماً على ازالة العنصر الاسرائيلي من بيروتالشرقية. ويرى الرئيس السوري ان اسرائيل تريد تقسيم لبنان واقامة دويلة موالية لها في ذلك القطاع، وان لدى سورية معلومات بأن اسرائيل تعتبر الجميل وبري وجنبلاط عقبات في وجه مخططاتها، ولذا "فقد يكون الجميل الضحية المقبلة، وعليه ان يتحرك بسرعة". وأشار الرئيس السوري الى انه يرغب في معرفة رد الرئيس اللبناني على رسالته هذه، كما كان يريد ان يعرف كيف سيواجه الجميل "العامل" الاسرائيلي في الشؤون اللبنانية، وما هي النتائج التي يتوقعها وما الذي يريده من سورية. وكان الوسيط يدرك ان ذلك لم يكن الاسلوب ولا الجواب الذي كان يتوقع، ورغب في مقابلة الاسد ثانية للتوصل الى اتفاق نهائي حالما يعود الرئيس السوري الى استقبال ضيوفه من جديد. وقلت للوسيط ان لا يتوقع من الجميل ان يضرب "القوات اللبنانية"، فمهما كان يعارضها يظل قوامها مع ذلك الشبان المسيحيين ومعظمهم اعضاء في حزبه الكتائب قبل ان تسحبهم قوى اخرى بعيداً عنه. فهو ليس كأخيه بشير. وهدفه هو احتواء "القوات" سياسياً في اطار اتفاق يحدد علاقات مميزة مع سورية. وأيد الجميل رأيي في ما يتعلق بپ"القوات" وأرسلني ثانية الى قبرص لابلاغ الوسيط اننا على استعداد لاقناع "القوات" بالانضمام الى اتفاق جديد وضمان اتخاذها موقفاً معتدلاً وانهاء علاقتها باسرائيل، وهي العلاقة التي بولغ بالحديث عنها على اي حال. وأضاف الجميل ان "القوات اللبنانية" بالنسبة الينا ليست سوى ميليشيا اخرى كسائر الميليشيات في لبنان وعلى هذا يجب ان لا تحظى بمعاملة خاصة مختلفة عن معاملة الدولة غيرها من الميليشيات، فهي كلها يجب ان تستوعب سياسياً في حكومة جديدة تشكل على اساس الاتفاق الذي في حوزتنا. والتقى الوسيط العربي الرئيس السوري في دمشق يوم السابع والعشرين من حزيران يونيو 1987 والتقيته في لارنكا بعد ذلك بيومين. ولم تكن مهمته ناجحة، وكان يبدو عليه الاحباط وحاول ان يبدي العذر والاعتذار. وكان الرئيس السوري يعتقد ان اي اتفاق مع الجميل في حين يبقى "العامل" الاسرائيلي ذا دور فعّال في بيروتالشرقية، مصيره الى الفشل. ورأى ان المقترحات الخاصة بالاصلاحات التي قدمها الوسيط معقولة، لكن تطبيق تلك الاصلاحات يجب ان يرجأ الى ان يتخذ الرئيس الجميل اجراء ما حيال النفوذ الاسرائيلي في المنطقة الشرقية من العاصمة اللبنانية. وقال الاسد ان "مباحثات سالم - الشرع حققت تقدماً عظيماً وكادت تتوج بالنجاح لو لم يقع حادث اغتيال كرامي". وأعرب الرئيس السوري عن شكه العميق في امكان "احتواء" فئة تغلغل فيها الاسرائيليون. وتحدث الاسد بايجاب عن الدور الذي يمكن ان تلعبه الولاياتالمتحدة في لبنان، ولا سيما اخراج اسرائيل منه، معرباً عن اهتمامه باقامة تعاون اكبر مع واشنطن. وكان الرئيس الاميركي ريغان في ذلك الوقت تقريباً يبلغ السيدة ثاتشر رئيسة الوزراء البريطانية ان الولاياتالمتحدة ترغب في بدء حوار مع سورية وتحسين العلاقات معها. ولم تعترض ثاتشر على ذلك، لكنها حضت على ارجاء ذلك الحوار الى ما بعد الانتخابات البريطانية التي كانت ستجري اوائل تموز يوليو التالي. وبعث ريغان رسالة الى الرئيس الاسد عبّر فيها عن رضاه لخروج "أبو نضال" وجماعته من سورية وأورد المواضيع التي سيبحثها مبعوثه الخاص الجنرال فيرنون وولترز مع الرئيس السوري حين يلقاه قريباً. وكانت تلك المواضيع تتناول العلاقات السورية - الاميركية، حرب الخليج العراقية - الايرانية، عملية السلام مع اسرائيل ودور ايران في لبنان المتجسد في "حزب الله". واستدعى وزير الخارجية السوري القائم بالاعمال الاميركي في دمشق ونقل اليه استعداد الرئيس الاسد لاستقبال فيرنون وولترز مبعوث الرئيس ريغان. ولم أستغرب ان اجد القضية اللبنانية مستثناة من جدول اعمال محادثات وولترز مع السوريين. لذا طلبت من السفير جون كيلي، الذي كان في غياب اهتمام واشنطن بالقضية هو المسؤول الذي يصوغ بالفعل السياسة الأميركية تجاه لبنان، ان يبعث رسالة الى وولترز كي يضيف الملف اللبناني الى جدول مباحثاته مع الرئيس الأسد. وفي الوقت ذاته أعددت مسودة رسالة الى الجميل كي يرسلها الى الرئيس ريغان قبل مغادرة وولترز الى دمشق. وكان الرئيس الأميركي وجميع اعضاء إدارته منهمكين حتى رؤوسهم في فضيحة "ايران غيت" ولهذا كانت الادارة الأميركية عاجزة عن التحرك في شكل فعال. وكان كل عضو من أعضائها منشغلاً في تعيين محام عنه ينقذ رأسه من شظايا الفضيحة. التقى وولترز الأسد في دمشق يومي الخامس والسادس من تموز يوليو 1987 وأطلعني كيلي على نتائج اللقاء في السابع منه. وقال لي كيلي إن وولترز، بموجب تعليمات من ريغان، أكد دعم الولاياتالمتحدة لوحدة أراضي لبنان وأبرز وجهة النظر الداعية الى أن مؤسسات الدولة اللبنانية - رئاسة الجمهورية والبرلمان والقوات المسلحة - يجب أن تؤدي أعمالها بالشكل المعتاد والسليم وإلا زال لبنان من الوجود. وأضاف وولترز ان الولاياتالمتحدة تضغط على الرئيس الجميل من أجل كشف المتآمرين لاغتيال رشيد كرامي ومعاقبتهم. وأبلغ الأسد ولترز أنه أشار على الرئيس الجميل بالأسلوب المناسب لحل هذه المشكلة وان الجميل تجاهل النصح. وحض وولترز الأسد على استئناف "مباحثات دمشق" حتى قبل القبض على المتآمرين لاغتيال كرامي ومعاقبتهم، وقال للرئيس السوري انه لا ينبغي أن تكون مسألة ما رهينة مسألة أخرى. وفيما كان وولترز يلتقي الأسد، كانت ابريل غلاسبي تلتقي الشرع وتشجع المبادرة السعودية وتحض على معاودة "مباحثات دمشق". وكان موقف وزير الخارجية السوري أن لا عودة الى المباحثات قبل إلقاء القبض على الجناة ومعاقبتهم. ولو كانت المباحثات استؤنفت ونجحت، لكانت وضعت حداً لحرب لها مضامين خطيرة على الساحتين الاقليمية والدولية. ولا بد لخطوة بهذا الحجم من أن تتم على يد قوة عظمى مقابل منح سورية الضمانات التي تطالب بها على الصعيد الاقليمي. وإحلال السلام في لبنان يقتضي توفر اهتمام بالغ به على مستوى المنطقة وتوفر دعم دولي على القدر نفسه من الاهتمام. ولم يكن أي من ذلك متوفراً حينه. وتوقفت "مباحثات دمشق"، لكنها لم تفشل تماماً. كل ما جرى ان ثمراتها أودعت ثلاجة الحفظ لجنيها مرة أخرى في الوقت المناسب. الاسبوع المقبل: الحلقة الخامسة عشرة